أعضاء أحمد طه المُفككة التي أَرمي بها الآخرين

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 102
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عندما شاهدته للمرّة الأولى، كان جالساً فوق كومةٍ من الكتب القديمة الملقاة هكذا بلا اهتمام في قاعِ عمّان. كان يهزأ بالرائحين والغادين، يقذف عليهم شتائم مقذعة إذ يُنبئهم بنهاية العالم، بأنهم محوطون بجدران هائلة تكاد تخنقهم، أو أنها خنقتهم وماتوا وانتهى الأمر وهم الآن في برزخٍ يظنّون أنفسهم فيه أحياء وما هم بأحياء. حياتهم محض وهم.

لم يدم الأمر طويلاً بعد أن مانع برهةً ثم استجاب لدعوتي، ورافقني إلى المنزل بعد أن نقدت البائع ديناراً ثمناً بخساً لتعارفٍ سريعٍ سيترك لاحقاً أثره العميق في تحوّلاتي، فسرعان ما سيتمدّد أحمد طه ليتجاوز حدود الـ 13.5 x 19.5 سم التي كان محشوراً فيها، ويُلقي أعضاءه المفككة هكذا كيفا اتفق على مساحة منزلي، ومن ثمّ تسلّل –غير مدعوٍّ- إلى أمسياتٍ كنت أستضيف فيها أصدقاء قليلين أقرأ عليهم مقتطفاتٍ من كتابات أعجبتني، لأجده وقد وجد طريقه إلى حقائبهم أيضاً.

استمرأ أحمد طه الأمر على ما يبدو إذ لم يجد رادعاً يردعه، فظلّ يمدّ لي لسانه الطويل من بين الأسطر التي عكفتُ عليها مراراً وتكراراً، مُستهتراً بي، وهازئاً من عدم قدرتي على الهروب من اندلاقه الذي لم يتوقّف.

من قال له أنّني كنت أحاول الهرب؟ يا لبؤس تصوّراته إذ كنتُ أرى عالمي داخل تلك اللزوجة الحامضة، تلك الرغبة الملحّة في التقيّؤ، تلك النظرة العميقة التي يَهجي الموتى بها الأحياء، ذلك التشفّي المبطّن، وتلك الحكمة/التحذير من خرابٍ عميمٍ يكتسحنا بعد أن نخلقه بأيدينا ونزيّنه لأنفسنا. لم يكن أيّ منها غريباً عليّ وأنا قبلها غاطسٌ في البحر المزاجيّ لحيدر حيدر وهو يحوّل الوجود –في لعبة السّرد- إلى مكّبٍ كبيرٍ للنفايات. أما أحمد طه فكان –وهو يكشُّ الذباب المتجمّع على جبهته- يقترف نصوصاً هي أقرب للجرائم الكاملة، يقول عنها أنها ليست شعراً بل “أناشيد وحكايات”: نصوص عابرة للقيود لا تتوقّف عن التحوّل كماءٍ في مجرى نهر، يسيلُ ويتقلّبُ ويرغي ويتطعّجُ ويسقطُ ويهدرُ ويركدُ ويصمتُ دون أن يفقد انسيابه في أية لحظة.

كان أحمد طه يكتب بعصا الساحر، فيخرج من قبّعة صفحاته ذواتٌ تأبى أن تنطوي على نفسها وتتأسّى، أو تضحكُ على نفسها وتبتسم، بل تنفجرُ بجرعاتٍ محسوبةٍ وموجعةٍ دون أن يُسمع لصوت ساعتها الموقّتة تكتكة. صفحاتٌ تشرّبت الهزيمة والانهيار صفعةً إثر صفعةٍ ورفضت الاستسلام، رفضت أوهام التفاؤل بمستقبلٍ آتٍ سيقانه حتى الركب في المياه العادمة، فانشغلت بفضح “الآن” دون هوادة، ودون اعتبار لكهنة “القادم” الأفّاقين، فالقادم جذره هنا، الآن، ولا يسقط من الفراغ وحده بعد حين.

بعدها جهدت في البحث عن أجزاء أخرى من أحمد طه، أو بعضاً من أعضائه المفككة التي ألقاها بعيداً عن مدى رؤيتي، فلم أجد. سألتُ كثيراً في أزقّة المدن، ومقاهيها، وباراتها المنزوية المعتمة، فلم أجد سوى تلك التي أعرفها جيّداً مكرّرة في طابقٍ ثانٍ مطلٍّ على ميدان طلعت حرب، فاقتنيتها ووزعتها على أصدقاء خانني معظمهم وتركوني غير مُتّعظٍ من الهدية التي أهديتهم إياها من الأساس. ما عَلِينا، مُشْ مُهِمّ.

المهمّ أن أحمد طه  -أو بعضاً منه على الأقل- كان –إلى جوار قراصنة آخرين مثل قيصر باييخو وروبرتو خواروس- دليلي في لجّة كتابي الأول وهو يرسم بورتريهاً لجورج حنين ظننته انعكاساً لصورتي في المرآة، إذ يقول:

“لأنّك تصرخُ كلّما اقترب البرُّ من السفينة، وتتنهّدُ كلما داعبتْ شعركَ الطلقاتُ وهي تنتقل من رأسٍ إلى رأسٍ كما تنتقلُ الموسيقى، أنتَ واثقٌ إذن من الحياةِ وكارهٌ لها، عارفٌ بالذي يكونُ بعدَ الموت، عارفٌ كلّما صرختَ أنها نهايتك عندما تترك حبيبتكَ الأخيرة وتحتضن الماءَ الهائج، وفي عينيك أكوامٌ من الجزرِ التي لن تراها، والرصاصات التي لن تصيبك..”(1)

فجعلتها إيقونة مضيئة على رأس نصٍّ عنوانه “دُوار” يقف بطلُهُ على سطحِ عمارةٍ ثم..

يلقي بنفسه في الفراغ الواسع ليفرد جناحيه فلم ينفردا، نظر إلى يمينه فوجد ذراعاً، ونظر إلى يساره فوجد ذراعاً أخرى، رفرف بذراعيه فسقط. نظر إلى السماء فوجد رياحاً تضحك وغيماً يضحك وقمراً يضحك وشمساً تضحك. نظر إلى الأرض فوجد أناساً يضحكون وسياراتٍ تضحك وشوارع تضحك. صرخ فصفعته الأرض الأسفلتية الحارة فاستيقظ. وجد أمه إلى جانبه وأحس بخدّه الأيمن مؤلماً وحارّاً.”(2)

وها أنا ما أزال، عشيق الماء الهائج ولا أتّعظ، أضحكُ في وجه الرصاصات التي أنبأني أحمد طه ذات مساء رائقٍ أنها لن تصيبني قط، فأشرعت صدري للرياح، وصرت مثله –وعلى خُطاه، كما على خُطى القدّيس حيدر حيدر من قبله- ألقي بالكلام مشغولاً جميلاً كأنه الصخور المصقولة، ناعمةً تفجُّ الرأس وتُدميه.

أيا أحمد طه، لماذا تُخفي كتبك المقدّسة بعد أن تواطؤوا عليكَ وعليها؟ أم أنك عجزت عن لملمة بعضك بعد أن فرّقتَ أعضاءك وأنت تُلقي بها في وجوههم بعد نفاد الحجارة والشعر وما تيسّر من شتائم؟ عُذركَ عندي يَغفر ما تقدّم من ذنبك وما تأخر: عُذركَ هو ذلك الشلال الذي يسقط على الرأس من علٍ ويسمّونه شعراً، وتسمّيه أنت “أناشيد وحكايات”، وأسميه أنا “سرداً/موسيقى: أو قصصاً على تخوم الشعر”.. الاسم لا أهميّة له طالما المسمّى يحفر عميقاً، ويظلّ. لهذا كتبتُ نخبكَ:

لالالالالاـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  1. أحمد طه، إمبراطورية الحوائط، القاهرة: مدبولي، 1993، ص ص 35 – 36.
  2. هشام البستاني، عن الحب والموت، بيروت: دار الفارابي، 2008، تقديم: صنع الله إبراهيم، ص ص 64 – 72.
  3. هشام البستاني، أرى المعنى، بيروت: دار الآداب، 2012، ص ص 153 – 154.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم