محمد عيد إبراهيم
قد يكون للروائي سعد القرش مزاج أن يكتب، ولنا مزاج أن نقرأ، لكن بعدما تنتهي من قراءة رواية «أول النهار» تكتشف روحا رائقة في روحك، روحا لا تني تقول إن مصر باقية، مصر الحنان وأول الضمير، كلّ من يمرّ عليها يعلَق به شيءٌ من «حتى»، وعليه العودة ليرشده «عمرٌ من الشقاء والفراق، إلى قطعة سكّر، يطرب لها وهو يَقرُشها، كمن يقول: أحتاج إلى حكمتك». «أول النهار»، تصفّي بالك من عفن المتاعب وعذابات المثالب، لتودي بك إلى نوع من «الجنة المنسية»، حتى مع تكاثر الموت في كلّ ناحية من الرواية.
الزمان، مصر فترة المماليك، قبل هجمة الحملة الفرنسية، تعيشه بكلّ تفاصيله، لكأن الكاتب ولد هناك، وعاش مع البطل العموديّ «عمران» (وظلّه “«حليمة») كلّ لحظة من حياته، من بدء تأسيس قرية «أوزير» (ملك الموتى في الأسطورة المصرية القديمة)، بعد الفيضان، في ضاحية من الدلتا. ويشرع عمران في العمران، كأنه آدم جديد، في بدء حياة كلها كفالة وعدل، لكن الموت في عنفوانه يتسلل حين يبدأ الرجل في الفرح بأولاده، ثم أحفاده، واحدا تلو آخر، من غير ملل أو إبطاء.
عمران، هنا، بطلٌ حديديّ، يكسره الزمان، وهو لا ينكسر، يطحنه الأمان وهو ثابت لا يخون الأمانة، يتفرّج على الخليقة في عزم وكلّه أمل أن يبدأ من جديد مع حُلم جديد، إلى أن يضرب الموت ثانية، ليسوّيه على مهل كقرص العجين. ابنه مبروك يموت في ليلة عُرسه، تاركا هند، تحت قوس المحبة التي عاشتها لمرة واحدة وإلى الأبد. تنجب توءما: عامر وسالم، سالم يتزوّج مريم، وكالعادة يخرج صباح العرس ليبحث عن أخيه الذي اختفى، وقد كان عامر موثقا انتقاما من الحاجّ عمران الذي أنهى سطوة فرقة باغية، ويذهب سالم لفكّ قيد أخيه، فيُقتل من توّه، وتعدّد: «شبابك زين وأنت زين، لولا شبابك ما بكت لي عين».
هند، أيقونة الرواية، ابنة عبد، يموت أبوها فجأة، يموت زوجها ليلة عرسه، ويموت ابنها صباح عرسه، ويشرد ابنها الآخر، عامر، في بلاد الله، لا يعرف بمستقره أحد. بعد بحث طال، يعود عامر من حياة عاشها كالدرويش، صوفيا مباركا ولعوبا مع النساء، فيتزوّج من حبيبته السابقة قبلما ينتبه لعودته أحد، فتغضب هند، لكنها تذعن في النهاية، فهي كلّ شيء في البيت ولا شيء معا. تموت حليمة، ويموت عمران، وتموت زوجة عامر، ليتزوّج غريبة، مغربية، ويعيش لذّة لم يعرفها من قبل.
قد يتشابه عمران، في ناحية، مع سي السيد بطل ثلاثية محفوظ، حيث يعيش مع قيم فات أوانها، ويعشق النساء في حدب من دون إفراط ولا جلبة، لكن محفوظ لا يبدأ ببطله عالما، أما سعد القرش فيبدأ ببطله عالما، ضمن ثلاثية مثله (أول النهار، ليل أوزير، وشم وحيد)، لكنه عالم ريفيّ لا مدينيّ، عالم يقترب من ربع ألفية مضت، يدخل تفاصيله من وحي مخياله، لكأنه عاش فيه، وخبره، مع شُحّ المصادر، لكنه يتألّق في عصر نبيذه من كلّ شجرة ولون.
قد ترى في الرواية نمطا كلاسيكيا حيث الزمان خيطيّ لا يقدّم ولا يؤخّر، والبطل أوحد، يتناسل من أحد إلى آخر، والموت مبثوث في كلّ ركن، لكن ما يشدّ الرواية إلى عالم الحداثة هو تلك اللغة المنسابة في طراوة ولين، كأنك تعيشها وتنطقها، فلا تحسّ أنك في ماضٍ، بل هي أنت، اللغة هنا صنم سائل، تحسّ بها بطلا وهي لا بطل، تحسّ بها هي العالم، مع أن العالم ثريّ في كلّ سطر، اللغة عنقود من الكدمات واللعنات، وسط شجرة الألم، والألم هنا هو أول السير نحو حنان البلاد.
…………
ـ (مجلة “تراث” ـ الإمارات / أكتوبر 2015)