أربعة جنود

قيس عمر
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قيس عمر

أربعة جنود يواصلون الحفر داخل الخندق الأرضيّ. توقفت الحرب لكنّ هؤلاء الجنود الأربعة لا يزالون يحفرون عميقاً، يحاولون النفاذ إلى صوت أحلامهم. في أثناء الحفر كانوا يسمعون هسيساً ينبعث من أعماق الأرض، وأصوات تحطّمات عظيمة محمولة على صوت الريح، فتلَ الحفرُ سواعدهم وأكتافهم وهم يعبرون طبقات ترابيّة، مواصلين الحفر ليلاً ونهاراً دون هوادة، ينزلون إلى العمق الغائر في قشرة الغياب الصّلبة. الجنود الأربعة ما زالوا يحفرون  ويغرقون في قعر حروب منسيّة ومتباعدة صحبة معاولهم، توغّلوا في الحفر وهم مأخوذون بنداءات الحروب المشتعلة من حولهم، فاتهم أن يتوقّفوا لحظةً لينصتوا لتوقّف الحرب وتهشّم خطواتها الحجريّة، كما فاتهم أن يصعدوا إلى الأعلى خارج الخندق ليشاهدوا غروب الحياة، واصلوا الحفر وخلّفوا وراءهم تلالاً من التراب الأحمر، غابوا عميقاً في الخندق الذي يحفرونه، وتقطّعت سبلُ الاتصال بهم، حاول البعضُ إرسال رسالة إليهم بضرورة التوقّف عن الحفر، لكنهم كانوا قد توغلوا عميقاً، ولم تصلهم الاشارات القادمة من الأعلى. أجساد الجنود الأربعة تواصل الحفر وتتوارى عن النظر بشكل تامّ، كان الجنود يرومون الوصول إلى رحم الأرض بحفرهم المستمر، وفي أثناء توغّلهم العميق في باطن الأرض شعروا بلزوجة تغطّي أجسادهم، استشعروا أنّ لأجسادهم حدوداً لا يمكن لها أن تتحمّل الدخول لمسافات أبعد وأعمق في باطن الأرض، شعروا للحظة أنّ أجسادهم تخذلهم في الدخول إلى مسافات أعمق، شعروا بأجسادهم تتوقف وتتجمد، تساقطت أجسادهم تباعاً في اليوم نفسه، وانسلّت منها أربعة ظلال صارت تواصل الحفر بدلاً عن أجسادهم، كانوا ممدّدين يبصرون الظّلال تواصل الحفر عنهم، حتى توارت عن أنظارهم، فيما بقيت أجسادهم مستلقية على التّراب لا تملك غير الانصات لمعاول الظّلال وهي تواصل الحفرَ بدأب كبير.

واصلت ظلال الجنود الحفر متوغلة في طبقات الأرض، تجاوزت طبقات صخرية قاسية الصلابة، تبعتها طبقات من الأغلفة المائعة، كان الحفر فيها أسهل قليلاً، واصلت الظلالُ الحفرَ حتى وصلت إلى طبقة الوشاح، وفي قعر طبقة الوشاح  كان ثمّة منحدر صخريّ حادّ، انحدرت الظّلال بخفّة إلى الأسفل تاركةً المعاول خلفها، وأطلّت على هالة متوهّجة شكّلت دوائر ضوئية متباينة وبدت مثل موشور عاكس.

توغّلت الظّلال في هالة الضياء الموشورية لتبصر تفاصيل حروب سحيقة قادمة من أعماق العالم القصيّ، كانت هناك صور تتموّج لدبابات مختلفة الأنواع والأحجام، بعضها يحترق ويتصاعد منه الدخان، وبعضها يحاول الانسحاب إلى الخلف بينما القذائف تتساقط بكثافة عالية، كانت ثمّة حرب تدور، تتصاعد منها أصوات حشرجات ترسل نداءات استغاثة متقطّعة، بعض النداءات كانت تنبعث من داخل قمرات القيادة، وتصل إلى الأعلى وهي ضعيفة وواهنة، دبابات من كلّ الأجيال، يرجع بعضها إلى الحروب الكونيّة المتعاقبة الأولى والثانية، دبابات من طراز (بانزر) و( وتايغر) الألمانيتين، ودبابات من طراز(T 34) السوفيتية التي استخدمت في (كورسك)، أكبر معركة دبابات في التاريخ.

بعد أن توغلت الظلالُ في عمق هالة الضياء، شعرتْ أن الهالة الضوئية تنقلب رأساً على عقب، اهتزت الحربُ داخل هالة الضوء، وبفعل انقلاب الصورة ارتفع كلُّ شيء وانقلب بالكامل، تداعت هياكلُ الدبابات المحترقة وخفتت أصوات الحشرجات، وسُمِعت أصواتُ انغلاق قمرات قيادة الدبابات وتوقُّفِ أبراجها عن الدوران، سكنت صورة الحرب المقلوبة للحظة، ثم بشكل مباغت تحركت صورة الحرب داخل الهالة الضوئية، لتنبثق من بين مصفوفات تموضع الدبابات ظلال أطفال يركضون حول حافة الحرب النائمة الساكنة يحملون ألعاباً بين أيديهم، دبابات بلاستيكية صغيرة ورشاشات تطلق أشعّة وهميّة، أخذت ظلالُ الأطفال تركض حول الدبابات وهي تطلق ضحكات قوية وتتدافع أحياناً بينها، بدأت ظلال الأطفال ترتقي أبراج الدبابات، وبعضها يفتح أبوابها الخلفية ويغيب في داخلها، توهجت المعركة مرةً أخرى وصارت القذائف تسقط من جديد، واهتزت هالةُ الضوء العاكسةُ صورةَ الحرب، احترقت بعض الدبابات واقتُلِعت بعضُ الأبراج من مواقعها، بينما دبابات أخرى انطلقت مغادرةً مواقعَها ومقتحمةً تشكيلاتٍ أخرى قبالتها، تصاعدت نداءات الاستغاثة ثانيةً، وسُمِعت أصواتُ حشرجات طفولية تتصاعد مع دخان الحرب، تحاول بعضُ ظلال الأطفال فتح الأبواب الخلفية للدبابات المصابة، لكنْ فاتهم أنّ الدبابات حين تتعرض لإصابة مباشرة، تنغلق الأبوابُ بشكل محكم ولا يعود بإمكان أحد الخروج منها.

        الدبابات التي خيضت بها حروبٌ متباعدة تتحطم وتنصهر تحت القصف، بينما ظلال الأطفال تهرول بين أزقة الحروب، تجوب الفراغات الموحشة بين الدبابات المحترقة، تائهة في ليل العالم، توقّفت هالة الضوء الموشورية العاكسة، وخفتت الأصوات تدريجياً، ولم يعد يُسمع غير أصوات ضحكات ظلال الأطفال مجلجلةً في الفراغات الحافّة بالحروب.

انسحبت الظلال الأربعة من هالة الضوء التي توغّلت فيها بعد أن توقّفت هالة الضوء عن التحرك، وغرقت فيها كلّ التفاصيل، الآباء وظلال الأطفال، غارت كلّ الصور في العمق السحيق للهالة، وحلّت طبقةٌ من المياه الرمادية في الهالة الضوئية، وبدت كأنها بحيرة ساكنة تضطرب وتمور، توقفت حركة المياه وطفت في أعلاها الألعاب البلاستيكية التي كانت في أيدي الأطفال، طفت الدبابات البلاستيكية وقد انتفخت وكبرت بشكل جعلها تبدو من بعيد حقيقية وصالحة لخوض حروب أخرى.

تنسحب ظلال الجنود الأربعة  إلى الأعلى، وتغادر هالة الضوء العاكسة بعد أن جمعت أصوات الآباء وظلال الأطفال، ودونتها بشكل صوري رقميّاً، وتحوّلت إلى خوارزميات معقدة تسبح في فضاء رقميّ على الشبكة العنكبوتيّة، لتكون لها مدونة خاصة حملت العنوان: (وحدهم الموتى يشهدون نهايات الحروب)، وصارت متاحة للجميع مثل لغة كونية عابرةٍ حدودَ اللغات البشرية، وقشرتها الواهنة، إنها هناك الآن صورهم، وأصواتهم وظلالهم، تحلّق بلا أمل في لحظة سحيقة، مثل ذكرى أجساد تتهاوى في فناءات حروب منسيّة.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون