أسماء محمد
تلقيتُ مكالمة من صديقى “نوح” يرجونى أن أعرُج عليه بعد الظهيرة لمساعدته فى تهذيب شجيرات البرتقال على حدود حديقته، استدل من صوتى على مزاجى السىء. أخبرنى أن رائحة الحمضيات المذهلة ستصيبُ قلبى إحياءً، كما أن “إسكندر” سيمر به أيضاً.
ارتديت ملابس الأمس وقبل الأمس ذاتها وغادرت حجرتى على مضض، توجهت نحو القرية، كان الجو يشوبه كثير الحرارة، كنت أبدو وأنا اجتاز أزقة القرية الضيقة بجانب الأسوار الحجرية غير مرتب وهمجى كراعى أغنام أو أفضل قليلاً، عبرت على المخبز ابتعت شطيرة مذاقها سىء بما تبقى معى من نقود، عندما بلغت منزل “نوح” كان قد تبقت حصة قذفتها نحو كلب مشرد على جانب الطريق، دخلت من البوابة، وجدته متسلقاً السلم الخشبى ممسكاً بالمقص، كان قد بدأ بالعملية، ألقى علىّ التحية، وأخبرنى ان أذهب إلى المخزن خلف المنزل بجوار آخر سور الحديقة واجلب المقص الآخر.
كان مخزنه مرتبا ومنظما أكثر من داخل منزله، الفوضوى، كنت أعجب لذلك، كان يبدو كما لو كان قاطن المنزل هذا بستانى خبير، لم أجد مقصا كالذى بيديه، جلبت أداة ما وعدت إليه، أخذ يضحك بشدة حتى اختل توازنه وكاد أن يسقط، لأنى كنت أحمل مسلفة العزق كما قال، ولم أكن أعلم ماهى.
أخبرته إنى أفضل أن أصاب بالجدرى وألزم فراشى على أن أكون مختلاَ مثله مهووسا بالهراء هذا. كان قد انتظر ثلاث سنوات حتى أثمرت شجيرات البرتقال، كان يرعى الشجيرات بتأن وإخلاص وكأنها حبيباته. لا أنكر، أحبهم أنا الآخر، وأحب جمال الرائحة، كانت نفاذة وقوية بالمعقول حتى أنى تحمست بعض الشىء، تمكنت من العثور على شوال النشارة، هذه المرة اتبعت تعليمات “نوح” على نحو صحيح، نثرت نشارة الخشب حول الشجيرات بإمعان لتظل التربة رطبة وقت أطول، من أجله.
كنا على وشك الانتهاء حتى قدم “إسكندر”، كان غاضباً ونزقاً، ولكن لم يفسد ذلك مظهره المهندم الأنيق على نحو ثابت، كان الأكثر تنقلاً بيننا بين الوظائف ولكن دائماً أنيق. ألقى تحية مقتضبة، جلس تحت الشجرة على يسار سلم “نوح”، لم يلقى بالاً بالتقدم الذى أُتَم، ألقى تعليقاً او إثنين حول البرتقال والطقس ورتابة الوضع فى المدينة، وهو يفرك راحة يده فى قلق وتململ، سألته عما به، قذفه “نوح” ببرتقالة على رأسه قبل أن يبوح، ضرب “إسكندر” السلم بذراعه، سقط “نوح” فوقه، تبادلا اللكمات والسباب، هدده “اسكندر” بحرق حديقته اللعينة، ومضاجعة أمه فى المخزن فوق طاولة العدة.
كان “نوح” دائماً الأكثر مراوغة وسرعة، يعلم جيداً أن “اسكندر” متفوق جسدياً لديه ذراعان وقبضة قوية، إلا أن إيقاعه بشكل عام متنافر ومشوش، تمددت على العشب، متطلعاً بنصف عين إلى السماء، كنت أتمنى لو تصيب الشمس وجهى الشاحب بشىء من اللون كالذى زهر به وجه “نوح”، صرخت فيهما “إيه، أنا جائع. اللعنة توقفا!”، اعتدل “نوح”، أخذ ينفض عنه ما بلغه من غبار وأوراق شجر ذابلة، ويسوى خصلات شعره الفاحم فى حركات بطيئة خبيثة، ثم توجه إلى الداخل، أحضر خرقة مبتلة قذف بها تجاه “إسكندر” الذى شرع على الفور فى تنظيف وجهه وذراعيه، وأحضر أيضاً بعض شرائح اللحم، كانت قد اختلستها جارته من محل زوجها الجزار، كانت مغرمة بـ”نوح” أشد الغرام، كانت قد تخطت الأربعين ببضعة أعوام، ممتلئة القوام، كان يقول أنه لا بأس بها، فهى ليست سيئة كما تبدو.
جلسنا نأكل سوياً، لاذ الصمت لفترة، ثم شرع “اسكندر” فى الحديث، قريب لصاحب الحانة التى يعمل بها، افتعل معه عراكاً من أجل جولة مقامرة ربحها “إسكندر”، وتسبب فى طرده، توعده “اسكندر” بعراك هذه الليلة عند الميناء الغربية، أخبره القريب أنه سيسعد هو وأصدقائه بمضاجعته على رصيف الميناء، وأن يحضر رجاله. بطبيعة الأمر العراك لا يتم برجلين فى المدينة. صاح به “نوح” غيظاً فقد كانا استهلكا طاقتهما فى واحد للتو، ثم أخبره أن يذهب ويجلب بعض الشراب، فهو يريد جسده خدرا عندما يٌنكح الليلة. أحضر”إسكندر” الشراب وأعطى لكل واحد زجاجته، كانت قد لطفت ملامحه وسكنت ثورته جزئياً، رفع خاصته واقترح أن نشرب نخب عراك الليلة، نخب عاطلين من أصل ثلاثة، ونخب البرتقال، ضحكنا بشدة دون توقف كنا فظيعين. ثم فكرت لثوان “أحب هذ اللحظة…أحب وجودى هنا..مستعد أن أُبرَح ضرباً كل ليلة فى سبيل لحظات كهذه”.