شؤون

جويس كارول
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قصة: چويس كارول*

ترجمة: محمد عبدالهادي**

١ – الهِرر الصغيرة

كان أبي يقود بنا إلى البيت. يجلس ثلاثتنا في المقعد الخلفيّ وتجلس لولا، المُفضّلة لديه، في مقعد الراكب الأماميّ.

صرخت لولا، أوه يا أبي! – انظر.

على جانب الطريق، وسط الحشائش المُقصّفة، كان يلوح شيئٌ صغيرٌ بفراءٍ أبيض، ويبدو على قيد الحياة.

أرجوك يا أبي.

ضحك أبي. وكبح السيّارة حتّى توقّفت. قفزت لولا من السيّارة. وركضنا خلفها، لنكتشف ثلاث هرّاتٍ صغيراتٍ وسط الحشائش، كنّ بيضاواتٍ بعلاماتٍ سوداء وخمريّة.

التقطنا الهريرات! كنّ بالغات الصغر، ملائماتٍ لراحاتنا الصغيرة، ولا تزنّ إلا بضع أونصاتٍ فقط! كانت كلّ منهما تموء، وبالكاد تفتح عينيها. أوه، أوه! – لم نر شيئًا مُدهشًا بهذا القدر في حياتنا! ركضنا عائدين إلى حيث ينتظر أبي في السيّارة. لنرجوه اصطحابهن إلى البيت.

رفض أبي في البداية. قال إن الهريرات سيتركن فضلاتهن في السيّارة.

قالت لولا، أرجوك يا أبي. نعدك جميعنا أن ننظف السيّارة من أي فوضى ستخلقها الهريرات.

وهكذا استسلم أبي. إنه يفضّل لولا، لكننا سعيدات أننا بناته، أيضًا.

على المقعد الخلفيّ كان لدينا اثنتان من الهريرات. بينما تحمل لولا أكثرهن بياضًا، في مقعدها الأماميّ.

كنّا متحمّسات! وسعيدات جدًّا بالهريرات! قالت لولا إنها ستسمي البيضاء نُدفة الثلج، فقلنا إننا سنسمي هريراتنا يقطينة ورَماد، لأن يقطينة كانت تملك بقعًا برتقاليّةً على فرائها الأبيض، بينما حاز فراء رَماد على بقعٍ سوداء.

قاد أبي السيّارة في صمتٍ لبعض الوقت. بينما كنّا نثرثر! وكان يمكنك أن تسمع مواءً خفيضًا إن أنصتّ جيّدًا.

ثم قال أبي، هل أشمُّ رائحة فضلات؟

صرخنا، لا، لا!

أعتقدُ أنني أشمُّ رائحة فضلات.

لا، يا أبي!

ثلاث فضلات. أنا أشمُّها.

لا، يا أبي!

(ولقد كان الأمر كذلك: لم تُخرج أيّ من الهريرات فضلات.)

لكن أبي وضع قدميه على المكابح حتى توقّفت السيّارة. على الجسر فوق النهر حيث يوجد جرفٌ شديد الانحدار، خارج المدينة على بعد ميلين من منزلنا، أوقف السيّارة وقال للولا، ناوليني نُدفة الثلج، وحدّق بنا في مرآته الأمامية قائلا، ناولوني يقطينة ورَماد.

بدأنا في البكاء. وصرخت لولا بأعلى صوتها. لكن أبي الذي انتزع الهرّة الصغيرة من يديها، وصل إلى المقعد الخلفي عابسًا وممتقع الوجه لينتزع الهريرات منّا. لم نكن قويّات، ولا شجاعات بالدرجة الكافية لنمنع أبي من أخذ الهريرات، بيديه الكبيرتين. أطلقن مواءً عاليًا وارتعشن خوفًا.

غادر أبي السيّارة، وبخطواته الواسعة تسلّق الجرف حتّى الجسر وألقى بالهريرات من فوق السياج. ثلاثة أشياءٍ صغيرةٍ ارتفعن بدايةً نحو السماء المُلبّدة بالغيوم، ثم سقطن سريعًا، واختفين.

صرخت لولا، حين عاد أبي إلى السيّارة، لماذا يا أبي؟

قال أبي، لأنّني الأب، وأنا من يُقرّر كيف تنتهي الأشياء.

**

٢– قُبلةٌ وحشيّة

في سريّةٍ تامّة، سافر إلى البرّ الرئيسيّ، سيرًا على الأقدام. كان يعيش على جزيرةٍ تناهز الثمانية أميالٍ مربّعة، حذائيّة الشكل على طريقة إيطاليا. بينها وبين البرّ الرئيسيّ جسرٌ عائمٌ بطول ميلين. حذّره والداه من الذهاب إلى البرّ الرئيسيّ؛ حيث “الحياة السهلة، المُتراخية”؛ حياة الجزيرة هي الانضباط، والصرامة، ومشيئة الرب. قطع والداه أواصر علاقتهما بكلّ من ارتحل إلى البرّ الرئيسيّ، مَن يشفقون مِن ناحيتهم على سكّان الجُزُر بسبب انعدام التعليم، وتفشّي الخرافات، والفقر.

تمتلئ الجزيرة بمُستعمرات القطط البريّة، التي تتوحّش، بغرائزها الفطريّة، إن حاصرْتها أو نصبْت لها فخاخًا، لكنّها جميلةٌ للغاية – إحدى تلك المُستعمرات كانت تتألّف في الأغلب من نمورٍ برتقاليّةٍ لها ستة أصابع في قدميها، بينما تتألّف مُستعمرةٌ أخرى من قططٍ في سواد الليل بعيونٍ صفراء، وأخرى من قططٍ بيضاء لها شعرٌ كثٌّ وعيونٌ خضراء ساطعة، بينما المُستعمرة الأضخم، كانت في الغالب من القطط الصدفيّة، بألوانها المُتشابكة، وبقعها الفضيّة والسوداء، وعيونها الذهبيّة، تبدو وقد نمت في منطقةٍ قاسيةٍ، وسط الحجارة المتناثرة بالقرب من الجسر العائم. كان محظورًا بالكليّة على أطفال الجزيرة الاقتراب من القطط البريّة، أو محاولة إطعامها؛ كان من الخطير على أيّ شخصٍ الاقتراب من القطط وملاعبتها، ناهيك عن أسر إحداها والعودة بها إلى البيت؛ حتى الأشبال الصغيرة كانت تعرف كيف تخدش وتعضّ بشراسة. ومع ذلك، وفي طريقه إلى البرّ الرئيسيّ، وحين اقترب من الجسر العائم، لم يستطع مقاومة إلقاء بعض الطعام إلى القطط الصدفيّة التي رمقته من مسافةٍ قريبةٍ بعيونٍ عدائيةٍ فاترةٍ – بس! بس! يا لها من مخلوقاتٍ جميلة! تمكّن، في ذلك النهار، وبجرأةٍ، أن يضع يده على أحد القطط الصغيرة، بالكاد أكبر من هريرةٍ، نحيفٌ جدًّا، بعظامٍ ناتئةٍ وأذنين مرفوعتين تأهّبًا، وللحظةٍ قبض على جسده المرتعش بين أصابعه وكأن قلبه هو الذي سيُنتزع من صدره – قبل أن يتملّص القط بشكلٍ مسعورٍ، ويفحّ، ويخدشه، ثم يغوص بأسنانه الصغيرة الحادّة في اللحم أسفل إبهامه، فأفلته وهو يصرخ اللعنة! مسح الدم في بنطاله وأكمل رحلته عبر الجسر العائم.

على البرّ الرئيسيّ، رآها: فتاةٌ تَصوَّرها في مثل عمره، أو أصغر قليلًا، تتمشّى مع صبايا أخريات. بعض الضباب كان يكتنف الرياح الساحليّة، مع رطوبةٍ باردةٍ، وقاسية. انسبكت قطراتٌ من الندى بين أهدابه كالدموع. بينما تطاير شعرها في الريح. أدارت وجهها المثاليّ عنه خجلًا وحياءً. لقد نشأ جريئًا، متهوّرًا؛ تجربته مع القط الصدفيّ لم تفتّ في عزيمته بل زادتها جرأة. كان صبيًّا يتظاهر بالرجولة الكاملة هنا على البرّ الرئيسيّ، حيث شعر أنه أكبر عمرًا، وزادت ثقته في نفسه. هنا، حيث لا يعلم أحدٌ اسمه أو اسم عائلته. سار جوار الفتاة، قبل أن يفصلها عن الآخرين. سألها عن اسمها – ماريانا. أمسك بكفّها الصغير، الذي قاوم مبادرته، لكنّه قبض عليه. قبّل شفتيها بخفّةٍ لا تخلو من الإثارة. وحين لم تنسحب، قبّلها مرةً أخرى، بقوّةٍ أكبر. استدارت قليلا كما لو ستهرب منه. لكنّه أمسك بيدها وذراعها؛ أحكم قبضته عليها، وقبّلها بقوة، حتّى شعر بأسنانهما تصطك. يبدو أنها كانت تبادله القبلات، ولو بطريقةٍ ألطف. انسحبت بعيدًا. خطفت يديها وضحكت، عضّته على إبهامه، على اللحم الطريّ أسفل إبهامه. وفي ذهولٍ، حدّق في الدم الذي تدفّق سريعًا. كان الجرح صغيرًا لكنّه فجّر دماءً غزيرة! كان بنطاله مُلطّخًا. وترشرش حذاؤه بالدماء. تراجع، وركضت الفتاة لتلحق برفيقاتها – ركضن جميعًا، بينما يسمع الآن، على طول الشاطئ الواسع القاسي الذي غطّاه حُطام العاصفة، ضحكاتهن المُجلجلة السّاخرة دون أن تلتفت إحداهن إلى الخلف.

استحوذ عليه خوفٌ فجائيٌّ وكأنّ الجسر قد طفا بعيدًا، فعاد إليه. لكنّه لا زال هناك، تلطمه الريح الساحليّة، يبدو ضئيلًا وصامدًا. كان الوقت أواخر الخريف. لم يعد يذكر في أي الفصول شدّ رحاله – هل كان ذلك في الصيف؟ في الربيع؟ ارتفع البحر في أمواجٍ غاضبةٍ مزبدة. وكادت الجزيرة تختفي خلف غلافٍ من الضباب. ومن بين الأمواج، لاحت له وجوه عشيرته الهرمة. رجالٌ في لحاهم الرماديّة، ونسوةٌ عابسات. كان يعود لاهثًا إلى الجزيرة عبر الجسر الصخريّ العائم. على الضفّة، لم يعر انتباها لمستعمرة القطط الصدفيّة التي بدت في انتظاره بموائها الساخر ووجوهها الماكرة، بين الصخور. جُرح إبهامه يؤلمه؛ كان خزيانًا بسبب إصابته، والعلامات الواضحة للأسنان الصغيرة الحادّة في لحمه. في غضون أيامٍ، ازرقّت جروحه، وبسكين صيدٍ مكويٍّ في النار، أعاد فتح الجرح، وترك للدماء مرّةً أخرى فرصة أن تجري ساخنة. لفّ إبهامه في ضمادةٍ. وبرّر لهم كيف جرح نفسه في إهمالٍ بمسمارٍ صدئٍ أو خطّاف صيد. وعاد إلى حياته القديمة التي اجتاحته سريعًا كما تغمر الأمواج الشاطئ، وتتدفّق عبر الصخور. سيأتي يومٌ يزيل فيه الضمادة ويرى الندبة الصغيرة المُثلّمة في لحمه، وقد التأمت بالكاد. وفي الخفاء، سيطبع قبلةً فوق الندبة في فورةٍ من نشوة المشاعر، لكنّه مع الوقت سيتناسى السبب.

**

٣– الأمل

كان أبي يقود بنا إلى البيت. تجلس اثنان منّا فقط في المقعد الخلفيّ، بينما إستر، التي يفضلها أبي، في مقعد الراكب الأماميّ.

صرخت إستر، أوه يا أبي! – انتبه!

مخلوقٌ بفراءٍ داكنٍ كان يعبر الطريق أمام سيّارة أبي، وتتحرّك قدماه حثيثًا. ربما كان قطًّا كبيرًا، أو ثعلبًا صغيرًا. لم يخفّف أبي من سرعته على الفور– لم يُدر عجلة القيادة أو يكبس المكابح متفاديًا الاصطدام بالمخلوق. لكنّه أيضًا لم يضغط دوّاسة البنزين كي يصطدم به عامدًا.

أصابته العجلة الأماميّة اليمنى بصوتٍ مكتوم.

كانت هناك صرخةٌ حادّةٌ قصيرةٌ، تلاها الصمت.

أرجوك يا أبي. توقّف أرجوك.

كان صوت إستر رقيقًا وحزينًا، ورغم أنه كان مُتوسّلًا، بدا بلا أمل.

ضحك أبي. ولم يكبح السيّارة كي تتوقّف.

في الخلف، جلسنا على ركبنا فوق المقعد ونظرنا عبر الزجاج الخلفيّ – رأينا، فوق الحشائش المقصّفة على جانب الطريق، ذلك المخلوق الفرائيّ يتلوّى من الألم.

توقّف يا أبي! توقّف أرجوك، لقد جُرح ذلك الحيوان.

لكن أصواتنا كانت ضعيفةً حزينةً وبلا أملٍ، وربما أعطانا أبي بعض اهتمامٍ لكنّه استمرّ في القيادة وهي يدندن، في المقعد الأماميّ، كانت إستر تبكي بطريقتها الناعمة البائسة، بينما كنّا هادئتين في المقعد الخلفيّ.

وشوشت إحدانا الأخرى، كانت هذه هريرة!

وهمست الأخرى، بل كان ثعلبًا!

على الجسر فوق النهر يوجد جرفٌ شديد الانحدار، كبح أبي السيّارة حتى توقفت. كان عابسًا مُنفعلًا، وقال لإستر، إنزلي من السيّارة. التفت في خوارٍ نحونا في المقعد الخلفيّ، كانت عيناه تستشيطان غضبًا وهو يأمرنا بمغادرة السيّارة.

كنّا مرعوباتٍ، بيد أنّه لا مكان للاختباء في سيارة أبي من الخلف.

كانت إستر ترتعش بالخارج. هبّت ريحٌ باردةٌ من النهر الذي يغلّفه الضباب. التصقنا بإستر حين اقترب أبي.

لاح على وجه أبي الندم وتأنيب الضمير. الندم على شيءٍ لم يحدث بعد. في هدوءٍ لطم أبي إستر بقبضته على ظهرها، فأسقطها هذا كمن تلقّى عيارًا ناريًّا، وبأنفاسٍ متهدّجةٍ لم تقو على الصراخ أو البكاء في البداية، لكنها رقدت على الأرض ترتجف. أردنا الهروب بينما لم تواتنا الجرأة لأننا عرفنا كيف ستلحق بنا ساقا أبينا الطويلتان.

لطمنا أبي، الواحدة تلو الأخرى. واحدةٌ على ظهرها كما فعل بإستر، والأخرى نالت لطمةً طائشةً خاطفةً على جانب رأسها، وفي مثل هذه الحالة (حالتي أنا) يكون الطفل يائسًا، لأنه تحت وطأة التأديب. أوه، أوه، أوه! – لقد تعلّمنا كيف نكبح بكاءنا.

في خطواتٍ واسعة، عاد أبي إلى السيارة ودخّن سيجارة. حدث هذا من قبل بطريقةٍ أو بأخرى، ولأنه حين يحدث أمرًا بشكلٍ متكرّرٍ، فإنه يزعجك أكثر مما لو لم يحدث من قبل، بأي شكلٍ من الأشكال. على الأرض الوعرة فوق العشب المتقصّف الجاف، رقدنا ننشج، ونحاول التقاط انفاسنا. تعافت إستر، التي كانت تكبرنا، أولًا، وزحفت نحو كِڤين ونحوي، لتساعدنا على النهوض والوقوف على أرجلٍ رفيعةٍ مهتزّة. كنا مصاباتٍ بالدوار والألم وبالإحساس السيّء الذي يأتي حين لا تتوقع أن يحدث شيئًا مثل الذي حدث، تتذكّر أنك قد خبرت ذلك من قبل، وتلك الحقيقة تُثبت، كما تُغلق سلسلةٌ من المتاريس سلسلةً من الأبواب، حتميّة تكرار الأمر.

جلس أبي ليُدخّن في السيارة. كان باب السائق مُواربًا، لكن السيّارة امتلأت بدخانٍ أزرق يشبه الضباب.

كان هناك شأنًا استثنائيًّا بين إستر وأبي، كما كان يومًا استثنائيًّا بين لولا وأبي: إن خذلته إستر، وعوقبت من أجل خذلانها له، كان مسموحًا لها، وربما كان هذا متوقّعًا، أنْ تُلمّح إلى ذلك العقاب شريطة ألّا تتحداه، أو تخذله مجدّدًا. سؤالٌ بسيطٌ وواضحٌ، وجّهته إستر لأبي، والذي بدا، وسط اندهاشنا، محلّ ترحيب.

قالت إستر، بصوتٍ متحشرجٍ، أوه يا أبي، لماذا فعلت ذلك؟

قال أبي، لأنني الأب، الذي يجب ألّا تفقد بناته الأمل أبدًا.

………………………………………..

*چويس كارول روائية وقاصة أمريكية ولدت 16 حزيران عام 1938 وتقوم بتدريس الأدب في جامعة برينستون منذ عام 1978

★★  محمد عبدالهادي شاعر مصري ومترجم حر

 

مقالات من نفس القسم