خذني كما أنا، أيًا ما كنت

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 588
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

تيري تشيني

ترجمة: آية طنطاوي

باعتباري امرأة ثنائية القطب* عشت معظم حياتي في حالة مستمرة من كوني شخص آخر غيري. الوصف الدقيق لعلتي هو “الانزلاق المزاجي المتطرف” والتي تعني أنني بدون علاج أكون تحت رحمة تقلباتي المزاجية المذهلة: “نشيطة” لأيام (جذابة، ثرثارة، فياضة المشاعر، مرحة، ومنتجة، لكن لا أنام وفي النهاية صعب أن أكون متواجدة بالجوار) ثم “خاملة” لا أتحرك تقريبًا لأسابيع كاملة.

بدأ معي هذا الإظلام في المدرسة الثانوية، ببساطة لم أستطع النهوض من السرير صباح يوم ما. لم يكن الأمر مهما، إلا أنني مكثت في السرير لمدة 21 يومًا. مع استمرار هذا الوضع ساور القلق أبواي، أصدقائي، ومعلميني، لكنهم اعتقدوا أنني غريبة الأطوار . بعد كل ذلك، بقيت طالبة ممتازة، لم أسيء التصرف يومًا، وتخرجت وأنا الطالبة المتفوقة في فصلي.

بقي الحال على ما هو عليه في جامعة فاسار، حيث تألقت أكاديميًا على الرغم من مرضي العقلي. ثم أبحرت في بحار  كلية الحقوق وسرعان ما حققت نجاحًا مهنيًا كمحامية في مجال الترفيهة بلوس آنجلوس، حيث مثلت المشاهير واستديوهات الإنتاج الكبرى. بحثت عن المساعدة طيلة هذه الفترة مع كوكبة لا نهائية من الأطباء، المعالجين النفسيين، الأدوية، وطرق علاج مروعة كالصدمات الكهربائية، ولكن بلا طائل.

لم يعرف أحد بعلتي عدا الأطباء. أما في العمل، حيث مهاراتي وإنتاجيتي تشكل أهمية بالنسبة لي، أستطيع أن أخفي سري بسهولة نسيبة. أبقيت أصدقائي وأسرتي على غير دراية بالأمر بأعذار محبوكة، تظهر فقط عندما أكون واثقة من إبهارهم بها.

لكن حياتي الشخصية كانت قصة أخرى. لا شيء يختفي في الحب: يجب أن تخبر شخصًا ما حقيقة من تكون، لكن لم تكن لدي أدنى فكرة عن حقيقتي من لحظة لأخرى. عندما تواعدني، من الممكن أن تذهب إلى السرير مع مدام بوفاري وتستيقظ من النوم بجوار هستر برين. والأسوأ من ذلك، يضعني هوسي وشخصيتي الساحرة بإستمرار في مواقف لم تستطع ذاتي الخاملة معالجتها.

على سبيل المثال: في صباح أحد الأيام قابلت رجلاً في قسم الخضروات بالسوبر ماركت، حينها لم أكن نائمة لمدة ثلاثة أيام لكنك لم تكن لتعرف ذلك لو  نظرت إلى وجهي. كانت عيناي متوجهتان باللون الأخضر، ولون شعري ذهبي مائل للحمرة بدرجة مخجلة، كنت حرفيًا متلألأه (كنت أرتدي سترة مطرزة بالترتر الذهبي في السوبرماركت، طعم الهوس سيء دائمًا) كنت جائعة حينها، ليس للخضروات، كنت جائعة له، ببنطاله الجينز المهترئ، وقبعة يانكيز المائلة على جبهته قليلاً.

دفعت عربة تسوقي إلى جانبه وبدأت أعصر  بيدي ثمرة خوخ بطريقة وقحة. “أحبه جميلاً وصلبًا، أليس كذلك؟”

هز رأسه “وبلا كدمات”.

هذا كل ما أحتاجه، بداية، وأكون بعدها بالخارج. أخبرته باسمي، سألته عن ما يحب ولا يحب في الفواكهة، الرياضة، المرشحين الرئاسيين، والنساء. كنت أتحدث بسرعة وبالكاد سمعت إجاباته.

لم أشتري الخوخ، لكني غادرت بموعد على العشاء يوم السبت، بعد ليلتين من ذلك الحين، وقتًا كافيًا للراحة، حلق ساقي، واختيار زيًا مثاليًا.

لكن بمرور الوقت وصلت إلى البيت، وكان الإظلام قد حل بالفعل، لم أقترب من دولابي ولم أفرغ حقائب البقالة، فقط تركتهم على الطاولة لتتعفن أو لا تتعفن، ما الذي يهم؟ حتى أنني لم أخلع سترتي المطرزة بالترتر. ارتميت على السرير كما أنا، وبقيت هكذا. شعرت بجسدي وكأنه انغمس في خرسانة التجفيف البطيء. كان هذا كل ما بوسعي فعله لأخذ نفسًا عميقًا ثم أخرجه مرارًا وتكرارًا. كنت سأبكي من رتابة الأمر لكن الدموع تتطلب الكثير من الجهد.

رن الهاتف عشية يوم السبت. كنت لا أزال في الفراش، وأجبرت نفسي على التقلب، إلتقط الهاتف وتمتمت بالتحية.

“أنا چيف، من الخوخ، اتصل لأتأكد من عنوانك”.

چيف؟ خوخ؟ بالكاد  أتذكر حديث مع شخص ما بهذه المواصفات، لكن بدا أنه حدث منذ زمن بعيد. لم يكن أنا من يجري هذا الحديث، أو على الأقل لم يكن أنا حينها، ولم أكن أبدًا لارتدي تلك السترة البراقة في الصباح، لكن وعيي يعرف أفضل مني. “انهضي من السرير، ارتدي ملابسك” همس في أذني “لا يهم إذا كانت وافقت على هذا الموعد سلفًا، عليكِ أن تخرجي إلى الموعد”.

عندما ظهر  چيف في السابعة مساءً كنت قد ارتديت ملابسي وأصبحت جاهزة للخروج، لمآتم أكثر منه لموعد غرامي. كنت ملفحة بالسواد ولم أضع حتى مستحضرات تجميل، وبدت بشرتي الفاتحة على طبيعتها شاحبة وباهتة. لكني فتحت الباب وصدرت له خدي بتباطئ ليقبله، لم تغمرني المتعة في الشعور بشفتيه على جلدي، كانت المتعة فقط للأحياء.

لم يكن لدي ما أقوله، حينها أو أثناء العشاء. تحدث چيف كثيرًا في البداية، ثم أقل وأقل إلى أن سألني أثناء تناولنا الحلوى ” بأي حال من الأحوال ليس لديكِ اخت توأم، أليس كذلك؟

ورغم ما حدث كنت محطمة لأنه لم يتصل مرة أخرى.

استيقظت بعدها بأسبوعين على عالم ديزني: زهور النرجس والبيض الأزرق لطير أبو الحناء. كانت الطيور تغرد خارج شرفتي بأغنية بلا شك كتبت خصيصًا لي. لم أتحمل لأكثر من دقيقة أخرى، دفعت غطاء السرير بعيدًا عني ورقصت بثوب النوم –بيجامة السجن الرمادية، عندي أزمة في ثياب نومي- ثم لمحت نفسي في المرآة، ارتجفت، ووثبت باهتياج.

فتشت في دولابي عن شيئًا لائقًا لأرتديه، لكن كل شيء وضعت عليه يدي كان غير مناسب، غير مناسب، غير مناسب. كبداية كانت كلها ملابس سوداء، كرهت اللون الأسود، أكثر حتى مما أكره اللون الرمادي. يجب على الصهباوات اختيار الألوان الصحيحة مهما كانت التكلفة. فتشت عميقًا، وجدت بنطالان چينز مدفوسان بعيدًا وشيء ما حريري لامع وهو ما أريده حقًا: سترة فاتنة لامعة بالذهب.

انزلقت فيها واستعرضت نفسي لمدة دقيقة. اللعنة، بدوت بهيئة جيدة. بعدها سحبت البنطال الچينز، لقد اكتسبت بعض الوزن في الأسبوعان الفائنان من حياتي كحيوان الكسلان، لكن بمجرد أن جذبت البنطال بقوة حتى أُغلق السّحاب. كان هناك شيء يتدلي من الجيب: بطاقة عمل، مكتوب على ضهرها: “كلميني، چيف”.

چيف؟

چيف! أطحت بثياب النوم بعيدًا عني والتقطت الهاتف. كانت الساعة السادسة والنصف صباحًا. باكر جدًا لأتصل به؟ لا، ليس مبكرًا من أجل چيف القديم! رن الهاتف، كنت على شفا الاستسلام إلى أن قال لي صوتًا ناعسًا “مرحبًا؟”.

“إنها أنا، لماذا لم تتصل بي؟”

استغرق الأمر بعض الوقت لإدراك من تكون “أنا” لكنه تذكر في نهاية الأمر. قال “تبدين مختلفة، أو لا، ربما تشبهين نفسك كثيرًا، لست متأكدًا، إن الوقت مبكر جدًا”.

سرعان ما جعلته يضحك بقوة حتى أصابته الزغطة واضطر أن يبتعد عن التليفون. لكن قبل أن يحدث هذا طلب مني الخروج يوم الجمعة، بعد ثلاثة أيام.

أصريت على الرفض، يجب أن نخرج الليلة، أو حتى بعد ظهيرة اليوم. لم أرغب في خسارة فرصة أخرى لأتعرف عليه. عرفت أن سندريلا لديها الكثير من الوقت المتبقي في الحفلة.

اتفقنا على ميعاد العشاء في الثامنة مساءً. قضيت الظهيرة وأنا أخلص بيتي من أدلة الاكتئاب. غسلت، فركت، نفضت الغبار، نظفت بالمكنسة، استخدمت كل الأدوات حتى تلك التي ترعبني. ثم ركضت إلى الخارج واشتريت باقة من زهور الزنبق لأمحو رائحة الأمونيا والكلور.

عندما أصبح المنزل مثاليًا، اتجهت إلى نفسي بنفس الضراوة، كشطت وهذبت ورطبت ونتفت وبذلت كل طاقتي لأضاهي إغواء ريتا هيوارث بالدخان في فيلم “جيلدا”. وبينما كنت أظلل عيوني بالمستحضرات تذكرت جملتها المؤثرة في الفيلم “كل رجل عرفته وقع في حب جيلدا، واستيقظ في الصباح معي”. ذبحتني لدرجة أن يدي بدأت ترتجف ولم أتمكن من اكمال وضع الماسكرا.

فجأة، أصبحت غير متألقة، كانت هناك خطوط حول فمي، وتجويف حول عيني وكأني في سن العاشرة، وبشرتي رغم مستحضرات التجميل ومورد الخدود بدت شاحبة بشكل مميت، وتراجعت بعيدًا عن إنعكاس صورتي في المرآة.

جلست على المرحاض وبكيت. قابلت العدو من المرات ما يكفي لأعرفه بمجرد النظر. ليس الآن، دعوت الله، أرجوك ليس الآن. تسللت قطرات من الماسكرا إلى خدي، مسحتهم متغافلة الخطوط التي خلفتها. كانت الساعة الثامنة إلا ثلاثة دقائق. أمامي فقط ثلاثة دقائق لأصارع كيمياء مخي لعدم الإستسلام. نعم، بالتأكيد، عرفت أن هناك خيارًا آخر، بإمكاني اخبار چيف بما الذي يحدث. ولكنه الرجل الذي لا يحب خوخاته بكدمات. فماذا سيكون رأيه في نفسية معطوبة؟

ربما يستفهم الأمر. ربما سأجد الشجاعة. ربما سيخترعون علاجًا.

ربما، ولكن ليس الليلة. وبينما جرس الباب يرن ويرن، كنت متكورة في الحمام وأرتعش. كنت في حالة خوف، لا لأن يجدني چيف هنا، بل لئلا أعثر أبدًا على الحب.

عندما أصبح الجو هادئًا، مسحت بقايا الماسكارا وألقيت بفستان السهرة في السلة. ثم زررت بيجامة السجن الرمادية واستلقيت على السرير لفترة طويلة قادمة.

ولم أسمع من چيف مرة أخرى.

كان ذلك قبل خمس سنوات من الآن، خمس سنوات من الصعود والهبوط، من البحث عن الطبيب المناسب و جرعة الدواء المناسبة. لقد تقبلت أخيرًا أنه لا يوجد علاج لاختلال التوازن الكيميائي في مخي، لا علاج أكثر من علاج الحب. لكن هناك كبسولة صفراء صغيرة أنا مولعة بها، وأخرى زرقاء فاتحة، وكبسولات وردية جميلة، وحفنة من ألوان أخرى غيرت حياتي رأسًا على عقب. تحت تأثيرهم أكون شخصًا آخر من جديد، لا مدام بوفاري ولا حتى هيستر برين، بل شخص آخر بينهما. لديّ أمزجة، لكنهم لا يحولوني إلى شخصية بديلة.

من سخرية القدر أن الاستقرار مثير جدًا لدرجة أن أجازف بالمواعدة مرة أخرى. استسلمت لضغوطات أصدقائي واشتركت لمدة ثلاثة شهور في خدمة المواعدة الإلكترونية. “من أنت؟” هو ما يسأله لي الاستبيان في البداية.

أريد أن أكون صادقة، ولكني لا أعرف كيف أجيب على السؤال. من أنا الآن؟ أو من الشخص الذي كنته؟

تبدو الحياة أكثر ترويضًا هذه الأيام: هادئة بشكل مخادع، مثل نمر بكفوف مخملية. بين الحين والآخر تشرق الشمس أكثر من اللازم، فأفكر للحظة، بأنني أملك السماء. أعتقد، كم من الجميل أن أكون جيلدا حتى لو في خيالي، لكن سرعان ما أتذكر تكلفة السماء. لذلك أنزع مكياجي، أنكش شعري، وأذهب إلى السوبرماركت بملابس رياضية. أما السترة المطرزة بالترتر الذهبي قابعة في دولابي. أفكر في التخلص منها.

لم يحن الوقت بعد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* تقصد المرض النفسي: الاضطراب الوجداني ثنائي القطب (م)
*القصة اللي اقتبستها الحلقة ٣ من مسلسل Modern love

مقالات من نفس القسم