نافذة

تشكيل
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد ممدوح عبد السلام

كنت أبحث عن نافذة كبيرة وقديمة لحجرة جلوسنا المطلة علي الشارع، فلم يكن معنا مع يكفي من النقود لنشتري واحدة جديدة. تجوّلت في الشوارع الخلفية عند باعة الأشياء المستعملة. رائحة الخشب تعبق المكان فشعرت بالاختناق. بمرور الوقت تآلفتُ مع الأشياء حولي سائراً ببطء كأحد الأبطال في فيلم سينمائي. 

لفتت النافذة انتباهي في عمق محل مظلم بطلائها الأبيض الذي تساقط بعضه. لاحظ البائع اهتمامي فباعها ـ علي غير المتوقع ـ لي بثمنٍ بخس وقال كلاماً عابراً عن أنها كانت جزءاً من فيلاّ تهدّمت يعود بناءها إلي ثلاثينات القرن الماضي. لم أهتم بتاريخ النافذة ورأيت أن البائع اتخذه وسيلة للتدليل علي أصالة ذوقه.

أعدت طلاءها باللون الأبيض وبطّنت الشيش ـ له رائحة القهوة ـ بكيس سميك أزرق اللون حتي لا تتسلل الأتربة من عيونه المفتوحة إلي الداخل. بدت النافذة من الخارج كجسم غريب وسط واجهة الحجرة الإسمنتية فالتقط لها أحد المارة صورة بهاتفه، ولعراقة مظهرها طلب مبلغاً من المال فأخبرته أنني علي فيض الكريم. أمسح النافذة بخرقة كل يوم مانعاً الأولاد قدر استطاعتي من اللعب أسفلها، وكلما فتحت ضلفتها اليمني لتهوية الحجرة تتراجع ضلفتها اليسري حتي تلامس مفتاح مروحة السقف المعطوبة. حشرتها بورقة إلاّ أنها أصرّت علي الرجوع إلي الخلف فأهملتُ نظافتها وسمحت للأولاد باللعب أسفلها.

فسّر البعض حركة الضلفة اليسري تفسيراً طبقياً اعتراضا منها علي المشهد المتواضع الذي تطل عليه، بينما رأوا في ثبات الضلفة اليمني واستجابتها ليدي دليلاً علي أنها ليست جزءاً أصيلاً من النافذة، فاتخذوها فرصة لتجريد واجهة الحجرة ـ وربما بيتي ـ من الميزة الوحيدة التي تباهيت بها. انتزعت النافذة من مكانها وذهبنا بها إلي الشوارع الخلفية. وضعتها أمام عجوز يستطيع الحكم علي أصالة الأشياء وبيان زيفها. جاء حكمه في صالحي فدفع لي الخصوم ـ حسب اتفاقنا ـ المبلغ المتفق عليه فتبرّعت  به لصالح مسجد قريب من البيت إمعاناً في إغاظتهم.

فتحت الضلفة اليمني فتراجعت اليسري إلي الخلف قليلاً متوقفة في المنتصف دون أن تكمل حتي مفتاح مروحة السقف المعطوبة. حفظت النقطة التي توقفتْ عندها في الفراغ. انهكمت في استذكار دروسي فوق منضدتي الخشبية، وفي الخلفية ـ أمام عتبة بيت في الجهة المقابلة ـ كان الأولاد يركلون الكرة في حائط بيتهم وأسفل نافذتي. يثيرون الغبار ويتبادلون الشتائم بأسماء أمهاتهم التي كنت أجهل بعضها. زعقت فيهم وتوعدتهم بالضرب. انصرفوا باستثناء الولدين اللذين جلسا فوق عتبة بيتهم يفردان أوراق اللعب ويتبادلان الاتهامات فيما بينهم همساً اتقاء غضبي. تراجعتْ الضلفة اليسري إلي الخلف فجأة فصدمتني في رأسي بسنها المدبب. أطلقت آهة ضحك عليها الولدان في هيستريا، وكلّما أعدت الضلفة اليسري إلي مكانها أصرت هي علي العودة إلي الخلف. لم أجد تفسيراً منطقياً لتفضيلي فتح ضلفة واحدة من النافذة دون الضلفتين. الأم تزعق في الولدين من داخل البيت شبه المظلم لاختفاء طبقين وفنجان من”النيش”، والضلفة اليسري تصر علي التراجع كما لم تفعل من قبل: فقد عكستْ الطبقين والفنجان علي سطحها الزجاجي. طبعتُ قبلة فوق سطحها الزجاجي وأخرجتْ لساني للولدين من خلف حديد النافذة الصدئ، قبل أن تسحبهما أمهما إلي الداخل وتوسعهما ضرباً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

قاص مصرى

اللوحة للفنان: عمر جهان  

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

قلب

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون