جرجس شكري: شعرية الأشياء

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 د. مصطفى الضبع

تنتمي قصيدة جرجس شكري إلى نوع من القصائد لا تنشغل بالطرب بوصفه موسيقى خارجية أو داخلية تفرض نفسها على متلقيها فتأخذه بعيدا عن مضمونها الفكري أو طاقتها التصويرية ، قصيدة لا تطالبك بالتمايل عند القراءة أو الإنصات للموسيقى التي تمنحك بعض الهدوء الداخلي، وإنما هي تجربة تمنحك القدرة على تحريك العالم الذي تدركه داخلك وتعيد اكتشاف ما تراه خارجك، قصيدة تنتمي إلى تجربة شعرية جديدة أعلنت عن نفسها نهاية الألفية الثانية وطرحت نفسها بقوة بداية الألفية الثالثة.

لم يتعجل جرجس شكري التعريف بقصيدته (تمتد معرفتي به إلى منتصف الثمانينيات في جامعة سوهاج، كان طالبا في كلية التجارة، وكنت طالبا في كلية الآداب، وكان طالب التجارة قارئا نهما، وهو ما انعكس على تكوينه الشعري لاحقا وكان عاملا دالا على تجربة شعرية تدرك طريقها إلى العمق وتمنح نفسها فرصة النضج على نار هادئة).

سداسية شعرية شكلت تجربة جرجس شكري بدأت بمجموعة شعرية قدمته بما يليق برؤيته الشعرية، وكشفت عن مساحات العمق في تجربة توالت نصوصها في السنوات التالية:

  • بلا مقابل أسقط أسفل حذائي الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة 1996.
  • رجل طيب يكلم نفسه – دار شرقيات – القاهرة 1998.
  • ضرورة الكلب في المسرحية – الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة 2000.
  • والأيدي عطلة رسمية – دار شرقيات – القاهرة 2004(ترجم للألمانية 2006)
  • تفاحة لا تفهم شيئا – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 2012.
  • أشياء ليس لها كلمات – آفاق للنشر والتوزيع – القاهرة 2017.
  • ترجم شعره إلى الألمانية والإنجليزية والفرنسية والهولندية والسويدية والكاتالونية، وصدر له “ما تبقى منا لا يهم أحدا” مختارات شعرية باللغة الألمانية، ط دار سابون، سويسرا، عام 2004.

إن التوصل إلى نظام الشعرية لدى شاعر ما لا يتوقف عند مجرد اختبار الخيال أو التصوير أو محاولة الوقوف على ما يطرحه نصه من تشكيلات شعرية، وإنما يكون الوقوف على مجموعة من العلامات اللغوية وكيف يشيد الشاعر منها مساحة شعريته، ومدار تجربته، وكيف يكون بإمكانها إقامة عملية اتصال ناجحة مع متلقيه.

في قصيدة النثر لا تبحث عن موسيقى ظاهرة ولا عن صورة جزئية يمكنك الاكتفاء بها أو اقتطاعها من سياقها، فالنصوص في الديوان، جملة شعرية متصلة التفاصيل، متداخلة الصور، مترابطة الأفكار بحيث يكون على المتلقي مكاشفة التفاصيل وصولا إلى خطاب الشاعر دون تجاوز ما هو دال في سياق الخطاب الكلي.

في قصيدة النثر لا تبحث عن اللغة المعجمية التي قد تجد معناها في معاجم اللغة وقواميسها، فأنت في مواجهة لغة دلالية، لغة في جانبها الدلالي لا تأخذك للمعجم بقدر ما تأخذك إلى عمق المساحات التي تصورها القصيدة لصالح التجربة الإنسانية، تلك التي لا تتوقف عند التعبير عن حالات الإنسان حين تشتعل مشاعره، وإنما تعيد تشكيل المشاعر الإنسانية وفق علاقتها بالعالم والأشياء.

“أشياء ليس لها كلمات “

من جملة شعرية طويلة، متعددة الفقرات والصور تتشكل القصيدة الأولى المحتفظة بمحوريتها كونها تتضمن عنوان الديوان وكونها تمنح قدرا من الدلالة للنصوص جميعها، وعلاقة العنوان بالنصوص تشبه علاقة العنوان بالمتلقي فكلاهما يبحث عن طرائق إكمال نقص العنوان وملء فراغات التركيب الذي جاء في صيغة مبتدأ موصوف يستهدف خبره ذلك المبثوث في النصوص وتفاصيلها مما يجعل من العنوان شعلة تضيء النص أو هالة من النور تحيط النص في مجموع قصائده، فتكشف كثيرا من مقدراته، قدرا أكبر من مخبوء دلالاته:

  • يحملونَ أشياءً ثقيلةً لا يراها سِواهم“.
  • يهمسُ بأشياءٍ يضحكُ منها الجمهورُ “.

الأولى تحيل إلى دلالة مادية عبر وصفها بالثقيلة، والثانية تحيلها إلى مادة صوتية وهو ما يعني توسيعا لدلالة المفردة في جانبها التصويري، ذلك الجانب الذي يوجه إليه الشاعر متلقيه وقوفا على العلامة الشعرية في قدرتها على تحريك متلقيها بين مجموعة من العلامات الدالة والمؤثرة في تشكيل النص ، والمتلقي في متابعته الصورة لا يقف عند ذات واحدة تتحرك عبر الصورة وإنما يتابع مجموعة من البشر أي دائرة أوسع من ذات الفرد مما يعني اتساع دائرة التأويل لتشمل الذات حين تكون داخلة في زمرة الذين يحملون الأشياء الثقيلة وعندها يتحول الصوت الراصد إلى سارد مشارك في الحدث .

تستهل القصيدة اشتغالها الدلالي بعلامة زمنية مفتوحة ” حين” ([1]) بوصفها علامة زمنية لا تحيل على زمن محدد مطروح على الوعي ، وتتكرر العلامة (حين) خمس عشرة مرة في الديوان منتجة استراتيجية للزمن المنفتح ، ومؤسسة لحدث يعلن عن حدوثه مستقبلا ، مع قابليته للتكرر على مستوين : مستوى أولي في نطاق النص المطروح عبر ديوان الشاعر وهو تكرار بصري يتجلى للمتلقي خلال رحلته مع النص، وعلى مستوى ثان في نطاق احتمالية تكرار الحدث هناك خارج النص حيث يعمل تخييل المتلقي على الربط بين الأحداث داخل النص واحتمالية حدوثها أو توقع ذلك ودلالته على لحظة إنسانية معيشة خارج الديوان، وحيث المتلقي يكون في حالة حركة دائبة ودائمة بين قطبين : النص والواقع ، في إحالة النص للواقع ، والواقع والنص في تمثيل النص للواقع أو حضور الواقع في النص وفرضه مرجعياته على تفسير النص :

“حين يصلُ الصباحُ على عربةٍ يجرُّها الموتى

  يصلُ باكياً، وتسقطُ عيوننُا على الأرضِ”.

استهلال يتشكل من أربعة أفعال وأربعة فواعل في صورة واحدة: يصل (الصباح)– يجرها (الموتى) – يصل (الصباح)باكيا – تسقط (عيوننا) ، الرباعية تقيم إيقاعيا سيمفونيا يتدرج من الفعل الأول إلى الأخير  ، فيما يتكرر فعل الوصول وتترتب عليه أحداث تتطلب حدوثه لتنجز عملها ، والصباح الذي يصل باكيا يفرض سطوة شجنه على مشاعر الجميع هؤلاء الذين يحملون مشاعر تمنحهم القدرة على إدراك طبيعة الوصول ومن ثم يكون ردة فعلهم التقوقع في سقوط نظرتهم على الأرض ، مما يجعل وصول الصباح مخالفا لتوقع حضوره التقليدي ومخالفا رمزيته التقليدية بما يحمل من معنى التجدد والميلاد الجديد.

بلاغيا يتحدد دور العلامة اللغوية “عيوننا” في سياقها بوظيفتين:

  • مجاز مرسل عن الدموع علاقته الآلية حيث أطلق العيون وهي آلة الدموع وأراد الدموع، ويكون المعنى أقرب للخيال الشعري منه للخيال الشعبي أو السائد ثقافيا.
  • كناية عن الأسى والأسف حيث طأطأة الرأس تعني الأسف على حدث ما، ويكون المعنى أقرب للنسق الاجتماعي المعروف.

“حين يسرقُ الآخرونَ حياتَنا

ويلبسون وجوهَنا في وضح النهار.

حين نموتُ برصاصةٍ طائشةٍ

ضلّتْ طريقَها بمحضِ إرادتها.

حين نأكلُ طعاماً رخيصاً

وننامُ في شوارعَ خائفةٍ”.

ست عشرة مرة تتكرر مفردة البيت بوصفها علامة لا تقف عند كونها داخلة في سياق نصوص الديوان، وإنما تستقطب داخلها مجموعة من الدلالات الاجتماعية والنفسية والثقافية، في ثلاث صيغ تتكرر المفردة: معرفة بأل (سبع مرات) – مجردة من أل (مرتان)، ومضافة للضمير (سبع مرات)، وهو ما يعني مستويين للدلالة:

  • مستوى التساوي الدال على التكافؤ بين التعريف بأل والتعريف بالإضافة، وهو ما يعني دلالة المعرفة، معرفة الشاعر ومعرفة المتلقي بما يعنيه البيت في مستوى الدلالة الأول.
  • مستوى التفاضل حيث تتفوق الصيغة الأولى بما تحمله من دلالات تصويرية على الصيغة الثانية بما تحمله من خصوصية ، فإذا كانت الإضافة لضمير المتكلم تدخل المتلقي في دائرة الخصوصية ، فإن صيغة التعريف توسع من دائرة التلقي لتخرج الوعي الإنساني من دائرته الضيقة على دائرة أوسع فالذهن الذي يحيل صاحبه (المتلقي) إلى مساحة خصوصيته (بيته بالأساس وما يعني له من دائرة خصوصية ) يعمل وفق حركة أوسع حين يتجاوز الدائرة الضيقة لدائرة أوسع قد تكون الوطن وقد تكون دائرته الإنسانية التي تجمعه بأبناء وطنه أولا وجنسه ثانيا ، وهو ما يدخلنا إلى نطاق المفردة في دلالتها المتعددة القائمة على سياقات الحلول المختلفة عبر الديوان ، فإذا كانت المفردة تحيل في ست مرات على البيت المعتمد على مرجعية ثقافية يسهل رد الدلالة إليها ، فإن مرة واحدة تكاد تكون تأسيسية ، أدرجها الشاعر بوعي كامل بوظيفتها في سياق الديوان بكامله ، حين يقول الشاعر :

وإلى اليوم

لم يعرف أحدٌ طريقَ البيتِ” .

يكون للمفردة دورها الأوسع والأعمق في الإحالة إلى بيت له مواصفات خاصة ، بيت لا يعني حيزا من الفراغ أو حيزا من الألفة ، وإنما تطرح المفردة دلالة وجودية ، والشاعر حين يطرح التفاصيل السابقة مرسخا إياها في وعي متلقيه ثم يدرج علامة زمنية زلقة ، متجددة مع التلقي ومستمرة على امتداده في تجدده زمانا ومكانا ، فالمتلقي اليوم ومتلقي الغد ومتلقي المستقبل البعيد حين يستخدمون العلامة ” إلى اليوم” فهم يوسعون من مساحة الزمن التي ينص عليها الشاعر ، مما يجعل تجدد التلقي يعني بالضرورة تجدد نفي المعرفة ، معرفة الطريق إلى “البيت” بكل ما تحمله المفردة المكانية من دلالات ، حيث البيت يعني المعرفة بالمكان ، ويعني الأمان والتحقق والوجود مع الآخرين في نوع من التآلف ، وهو ما يرسخ دائرتين تتأسسان على المفردة ، تتغيران بتغير نوع أداة التعريف التي تحتمل:

  • أل العهدية في دائرة علاقة بين اثنين (البيت الذي تعرف والذي سبق لنا إدراكه والوعي به)، وهي القراءة المؤسسة على معرفة تقوم على مرجعية ذاتية بالأساس.
  • أل التعريف المنتجة دلالة أوسع والطارحة الدلالات الأوسع للبيت بوصفه رمزا يحتضن كثيرا من الدوال المحيلة إلى الوطن والكون والآخرين ممن يمثلون الحضن الإنساني أو يمثلون شكلا من أشكال الاحتواء أو يمثلون عمادا من أعمدة الحياة:

لا تتركني أبداً، فماذا أفعلُ بدونك؟

فلو أنك ذهبتَ سيسقطُ البيتُ

فسقوط البيت يطرح ما هو أوسع من مجرد الإشارة إلى حيز يعيش فيه الإنسان وإنما هو دال يتسع لكل معاني البيت وما تطرحه مجموعة الرموز.

الأشياء في شعريتها:

خلافا للسرد الذي يرصد الأشياء في صمتها مالم يدخلها في حواره لا يطرح الشعر الأشياء في حالة من التزام الصمت، ومجرد وجودها في سياق نص ما فإنها تعلن عن نفسها، وعن حضورها الدلالي، فما كانت لتوجد هنا دونما وظيفة شديدة الدلالة، وما كانت لتزاحم غيرها من علامات اللغة دونما مسوغ لذلك، ودونما إعلان عن أحقيتها في هذا الحضور.

يمكن تصنيف الأشياء إلى نوعين:

  • أشياء تخص الذات وتنتمي لعالمه: لا تستقل في وجودها وتكون بمثابة الضمير المتصل الذي لا يحقق وجوده دونما ارتباطه بالذات، وفي هذه الوضعية يكون للأشياء طابعها السردي كاشفة عن أبعاد اجتماعية ونفسية واقتصادية للشخصية:

” طردوا أثاثَ البيتِ 

الكرسيَ والطاولةَ وإبريقَ الشايِ

وقالوا:

ليَكنْ فراغاً

يليقُ بكلِ حالٍ

وَوِفْقَاً لوصيتِه

وزّعوا أغراضَه

قبلَ أن تشرقَ الشمسُ

إذ شُوهدَ الحذاءُ يركضُ بعيداً

أمَّا قميصُه فكان يعرفُ

من يستحقُّ”.

تنتمي الأشياء بداية من البيت ومافيه وحتى القميص إلى أصحابها مما يجعل منها علامات على وظيفتها للشخصية وعلاقاتها المنسوجة بين المالك (الذات) والمملوك (الأشياء ) والأشياء تكشف عبر العلاقة قدرا كبيرا من خصوصية الذات في امتلاكها الأشياء المتحققة قبل وجود الإنسان أو الموجودة بعد وجوده ، والداعمة لوجوده حين يستخدمها أو يعتمد عليها أو يدير بها حياته ، تحمل الأشياء قدرا من التاريخ الخاص بعلاقتها بالذات ، فالقميص يحمل قدرا كبيرا من الدلالة الرمزية المستدعاة عبر التاريخ (قميص يوسف في دلالاته المتعددة والممتدة عبر الزمن وما يحمله من معان تخص العلاقات الإنسانية ، علاقة الأخوة نموذجا) ، الأشياء هنا مطروحة بوصفها مفعولا به يمارس الإنسان عليها فعله (كما في فعل الطرد عليها مثلا حيث تكون الأشياء مطروحة بوصفها نظاما لغويا تابعا للإنسان )

  • أشياء تخص الصورة: ولا تنتمي لذات بعينها بحيث يكون حضورها مستقلا، وتكون بمثابة الضمير المنفصل عن الذات يشير إليه دون أن يكون له الانتماء المباشر له، طارحة علامة من علامات التحرر من اقتياد الإنسان لها وإجبارها على الانصياع له:

“وفي تلك الأيام       

لم يكنْ الكَذِبُ كافياً

فاحتاجوا قَدْرَاً كبيراً من الكلماتِ

الملونةِ 

حتى يَصِلُوا بسلام .

فجميعُ الطاولاتِ عامرةٌ بالألم

وضحكاتُهم  تَصْعدُ عالياً

 دونَ حواجزَ “.

حيث الكلمات والطاولات والحواجز تعمل بمعزل دلالي عن الذات كاشفة عن نفسها وعن انفصالها عن الإنسان واقفة في المواجهة، منتجة مجازاتها الخاصة ونظامها اللغوي الخاص حيث لا يقع عليها فعل الإنسان وغنما تصبح هي فاعلة بذاتها ودالة أيضا على نفسها وعلى ما تطرحه من تفاصيل الصورة لدرجة تكون فيها قادرة على منازعة الإنسان فعله حالة محله فيما يمارس ، مستعيرة بعض ممارساته “ الطاولاتِ عامرةٌ بالألم” ، و الزمن في شيئيته يمارس دوره فاعلا لا مفعولا به مستوليا على دور الإنسان نفسه في إدراكه للأشياء عبر مراقبته لها :

ثم رأينا الزمنَ يراقبُنَا

ويهزُّ رأسَه ساخراً

من أنقياءِ القلبِ ” .

وفعل المراقبة يمتد إلى  حضور النافذة بوصفها نموذجا لما ينفصل من أشياء ، ونظاما من المراقبة والاكتشاف.

النافذة

سرديا قد تمثل النافذة مكانا لاكتشاف العالم (قد يحوله السارد على مكان لاستبطان داخل الشخصية أكثر مما هو مكان لاكتشاف الخارج)، شعريا تمثل النافذة مجالا للانعتاق من فضاء الذات هروبا إلى فضاء مغاير

“أما يدي اليسرى،

أعرفُ أنَّها تُفضّلُ البقاءَ عند النافذةِ

ربما تفعلُ شيئاً ضِدَّ العالمِ”

البقاء عند النافذة ليس مقصودا لذاته وإنما هو لمجابهة العالم عبر الفعل المضاد له أو الفعل الذي ترى أنها تفعله لتقول كلمتها ضد العالم، ذلك الفعل الذي يبقى مفتوحا دون تحديد

والنافذة تمارس فعلها المنفصل قائمة بدورها لتكون حلقة وصل بين عالمين: الداخل والخارج، متجاوزة هذا الدور تعبيرا عن استقلالها بفعلها كاشفة عن نقطة انطلاق حيوية تكون فيها فاعلا “تسقطُ النوافذُ على الأرضِ” ، وتمنح الأشياء الأخرى قدرتها على الفاعلية : ” يطلُّ الخوفُ من النافذةِ ” ، مدركة أنها تقف هناك في مواجهة من يرصد حركتها ليدرك حقيقة وجودها .

من يرى الأشياء: يمرر الشاعر رؤيته عبر الأشياء، فتبدو الأشياء التي نعرفها ونعايشها شكلا جديدا أو مساحة جديدة للتصوير تجعلنا نشاهدها وهي تجتهد في تقديم نفسها عبر حالة تأتي فيها محملة بكل معارفنا عنها لا لتؤسس وظيفتها عليها وإنما لتغادر هذه الوظائف المتداولة إلى وظائف أخرى تتأسس على أوضاعها الجديدة في سياق النصوص، منتجة وظائفها الخاصة بكل نص معلنة إنتاجها مجالها الحيوي القادر على تقديمها بصورة أكثر دلالة وأقوى تأثيرا.

يوظف الشاعر مفردة الزمن توظيفا مجازيا يغادر كونها علامة لغوية على مساحة من وعي الإنسان بوجوده في المكان والزمان، ترتفع المفردة إلى مستوى المجاز عبر وظائفها الخيالية

وفكّروا في آلةٍ تحفظُ الزمنَ / ثم رأينا الزمنَ يراقبُنَا / والزمنُ يسهرُ يحرسُ ضحاياه / ويؤكدُ أنَّ الزمنَ في رحلةٍ / فيعبرُ الزمنُ أمامَ عيني / رياح الزمن / يرشو الزمنَ بدخانِ سجائرِه

على مدار الديوان تتوزع المفردة صانعة مجازاتها، وفي مقدمتها كونه مجازا متعدد الدلالات، تلك الدلالات المنبنية على حركة المفردة بين عدد من المواقع (مفعول به – فاعل – مبتدأ – اسم أن – مضاف إليه …..) مما يؤسس لدلالات تتعدد بتعدد المواقع تعبيرا عن حركة الزمن وهو ينزلق ويتغير ويواجه الإنسان بقدراته الدالة التي تؤسس بدورها لعلاقة الإنسان بالزمن ووعيه بحركته، ذلك الوعي الذي يدل عليه منظور الشاعر أو منظور الصوت السارد المتوسط بين الحدث والمتلقي ناقلا بطريقة البث المباشر أو البث من موقع الحدث صورة تعمل على تأويل الواقع في مواجهة الذات التي تتابعه منتظرة نتيجة حركته.

يربط الشاعر بين  الزمن والحقيقة التي يدعوك الشعر للبحث عنها ، حقيقته هو أولا من حيث هو دال مستقل بذاته قادر على بث رؤيته، تفهمه عبر مرجعيات تأتي من العالم، وتفهم العالم عبر تأويلات يمنحنا الشعر القدرة على التوصل إليها لاستكشاف العالم عبر مساحاته الغائمة ، حيث حركة الإنسان معنية باكتشاف مايراه حقيقة تخص وجوده (بلفظها المباشر يتكرر ورود الحقيقة أربع مرات، يمكن رؤيتها بمثابة الإشارة إلى الحقيقة بمعناها المجازي الأعمق فليست المفردة في سياقها سوى إشارة إلى ما وراءها من الدلالات الكبرى، تلك الدلالات التي تتشكل في وعي المتلقي عبر متابعة النظام المجازي للنصوص مجتمعة لتشكيل حقيقة وجودها ومن ثم فاعليتها

الأسطورة

من رحم الواقع يولد المجاز بوصفه تعاليا نصيا على الواقع الذي يدركه الجميع أو يستطيعون إدراكه بصريا، خلافا للمجاز الذي ينتخب مدركيه، فالمجاز نخبوي في بنائه ووجوده وتحقيقه خطابه، ومن رحم المجاز تولد الأسطورة بوصفها نظاما لتفسير الواقع وتحقيقا لمساحات الغموض فيه، أسطورة النص الحديث لا تعني مقاربة مفهوم الأسطورة التقليدي من حيث هو تجاوز للمنطقي أو خرقا لما هو عقلي، تتسلل الأسطورة لنصوص الشاعر معلنة عن نفسها في صمت ، ومحققة وجودها دون صخب ، ومعالجة خطابها دون صوت يعلو على صوت النص لدرجة قد لا يشعر المتلقي بوجودها ، تنساب في عمق النص مرتكزة بين تفاصيله ،

في قصيدته ” مشاهد من حياة رجل بار” تتشكل مادة القصيدة من ستة مقاطع ، يغلب عليها الطابع المجازي من بدايتها المعلنة عن حضور السارد الذي يأخذنا إلى منطقة عمله مباشرة :

وأنا أقرأُ أشعاري يخافُ جسدي 

كأنه يؤدى مشهداً في مسرحية

 يلعبُ فيها كلَّ الأدوارِ

روحي تطلُّ من عيوني خائفة ً ” حيث يقام المشهد على مزيج من الاستعارة والتشبيه في قدرتهما معا على الارتفاع من مستوى الواقعي إلى مستوى المجازي ، حتى المقطع الرابع ، حيث يتجاوز الشاعر منطقة الحقيقة / الواقع منطلقا إلى منطقة مغايرة :

“وذاتَ مساءٍ

 هربتْ الحقيقةُ من بيتي

 فلم أَعُدْ كما كنتُ أبدا” تتمركز الاستعارة في منتصف الصورة، بين علامة زمنية (مساء) وعلامة صريحة على التغير (لم أعد كما كنت أبدا)، والاستعارة تكون بمثابة الرابط بين الزمن والتغير، فالزمن يدفع الحقيقة للهروب، والهروب بدوره يكون سببا في التغيير، والصورة بكل تفاصيلها تمهد لظهور الأسطورة بعدها بقليل:

” لقرونٍ خَلَتْ

 وأنا أبنى البيوتَ،

أرفعُ الحوائطَ إلى أعلى

أُصْلِحُ السياراتِ،

أَخْبِزُ الأرغفةَ،

ودائماً ما كنتُ أعودُ إلى فِرَاشي،

 أُفكِّرُ في رجلٍ قليلِ الإيمانِ

عاشَ وماتَ في ليلةٍ واحدةٍ “.

يلعب الزمن لعبته الأسطورية في بداية الصورة ” لقرون خلت” تلك العلامة التي تمنح النص أسطوريته، فالمشهد بالكامل يخلو من المجاز، مانحا الفرصة للأسطورة فالقرون في حضورها ليست مجازا ولا هي نوع من المجاز أو الاستعارة أو التشبيه، ولكنها إشارة أسطورية تتأكد فاعليتها إذا ما رفعناها من السياق فإنها تحيل على صورة حاضرة تفقد كثيرا من قيمتها الشعرية والدلالية ، و هو ما يفرض نفسه على بقية المشهد مانحه قدرا من الأسطورية فالقرون الطويلة التي تظل الذات فيها قائمة بعمل دال يتكشف عبر الأفعال الدالة في المتوالية النصية (أبني – أرفع – أصلح – أخبز ) تلك الرباعية ماهي إلا تأكيد للفعل الأسطوري أو لفعل الذات في أسطوريتها ، والذات هنا تصنع أسطورتها تعويضا عن تهميش الواقع لها  ، أو شعورها بالتهميش ، فالذات – مثلا- تأكيدا لهذا المعنى لا تعتمد ضمير المتكلمين بوضعيته الجماعية أو بطرحه لجماعية الصوت ، وإنما تعزف الذات صوتها المنفرد تعبيرا عن نفسها ووقاية لنفسها من الفقد ، لذا يستمر فعلها الأسطوري زمنا طويلا (قرونا) قاطعة مساحة الزمن من القرون الخالية حتى اللحظة الحاضرة حيث يضعنا الشاعر في حاضره / حاضرنا جاعلنا نتوحد مع الذات ، ذاته التي تتحدث بلساننا أو تجعلنا لسانا لها :

“واليومَ ،

أجلسُ في ركنٍ بعيدٍ ،

أُساومُ الكلماتِ ،

 أراقبُ اليومَ الذي مَضَى

وأنتظرُ يوماً أخرَ ،

فيعبرُ الزمنُ أمامَ عينىَّ

ثُمَّ يهمسُ في أُذنى :

لا تتجاوزِ الحدَّ ”

تنتقل الذات من حال الفعل إلى حال الوصف للحاضر في النظام البديل ، حيث يعود الشاعر للمجاز معلنا مضي الأسطورة الفاعلة مؤكدا على قيمة الفعل الأسطوري مقارنة بالفعل المجازي الحاضر الذي يتشكل من رباعية أفعال  حاضرة في مواجهة رباعية أيضا في المشهد السابق الذي يغلب على أفعاله الإنجاز لصالح الجماعة ، ذلك الإنجاز المدرك بصريا ، والملموس حسيا:(أبني – أرفع – أصلح – أخبز ) ، في مواجهة أفعال في صالح الذات، وتبدو أقل فاعلية بالنسبة للجماعة البشرية: (أجلس – أساوم – أراقب – أنتظر ) ، وللمتلقي المقارنة بين مجموعتي الأفعال جملة ، والمقارنة بينها تفصيلا (حيث يمكن لكل فعل منها أن يقارن بنظيره في الترتيب على النحو التالي :أبني / أجلس – أرفع / أساوم – أصلح / أراقب – أخبز / أنتظر ) كشفا عن تغير واضح في الفعل الإنساني المنتج مما يعني تخليا عن الإنتاج لصالح الجمود والثبات على حالة من الكسل  .

تجربة شعرية يليق بها بث طاقتها عبر توظيفها الأشياء وقدرتها على إنتاج دلالتها النصية من أبسط عناصرها، منتجة عمقها وقدراتها المعرفية وما تتغياه من إنتاج وعيها بواقع تحسن التعبير عنه،  كاشفة عن مساحاته الدالة.

………….

هوامش وإحالات

[1] – ورد في لسان العرب: الحِينُ: الدهرُ، وقيل: وقت من الدَّهر مبهم يصلح لجميع الأَزمان كلها، طالت أَو قَصُرَتْ، يكون سنة وأَكثر من ذلك، وخص بعضهم به أَربعين سنة أَو سبع سنين أَو سنتين أَو ستة أَشهر أَو شهرين. والحِينُ: الوقتُ، يقال: حينئذ.

والعلامة الزمنية ” حين ” استخدمها الشعراء على مدار تاريخ الشعر العربي آلاف المرات، ومن ابرز مستخدميها ابن الرومي (وردت في شعره 437 مرة) .

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (22)