بولص آدم
كان الهواء يابسًا، أصفر. صوت الأبواب الثقيلة وهي تُقفل خلف ظهري لم يكن جديدًا، لكنّه كان نهائيًا هذه المرة، نهائيًا بما يكفي ليجعل حتى الحنين مؤجّلًا.
في تلك الظهيرة النحاسية التي تدفقت علينا بحرارتها الخانقة، تمنّيت شجرة. لا واحدة قريبة، ولا وارفة، بل شجرة بعيدة فقط، لأراها ولا ألمسها. أن تظل هناك، وأن أبقى هنا. داخل هذا المكان، مجرد التمني في الشجر يُعدّ انحرافًا في التفكير. أحد الحراس قالها وهو يمضغ ابتسامة ساخرة: “حتى الورقة الذابلة لا تليق بالمذنبين.” قالها وكأن الشجر صار امتيازًا يُمنح لمن هم خارج الأسوار، وكأننا فقدنا حقنا في الخضرة، في الورق، في العطر، في أي شيء حيّ.
في أبو غريب، القضبان لا تحتكر الجسد فقط، بل تحتكر الألوان كلها، وحتى نوافذ الضوء مشروطة. قليلون منّا، نحن السجناء، من يجرؤ على التفكير بلون الشجرة. هنا، تُعامل كأنها من كماليات الحياة، بل كأنها أحد رموز الخطيئة التي نحن ملوّثون بها، ولا يحق لنا، لا ورقة، ولا ظل.
خلف قاعة تُدعى “قاعة النجارة”، احتُشدنا مثل خشب بلا وظيفة. لا أحد فينا كان نجارًا، ولم تكن هناك مناشير أو ألواح. القاعة ما عادت نجارة، تمامًا كما أن “قاعة المطعم” لم تكن مطعمًا. قاعة المسرح، لم تعد مسرحًا. فقط أسماء قديمة، معلّقة مثل نكات باردة تتكرر دون مناسبة. الأمس، في قاعة النجارة، وقعت مذبحة بين تجار الحبوب المخدرة. لم يكن جديدًا، فقط أكثر دمًا. كل شيء تمت تصفيته، وانتهى يومي المنهك بتسلق الدرجات الزيتية المؤدية إلى زنزانتي — الرقم 19.
هناك، عند تلك الزاوية التي تتكرر كل مساء، باغتتني رائحة. لم تكن رائحة دم، ولا طعام فاسد كما جرت العادة، بل رائحة غريبة، خفيفة، تشبه ذكرى. في لحظة، وجدت نفسي في ربيع قديم. كنت طفلًا في أربيل، في الصف الأول، داخل باص عمومي يمرّ من أمام مبنى مدرستي. هناك، خلف سور المدرسة، كانت شجرة يوكالبتوس عالية، كثيفة، تظلل المكان، وكنت أظنها تبتسم لي كلما مررنا. تلك الرائحة لم تكن موجودة في المكان، بل خرجت من مؤونة روحية مدفونة في الذاكرة. تسللت إلى رئتيّ المنقبضتين، إلى معدتي شبه الخاوية، وتركتني كأنني تذكرت شكل الحياة.
تمنيت، وأنا على تلك الدرجات، حضورًا متمرّدًا، مخلصًا، لقرنفل من الزوراء. كانت تلك رائحة تتقدّم عليك، وتسبق رائحة أخرى، أبعد، لقرنفل أبعد، لحياة أكثر خفّة، تُذكّرك بأنك كنت تعيش يومًا دون قيد. هنا، حيث لا يُسمح لك بالكثير، كانت الرائحة ثورة صغيرة في الرأس.
في الليل، استلقيت ملتفًا بخرقي. كنت أرتجف من الداخل أكثر مما أرتجف من الخارج. شممت رائحة احتراق، أو خُيّل إليّ. لا شيء واضح في هذا المكان. الأشياء تُوهِم ولا تُثبِت. نمت متأخرًا، كالعادة، وكانت أخيلتي كلّها تتجمّع في الجزء الأعلى من شجرة كنت قد رأيتها، أو لم أرها، في التفاتة خاطفة نحو شباك خلفي تزركشه القواطع الصلدة. رأيت، أو توهمت، نصف شجرة، لم تكن واضحة، لكنّها كانت هناك، حقيقية بما يكفي لأن تحرّك شيئًا.
عندما أيقظتني زحمة الصباح في السجن، لم أفكر بالأسماء، ولا بالصفوف، ولا بفتحات التفتيش. لم أفكر بغير شيء واحد: هل كانت الشجرة حقيقية؟ أم أن الطفل الذي كنته هو من زارني الليلة الماضية، وأشار من خلف الزجاج إلى ضوءٍ منسيّ في جهة القلب؟
ربما كل ما نحتاجه، هو تواطؤ صغير مع رائحة، أو التفاتة مباغتة إلى شجرة لا يُسمح لنا بامتلاكها، لكن لا أحد يستطيع أن يمنعنا من تخيّلها.