سياسات المكتب

فيلومينا منذر
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

قصة: فيلومينا منذر

ترجمة: عبدالغني محفوظ

يحكى أن رجلين في بلد لا يمت للواقع بصلة، كانا يجلسان في وزارة المعلومات الدقيقة، في الطابق السفلي، في صمت إلى جانب بعضهما البعض، إلى طاولة حمراء. أحدهما همجي والآخر مثل زهرة نحيلة، رجلان غير متشابهان ولكنهما في تناغم ظاهرـ وكل منهما يمسك بقلم تحديد أسود، يكشط ويحذف، مرة بعد أخرى. 

ومن آن لآخر، كان الباب يفتح ويدلف منه هيكل عظمي لشاب، فتى متيبس من الجفاف، نحيل لدرجة أنه يبدو مثل أنبوب نيون أبيض في ثوبه، يترنح من ثقل كومة ضخمة من الصحف الإنجليزية التي ألقى بها سريعا على الطاولة بجانب كل منهما. ثم أخذ منهما الأكوام التي انتهيا من طمسها وخرج مترنحا، وهو يصفق الباب خلفه. بطبيعة الحال، ولأن عملهما كان مهما للغاية، فقد وفرت لهما جميع وسائل الراحة، حتى لا يكون لديهما أي سبب لمغادرة مكانيهما. وطوال هذا الوقت، واصل الرجلان، اللذان يحملان اسمي أبو فلان وبن فتحان، عملهما دون أي رد فعل تجاه الشاب.

كانت الحرارة بالطبع هي التي كونت الدوائر السوداء تحت إبطيهما، ولكن الدوائر كانت متناغمة مع الدائرة الخبيثة لحركاتهما الثابتة أثناء عملهما على الصور في الصحف المكدسة أمامهما. لم يكن مسموحا بدخول أي مشجعين لهما، لأن الصحف ستتطاير في أرجاء المكان. كانت الصور التي يطمسها الرجلان هي فريستهما، وحامت أقلامهما مثل النسور على الصفحة، ثم راحا ينقضان على الصور.

كان العمل في الحقيقة بسيطا، فكل ما كان عليهما فعله هو أن يغطيا بضربة بطشاء سوداء أي جزء غير مناسب في كل صورة، وهكذا يجعلانها مناسبة للبيع للجمهور في بلدهما. الأذرع والسيقان العارية، والأفواه التي تقبل والمرافق التي تتلامس والعناق كانت كلها تموت تحت قلم التحديد الأسود. وبدون أن يشعر هذان الزميلان بأقل دغدغة جسدية – حقا، تظهر الإنسانية في هذا العالم بعض نقاط القوة غير المتوقعة.

وهكذا استمرا، صحيفة تلو أخرى، ونسخة بعد أخرى، في تغيير تركيبة الكون الإقليمي. كان الجميع يشاهدون أعمالهما على الرفوف في كل دكان في المنطقة، ولكن لم يتوقف أحد ليتساءل عمن قام بها. كانا يعملان بسرعة وبصورة إيقاعية وصمت تام. وفي الغرفة المجاورة أيضا، وهي غرفة الاستجواب، أصبح كل شيء الآن هادئا تماما.

بالطبع، كان بن فتحان، الذي كان نحيلا، لديه ميل وراثي لإحداث ضوضاء، وبعد برهة بدأ يدندن بالتزامن مع عمله على الطاولة. كانت عيناه مثل محارتين كبيرتين، مالحتين ورطبتين ولامعتين، وذقنه مسحوبة من العالم مثل صوفي. وبينما كان يلتقط صحيفة، يرتفع صوته. وبينما يكشط بالقلم، كان صوته ينخفض. مجرد لحن صغير بسيط يعشقه، ليس مزعجا بالتأكيد، لذلك لم يعترض أبو فلان، زميله الضخم مربوع البنية، على أن أبو فلان لم يكن يتحدث أبدا – على الرغم من أن معدته تتحدث، مثل محام يدافع عن السمبوسة.

وبينما كان يلتقط صحيفة طفا صوت بن فتحان برشاقة: “صورة مغلوطة؟” وعندما يحذف الصورة البربرية، كان صوته ينخفض بصورة رنانة: “صورة وردية!” ومرة أخرى يرتفع، “صورة مغلوطة؟”. كان يحذفها ثم ينخفض الصوت “صورة وردية!” ليرتفع مرة أخرى “صورة شرموطة؟” وينخفض: “صورة رسمية!”.

يعرف أبو فلان أن اجتلاب هذا الضجيج إلى الغرفة الصامتة،  كان استراتيجية بن فتحان التي تقود إلى بعض الأسئلة التي يريد طرحها. ركز أبو فلان على عمله بشكل علمي. يشعر الرجل الضخم باهتمام زميله وفضوله وهو معلق هناك مثل قمر صناعي أو رجل جرى إعدامه – وبدا أنه يلمح إلى بعض التشابه السري بينهما، الرجل الضخم جدا والآخر الرشيق، وهو تشابه كان الهمجي الضخم يشعر بالتقزز من تأمله. كان الرجلان يعملان على الطاولة الحمراء، محاطين بجدران بيضاء وسقف مستو، وعندما وصل بن فتحان إلى أعلى نغمة في أغنيته، تحول فجأة ليسأل، “يا ترى يا زميلي، إذا كان المرء مضطرا لاختيار سمة تعد ضرورية لعملنا، ماذا ستكون تلك السمة؟”.

كان صوت أبو فلان مرتفعا بشكل مدهش لرجل في وزنه الكبير وهو يقول “التركيز”، ولكنه مع ذلك كان فظا. كان لديه غطرسة قوس النصر، طويلا وقويا، مع رقبة طويلة مثل عضلة صلبة لزرافة سمينة للغاية. وكانت عيناه مثل فتحة مسجل الأقراص المدمجة كما تبرز شفته السفلى مثل موجة متكسرة.

ساد الصمت. استمرا في طمس وطمس الذراعين والساقين العاريتين. بديا مثل صيادين ينزعان أحشاء الأسماك بسرعة على رصيف ميناء. مثل عرض الشرائح، كانت النهود والمؤخرات تقفز إلى مكانها أمامهما، ثم تطير إلى الكومة. وبدأ بن فتحان الحديث “ترى..”.

لكن باب غرفة الاستجواب المجاورة انفتح على مصراعيه وصاح المحقق – أو “السؤال الكبير”، كما يسمي نفسه – “معذرة على الخلط”. قال ذلك بصوته المبتهج المثير للاشمئزاز، وهو يصارع ويحمل شخصا تعيسا على كتفه وألقى به على كرسي إلى جانب أنبوب في الحائط وقيد يديه إليه. وارتطم الشخص – الذي كان يرتدي قبعة مائلة مثل قبعة فرانك سيناترا- بمقعدة الكرسي مثل الرعد وقام المحقق بفرد كتفيه مثل سلطعون ضخم يفرد ذراعيه – سروال بيجامة قديم زودته به زوجته منع تمزيق ملابسه.

كان المحقق وضحيته في مكان عميق في الخلفية من الزميلين اللذين يعملان بسرعة. بصق السؤال الكبير في عينه وصفعه على فكه، قائلا بلطف، كما لو كان على الهاتف، “ألو؟ ألو؟ كيف صحتك؟ عادي؟”. جعلت بصقته الدموع تنحدر إلى فم ضحيته المفتوح. وقال “ما زلت لا تريد أن تتحدث، أنت أبو الهول مصنوع من الهراء؟”.

أمسك وجه الرجل المشلول بفكه المتجمد وعينيه المحدقتين، وعرضه على الزميلين: “وهكذا سوف نستعين بالتكتيك الرائع لمعضلة السجين. هل تريان؟”.

لم يجب أبو فلان وبن فتحان. كان هذا لأنهما لم يرغبا في أن تدرك الإدارة أن استراق السمع إلى أنشطة غرفة الاستجواب كان امتيازا سريا لوظيفتهما، كما كان السؤال الكبير يحب التباهي أمامهم. لكن براعته لم تكن احترافية، حقيقة، ليست مثل عملهم. ومن المؤكد أن فجوتي مثقاب في ساعده أثبتا ذلك.

ومهما فعل له، ظل الوجه المشلول مثل فيلم تجمد عند صورة واحدة لإحداث أقصى تأثير.

أعلن السؤال الكبير “إنه في حالة صدمة عميقة”، وبفخر وامتعاض معا قال: “لقد ذهبت بعيدا للغاية، وتجمد تماما”. جذب حزام الخصر من ملابسه بالقرب من الوجه المشلول فأطلق رائحة بشعة “هل ترى؟ ولا رد حتى الآن”. ضحك بجزل وصرخ في أذن الرجل وهو يقول “إذن سنستخدم القوة مع صديقك الصغير وسنرى. أليس كذلك أيها العاهر؟ ستكون هنا وسيكون هو هناك، ولن يكون لديه أي فكرة عما تقوله لي. سوف ينفجر الدم من فمه ضحكا”. كان اللعاب يتدفق من فمه وهو يضحك مبتهجا – في الواقع، كانت كل ملامحه مضغوطة في وسط وجهه، كما لو كانت قطرة تتجمع لتسقط. كانت عيناه جميلتين. كان هناك حبة عدس على ظهر يده منذ تقيأ ضحيته. بدت بقعة الدم على الباب وكأنها حرف “و” عملاق أحمر.

لم يأت الرجل بأي حركة لكنه تمدد متصلبا تماما على الكرسي وأطرافه مفرودة مثل حيوان نجم البحر، وعيناه محدقتان ومنتفختان، وفمه مفتوح قليلا كما لو كان في تكشيرة نحتت من الصخر. كانت عيناه باللون الأخضر لبعض اللبنانيين، أو بعض معجنات الفستق في كابوس.

كيف هز السؤال الكبير الفك المشدود! قال على مسمع من الزميلين: “سنجرب القوة مع رفيقك وسنرى. صاحبك الثوري الصغير هو دميتك الضعيفة، أليس كذلك؟ صديقك هو عبدك المطيع، ستنهار شجاعته بدونك وسيروي لي القصة كاملة”. 

كان الرجل المقيد من يديه إلى الأنبوب متيبسا مثل رف، وكانت عيناه تحدقان مباشرة إلى كون آخر، وشفتاه المفتوحتان متجمدتان كما لو كانتا في منتصف الكلام، ورأسه تومئ في طاعة فيما كان السؤال الكبير يدفعها من جانب لآخر.

قال “عندئذ ستتمنى لو كان لديك سِنٌّة من السيانيد مخبئة في فكك، بحيث يمكنك ابتلاعها للهروب مني! لأنني السؤال الكبير! وأقسم أنه في نهاية المطاف، سوف تجيبني!”. فتح باب غرفة الاستجواب، ثم عاد إلى الرجل وعيناه متلألئتان ولا تزال ملامحه المبتسمة مضغوطة في قطرة متدلية: “أوه – ولا تذهب بعيدا!”. فتح الباب على مصراعيه.  لكن الزميلين اللذين يقومان بأعمال الكشط لم ينظرا قط إلى تلك الغرفة. كانت تلك هي لعبتهم. سمعوه يهتف بهجوم مبهج:

“أهلاً ، أهلاً! لتدخل إلى مسقط رأس المعاناة!”.

قال صوت غريب بسرعة: “لدي موعد آخر”. بالنسبة لرجل يواجه التعذيب، كان صوت “رفيق” ساخرا على نحو غريب.

تمتم أبو فلان بازدراء، ويده الضخمة تكشط” “مسقط رأس المعاناة! هذه شراسة”. وضع الصحيفة على الكومة. كان هذا الثور الكبير أبو فلان ضعف حجم السؤال الكبير، وكان يجب أن يكون هو نفسه المحقق، ولكن وجد أنه بارع ومبدع للغاية بالنسبة لهذا المنصب. كان الجميع يعلم أن السؤال الكبير كان أغبى رجل في النظام – أنه سيخطئ في اللون الأبيض على أنه أسود إذا كان ذلك يناسب خططه. كانت الحياة مليئة بالظلم!

وضع أبو فلان صحيفته على الكومة. واصل الزميلان عملهما دون كلل، وهما يصدان قوة العالم الخارجي بفعالية تضاهي سد أسوان. كانا ينظران إلى كل صورة، وعلى نحو غريب، دون أي رغبة ملتهبة على الإطلاق، ربما لأنهما كانا يشعران بالحنين لهذه الأخبار الصغيرة في الصحف المحلية في أسفل الصفحة: “قطعت يد جحا بن جحا هذا الصباح”.

قال بن فتحان: “صورة مغلوطة – صورة وردية – يا ترى هل أخبرتك أن زوجتي تستطيع التعرف على عملي في أي صحيفة في أي دكان تذهب إليه؟”. لم يقل أبو فلان شيئا بل طمس كاحلا نحيلا.

“إنها تقول إن خط يدي الأسود به توق أكثر، وغنائية أكثر من أي خط آخر في البلد. تقول لي  “شوف يازوجي”، ثم اتخذ نبرة مناجاة أنثوية، “سأخبرك بشيء أنك نقي جدا بحيث لا يصعب عليك أن تعرف ذلك بنفسك: الرجال الآخرون خبراء في قراءة شكل جسم أي امرأة من خلال القماش الأسود السميك السابغ”.

وخار أبو فلان “أي نعم”.

“بس أنت،  قصدي، ضربات فرشاتك السوداء السميكة تصيب كل الرجال بالعمى! أنت شاعر بكل ما في الكلمة من معان!”. ودفع قبضته في الهواء مزهوا: قلت لها “والله أنا معاكي!. هذا هو أنا!”. كل حذف هو بيت في قصيدة”. رفع قلمه السميك عن نهدي امرأة قائلا “والسيف والرمح والقرطاس والقلم”. وانقض قلمه الأسود ليدمر فتحة صدرها كلية. 

قال أبو فلان “جيد مفيد” وشطب يدا تربت على كتف.

ساد الصمت. وألقى بن فتحان نظرة على العملاق “لا ادري، ما الذي أوصلك إلى الوظيفة”.

“الواسطة”.

وسأل بن فتحان بلغة موحية “ما في أزعر آخر الجسر؟…وزوجتك، حبيبتك من ناحية فرضية بالطبع – هل هي راضية عن التضحيات التي تقدمها من أجل مهنتك؟”. وخرج صوته مثل صرير ممزوج بعرضية مصطنعة.

والتفت إليه أبو فلان وبدت عليه نذر الخطر مثل ثور كبير مهجور “إذا أغلقت فمك، فسوف ادعوك لتناول العشاء”. 

“العشاء..هذا منتهى الكرم منك”.

وحدقت الزرافة ذات الرقبة الضخمة من فتحتي عينيها الضيقتين إلى عيني المحارة المضيئتين ونطقت بصوت واضح “أغلق فمك”.

كان هناك صمت طويل، حلم أبو فلان خلاله بأنه يلقي برفيقه على أرضية الغرفة حتى تلامس ذقنه التراب. ومن غرفة التحقيقات هبت رائحة خشب محترق وأيضا، للغرابة، طلاء محترق. وراح أبو فلان ينقب في الصحف مثل عامل بطل سوفييتي عظيم، أو ثور ابيض قوي يجر المحراث. وقال بن فتحان في صوت هيوب صغير، “هل يمكنني أن آتي بأي شيء إلى العشاء؟”.

وانزلق قلم أبو فلان الحقود مثل سيارة ترتطم بامرأة جميلة ذات هيكل عظمي خالد.

“لقد أفسدت كل شيء! أخرس! سوف أبلغ عنك الإدارة بتهمة العصيان الإيديولوجي!”.

وكان هنا صوت تحطم! انفتح باب الرواق على مصراعيه. وأطلق شاب هيكل النيون، الذي جاء بجو شديد من الأزمة “حالة طوارئ يا معلم! أزمات شديدة. لدينا هنا شفاه تقبل شفاه!”. وألقى بكومة جديدة من الصحف أمام كل رجل. ثم تشمم باب غرفة التحقيق “يا له من أمر غريب – إن لحمه يحترق برائحة الخشب!”. تلبث متسكعا وهو غارق في عرقه يدعك عينيه، لكي يسترق السمع لكل الألم.  

كان الرجل ممددا مشلولا على الكرسي وهو مربوط بالأنبوب، وكانت عيناه مفتوحتان عن آخرهما ومجمدتان. تمدد مثل إطار ثابت من مشهد يعرض للمرة الأولى من فيديو مرعب. وإلى جانب أذنه، كانت الأنبوب المثبت على الجدار يسعل. تمدد بدون أي فهم. وكان يمكن أن تحمل عيناه المحدقتان أي معنى – مدمر بفعل الصدمة، أو في حالة من الجذل من السخرية، أو يركز بصورة يائسة على كل لفظ ينم عن الخيانة يصدر من رفيقه المرعوب في الغرفة المجاورة. 

وبالطبع طوال هذا الوقت كان احد الأسباب للتوتر والحنق بين الزميلين، اللذان كانا يواصلان شطب شفاه هوليوود المرطبة، هو شعورهما بخيبة الأمل من مبادرة الاستجواب حتى إنهما شعرا أنها مسؤوليتهما أن يسترقا السمع. وفي ظروفهما الفريدة، كان طنين النحل المرتفع لمثقاب هو آخر شيء في العالم يمكن أن يحركهما بالرغبة الحارة. كان ابن فتحان بالطبع باعتباره شاعرا، يحب أن يقرن أصوات الألم بالتعذيب ذي الرائحة العطرة في خياله. غير أن حالته أصبحت أكثر وأكثر غرابة وإحباطا. 

أولا وقبل كل شيء عندما فتح السؤال الكبير الباب ليعود إلى غرفته، سمعا صوتا يصيح في بهجة “عاش من شافك”، مع صوت عال غريب مثل بالون يلفظ غاز الهيليوم.

وأجاب المحقق “بالنسبة لك يا عزيزي ..تفو”.

عندئذ كان صوت الهيليوم مرتابا: “شوف حالك! أين تعيش؟ أنت بصقت علي. لماذا؟”. كانت كلمة الهيليوم الأخيرة بمثابة صرخة كما لو كانت ربة منزل في الحارة. 

“تعامل معه أيها الأحمق”. وبدأ صوت المثقاب يصدر أزيزه وبدأ لعاب الزميلين يسيل.

وقال صوت الهيليوم بلهجة مفرطة في التعقل “لا تبصق، اكتف بسؤالي!”.

“اكتفي بسؤالك، أنت أيها الكلب؟”. وسمع الأنين الميكانيكي العالي. وقال المحقق “طيب، ترى كم تحب أصبع قدمك الكبير”.

قال فيما يشبه الثرثرة “لقد عشقته على مدار سنوات، ليس بيننا حواجز، هل تفهم ما أقوله؟”.

كان هناك هسيس وانتشرت رائحة اللحم مثل الخشب المحترق.

ارتفعت صرخة الهيليوم عالية كما لو كانت أعلى نغمة من عود يغذيه صوت طفل يجلس على الكرسي الكهربائي – “لا، أنا أحب ذلك الأصبع، أنا أحبه، بصدق، ليس لدي شيء آخر في ذهني” ولكن فجأة انحدر الصوت إلى إعجاب متملق: “نعم! – ولكني لم أره أبدا قريبا مني على هذا النحو من قبل!”.

“وما الذي تعرفه غير ذلك، يا ابن الزانية؟ الأصل الإيديولوجي وجنسية رفيق السلاح لديك؟ يلا أمشي! غني مثل الهدهد!”. وكان هناك ذلك الهسيس مرة أخرى.

وقال أبو فلان متهكما وهو يواصل الكشط “غن مثل الهدهد. إنه يعتقد أنه رجل! انه مجرد كليشيه حي”.

كانت عينا الرفيق المشلول الخضراوين تحدقان دون وعي. كان فمه الصامت مفتوحا وثابتا، كما لو كان في منتصف الكلام. لم يكن على وعي أن خيانته كانت وشيكة.

غير أن بن فتحان استخدم خياله الشعري مع الصرخات. كانت الصرخة في الغرفة المجاورة هي الصوت اليومي لأحد كلاب الشوارع الذي قطعت أذنيه ويتم جره بحبل خلف دراجة نارية مسرعة. حاول أن يمزج صرير المسامير التي تحتك بالسبورة لكي تصبح “عصيرا” غير انه لم ينجح تماما. وكان ذلك يرجع بصفة رئيسية إلى أن صرخة الألم تحولت بسلاسة إلى بعض ضوضاء الطيور الحيوية والسائلة. تبع ذلك ضحكة فاترة: “آي. ما الذي فعلته أنا. لم افعل سوى إتباع الأوامر، صدحت مثل الهدهد!”.

زعق فيه السؤال الكبير في سخط “عليك أن تشعر بالألم وإلا سأضاعفه!”.

وصرخ صوت الهيليوم بطريقة عقلانية “كيف يمكنني أن اشعر بالألم؟. أنا لست الهدف!. أنا مجرد رجل. هدف جريمة الكراهية هو الحب!”. وضحك كما لو كانت هذه هي أفضل نكتة في الكون.

وانطلق بن فتحان في صوت من التسلية الودودة الزائفة، وجه عميل يشعر بخيبة الأمل وهو يكشط قائلا “حسنا، ليس هناك من سبيل للاحتفاظ بانتصاب فيما يتعلق بهذا الرجل؟ اسمح لي أن أسألك – “. وفي سرعة البرق كان الرجل الماكر على وشك أن يسأل زميله سؤالا آخر عارضا، ولكن أبو فلان بادر بالهجوم، حيث قفزت يده وضغط إبهامه الضخم على رسغ بن فتحان. 

اهتز كتفاه العريضان بضحكة ساخرة “لا..لا..لا. لا أسئلة حتى تجيب على سؤالي أولا”. ونظر الثور إلى بن فتحان، الذي تأرجح مثل شجرة صفصاف، وشعره أشعث مثل عُرْفِ الديك.  “سؤال مقابل سؤال”.

وصاح الآخر، بلهجة الاكتشاف “آه – شكلك منشغل” – وقال له كما لو كان زوجته – “ما الذي حدث؟”.

وصاح أبو فلان “هذا هو سؤالي!”.

“أمرك”.

راح الرجلان يكشطان المزيد من السيقان المفرودة والمزيد من الأذرع المتشبثة ببعضها البعض. وغمغم بن فتحان ببراءة كاملة “كل علامة سوداء هي بيت من الشعر”. وبدأ في إضافة زخارف فنية من عنده. وغطت صاعقة برق نازية الفجوة بين زوجين من الأفخاذ. ضرب أبو فلان على قلم التحديد الخاص برفيقه، ثم قال بحدة وبتأن:

“تينتان اثنتان!”.

ورفع بن فتحان عرف الديك لديه وحدق فيه، كما لو كان ينظر في عيني شخص معتوه “تينتان اثنتان!. هل هذا هو سؤالك؟”.

وقال أبو فلان بانتصار وهو يكشط على شيء بحركة مسرحية “تينتان اثنتان… أنت تعرف طبعا، ما أشير إليه” 

“ليس لدي أي خيط!”؟

وحدق أبو فلان بعمق في عينيه. وانسحبت ذقن ابن فتحان الصوفية أكثر من العالم. وجاء شاب النيون بالصحف وكان ينظر من رجل متعرق إلى الآخر. وعكست الطاولة الحمراء رقبتيهما المتعرقتين.

“أنا أسألك، من في هذا المكتب كل يوم يسرق التينتين الكبيرتين اللتان تلفهما لي زوجتي كل صباح، في استعراض قبيح لسياسات المكتب؟”. لم يظهر أي رد فعل على الرجلين الآخرين وكذلك المشلول. “كل يوم تلف لي زوجتي المحبة تينتين كبيرتين للمكتب. أنا أجوع – ولكنهما تختفيان”.

كان الصمت الناتج مفعما بغموض موحش.

وقال له بن فتحان ببطء، وهو يشير إلى شاب النيون: “قل لي، هل تعتقد انه أمر غريب أن يكون لدى هذا الصبي الكثير من الإسهال؟ في نهاية المطاف هو نوع من القذف المبكر”. ومال ناحية أذن أبو فلان بصورة سرية “يقال إن التين هو عاشق الإسهال”.

وانفجر بن فتحان “من مصدرك الأمني، المعلومات ذات القيمة السياسية هي الإسهال”.

وحدق تجويفا العينين في جمجمة شاب النيون في عصبية من زميل إلى الآخر. ومزق قطعة من إحدى الصحف وغمغم شاب النيون وهو يركض خارجا من الغرفة بدون اتهام “أنا في الحمام”.

وصاح أبو فلان في بن فتحان “التين لا يؤكل!. كل ليلة قبل أن أغادر أجدهما مرة أخرى، على الأرض تحت هذه المائدة! أجدهما هناك – تينتان ضخمتان مهروستان ومحطمتان، في فعل من أفعال الفوضى الكاملة! وتكون رائحتهما بشعة. إنها رائحة مواد إباحية كما لو كان احدهما قد دفعهما في مؤخرته”. دفع الهمجي أنفه في وجه الشاعر. كانت أنفه مثل سيارة تعرضت لحادث. “أجبني الآن، من هو هذا المجرم؟”.

وتنهد بن فتحان في النهاية بأسف صادق “إنها ظاهرة تشاؤمية. وقد أعطيتك أفضل إجابة لدى. وان تأخذ الأمر في الاعتبار الآن، فان إجابتي الأخيرة هي، لا اعرف. للأسف، أنا اعتبر السؤال: من يفعل هذا؟ يجب أن يظل سؤالا خطابيا”.

بالطبع فإن المثقاب الذي كان يعمل الآن في غرفة الاستجواب لم يكن مثقاب طبيب الأسنان، لأن ذلك ما كان يعتبر كافيا للمهمة. ولكن صرخة الإدراك من الضحية، وصفت على وجه الدقة صوت غزو مثقاب في المغارة الهائلة في نفق عصب متفسخ.

وكانت صرخة الهيليوم صرخة ألم خالص”لا! لا تفعل ذلك! لا تربت على خلاياي العصبية! هذا غير لائق تماما! فلتحفظ روحك الخالدة- آه. أنت فعلتها. لقد ربتت على خلاياي العصبية!”. واندفعت حول رأسي الزميلين اللذان كانا يشطبان ريح سموم هائلة من نشارة الخشب. أطلق أبو فلان صيحة اشمئزاز واحتقار “أف، انه يحفر في ذراع المقعد مرة أخرى!”. والآن تناثر على الزميلان طبقة خفيفة من قشرة الرأس من اثر النشارة الشاحبة، التي استقرت مثل ضوء شديد ساقط على أكتافهما ورؤوسهما.  

وانطلق صوت السؤال الكبير: “من أرسل رفيقك الشيطاني ليقدم هذه المزاعم؟”. وجاء صوته المتموج وهو يصفع وجه ضحيته “هلم! قل لي أيها الأحمق”.

وقال صوت الهيليوم في نزق “أذن اجعلني افعل. إنا لست خائفا من الألم التالي، أنا خائف من شاشة الكمبيوتر التالية”.

وألقى الزميلان اللذان كانا يشطبان نظرة على الرجل المشلول وفمه متجمد ومفتوح في فتحة بليغة والضوء الذي يسقط ساخنا عليه. كم بدا متنافرا: مثل ممثل فودفيل مصري قديم في أرض الخشب، يمثل وحيدا في الربع الخالي. كانت عيناه الواسعتان تحدقان في الضوء المخيف الذي يسقط عليه بشكل قطري من باب غرفة الاستجواب. هل كانت عيناه تبتسمان بسخيمة أم أنها كانت خالية تماما من أي معنى؟ من الصعب معرفة ذلك. مثل الجلوس في السينما عندما لا يكون المرء متأكدا إذا ما كانت الإضاءة قد بدأت تخفت.

نعم كانت غرفة الاستجواب غرفة بها ضوء منتظم ومبهج، مثل أسنان بيضاء يخرج منها صوت المثقاب، ولكن الآن، لم يكن هناك أصوات للألم. فجأة توقف السؤال الكبير وصرخ :

“أنت لا تصرخ!”

قال صوت الهيليوم كما لو كان هذا هو أوضح سبب في العالم “أنت لا تصور”.

“طالما أنت لا تصور فأنا لا اصرخ. هذا موجود في عقد القمع الخاص بي. يتعين أن يكون ألمي هو نجم لفيلم تجنيد جديد، وإلا فلننس الأمر”. كان صوته غارقا بسبب تسريع صوت المثقاب وتشظي الخشب أو العظام.

كانت الصرخة التي أعقبت ذلك، كما تخيلها الشاعر بن فتحان، هي صرخة مستلهمة من امتصاص النخاع باستخدام مكنسة كهربائية من الطرف المحطم المفتوح لعظمة الذقن. كان يحب أيضاأن يتخيل العينين الجميلتين للمحقق وهو يشاهد ذلك. “قل لي من أين جاء رفيقك الشيطان”. وخرج من الصوت النافذ عويل مغرغر وصادح  انتهى بقوله “موريتانيا! موريتانيا! موريتانيا!”.

كان انتصار السؤال الكبير واضحا: “من موريتانيا! شو تعرف كمان؟”.

“لا، مرة تانية. احفر في انفي بالمثقاب، مرة تانية، آه ها هي البقع-“

“يلعن أمك! أنت تحاول استفزازي لإنهاء معاناتك!”.

وصرخ صوت الهيليوم “أنا أقسم لك! لدي بوصة من الجحيم هناك”.

وزأر في غضب: “ولكني لن افقد سيطرتي على نفسي! أنا اشعر بالكثير من البهجة!”.

وصرخ صوت الهيليوم إذا كان يمكن للصرخة أن تكون مشحونة بالإيحاء: “حقيقة؟. هل تشعر برغبة مشبوبة؟ وعضوي فيك، طبعا!”. (قال أبو فلان ساخرا “الكثير من البهجة!”)

وحفر المثقاب ثقبا مثل يعسوب غاضب “كل خرا يا كلب!”. وصرخ صوت الهيليوم ساخرا “لدي رغبة حارة!”. وبدأت الصرخة تعلو ولا تتوقف، حتى أن الأقلام السوداء الشريرة للزميلين توقفت فوق الحلمات، ثم توقف الصوت بحكم خبيث: “عادي”.

في تلك الثانية وعلى غير توقع، شن بن فتحان هجومه، تحركت رأسه وهو يسأل أبو فلان: “اسمح لي بمقاطعة بسيطة: أنت تدين لي بالإجابة على سؤال. أنا أجبت على سؤالك، والآن عليك أن تجيب على سؤالي. أليس ذلك معقولا؟”.

قال الهمجي وهو يكشط صورة “معقول. حسنا “. استدار إلى بن فتحان، ورأي جسده كله معكوسا ومحدودبا في تلك العيون الجذلة التي تشبه المحار “ما هو سؤالك؟”. 

كانت الغرفة مشيدة من الزوايا ذات الظلال، أكثر ظلالا من حكومة ظل. كانت حيوانات السمندل تزحف على الجدران البيضاء، تزحف على البحار الصديقة في البطاقات البريدية التي أرسلها هذان الصديقان لبعضهما البعض من العطلات، مما يعطي انطباعا متواصلا بالتدقيق. 

تظاهر بن فتحان بأنه يفكر. كان مُحرجا أن تراه. “ما أردت أن أقوله لك؟ آه – هذا هو”. كشط أصبعا يربت على راحة يد. وواصل “سؤالي هو – ما هو اسم نجلك، إني أتساءل؟.كان سؤالا غير متوقع ومحددا للغاية.

وكرر أبو فلان الكلمات “ما هو اسم نجلي؟”. كشط كوعا وقال بتأن “اسم نجلي هو فلان”.

“ما اسمه؟. لتكن جادا”.

شعر أبو فلان باستياء بالغ “أنا جاد للغاية. أطلقنا عليه اسم فلان. وأنا أبو فلان”.

وانطلق بن فتحان في ضحك بريء تظاهر كما لو كان ينتهي بلهاث لالتقاط أنفاسه وابتسامة؟ “إنها نكتة وجودية ياشيخ”.

واصل أبو فلان في مرارة شديدة “لكي اعلمه في اقرب وقت ممكن أن الحياة حافلة بالطريف”. 

انطلق بن فتحان في الضحك ثانية “حافلة بالطريف!”. وقرص ذقن صديقه بمودة: “هذا مسلي، واصل الابتسام لي…”. وتظاهرت عينا المحار اللامعتين بالضحك البريء.   

وفجأة ضرب أبو فلان المائدة بشدة حتى أن الصحف تراقصت “حافلة بالطريف. وتينتين كبيرتين!”. ثم هرش خصيتيه ورفع قلمه ثانية. وقبع بن فتحان مثل ممثل رديء. ولكن ليس لفترة طويلة.

وفي مكان ما خلف هذه الغرفة التي بلا نوافذ، نعق باب الحمام، الذي يحتاج إلى إصلاح، مثل غراب. أو ربما كان هذا هو إسهال الهيكل العظمي الساذج الضئيل. ووقعت عينا ابن فتحان على سمندل على الجدار مثل فكرة وقال:

“كم أتوق إلى لقائه. في غدائك غدا”. ثم أضاف بسرعة قبل أن يلاحظ زميله “ولكن اسمح لي بسؤال، انه غدا، أليس كذلك؟”.

كشط أبو فلان يدا تلمس كتفا، ثم استرخى ومد ذراعيه بضحكة مفعمة بالرضا: “انك لن تحب أن تلقاه – انه أضخم وأقوى مني!”.

وقال ابن فتحان في توق “آه – صحيح؟”.

وفي فورة كبرياء مفاجئة تطوع أبو فلان قائلا “انه في أمريكا يدرس لدرجة الماجستير في كمال الأجسام”.

وصرخ بن فتحان “كم هي مصادفة جميلة!”. كشط يدا على كتف أيضا. “حتى ابننا العزيز! بالطبع هو أكثر انفتاحا وبلاغة مني! انه يكتب رسالة عن موضوع اللعاب”.

تناول أبو فلان صحيفة جديدة.

“لاشك انك فخور للغاية به”.

ولم يرد أبو فلان.

عاد بن فتحان إلى الغناء بصوت هامس وهو يعمل: “صورة مغلوطة..صورة وردية..صورة شرموطة..صورة رفيعة….”. ارتفع صوته بالأغنية مثل دخان وامتزج بنفحة من أبخرة الحبر المنطلقة من الأقلام، لتنخر انف بن فلان.

ثم فجأة توقف صوت ابن فتحان بصورة غريبة ومستفزة وأعلن : “ولكن على الرغم من ذلك، لا يمكنك أن تحب ابنك كثيرا لو أسميته هذا الاسم-“.

وانطلقت حمم البركان من أبو فلان. بالطبع توقفت الأنشطة في الغرفة المجاورة. وحدقت عينا الرجل المشلول في العدم. “والله انك تتحدث بلسان مسموم!. أنا أحب ابني..ما في حاجز، فاهم قصدي؟. إن ابني هو عرقي، ابني هو نطفتي! ابني هو الروعة الوراثية لديمومتي الخالدة!”. وأصبحت عيناه مليئتين بشعور بالمجد.

وكان ابن فتحان مقززا في تزلفه “إنها كيمياء الحب!”.

ينبغي أن نلاحظ الآن، لكن نكون دقيقين، أن التعليق المستفز تفوه به صوت بن فتحان، ولكن ليس القصد هو أن بن فتحان نفسه هو الذي تفوه به. بفضل بعض طاقة السحر الغريب، وجد صوت بن فتحان حياة خاصة به، بدون أن يكون له يد فيها. وكان بن فتحان على وعي بذلك، على الرغم من انه لم يفهم السبب، ولكن العبارة التي نطقت بصوت عال كانت ملاحظة جيدة، وكان خادما لفضوله، ولذا لم يتعجب بشأنه وفي قبضة الفرصة، كان سريعا في امتلاكه. وهكذا، ابتسم في نوع من الرضا عن الذات. وكان أبو فلان يحرك قبضته باتجاهه ويلقي المثل متفاصحا مع التعريض:

“عين الحسود فيها عود”.

وخطر لابن فتحان انه من الأفضل ألا يتفوه بشي. ولكن صوته السحري كان له حياة مستقلة وفكر في شيء مختلف. وفي دقيقة سمع صوته السحري في الغرفة، وهو صوت شائن ينز بمثل من إبداعه:

“خصيات الطيور فيهم الغيور”.

لم يكن بن فتحان نفسه يعرف معنى هذا، أو لماذا كان له تأثير محدد على أبو فلان. ولكنه حاول انه يبدو واسع الاطلاع. كما أحب سماع صوت نفسه.

قاطع ذلك صرخة من الهيليوم. واستدعى بن فتحان خياله، امرأة تلد بدون مسكنات قتل وليدها المحتبس بانزلاق المبضع أثناء شق الفرج. كان صوتا مجنونا بوقاحته “لن أقولها!. لا يمكنك أن تلوثني بطلبك!”. ولكن الزميلين اللذان كانا يكشطان الكواحل العارية لم يتساءلا ما هو الأذى، لأن الصوت نفسه أصبح أكثر ترويعا من أعمال السباكة الدموية التي كانت تصاحبه.

وصاح السؤال الكبير “أعترف بها! قل ما أطالب به!”.

“دايما وأبدا! ابداااااا!”.

“نشوف: بكم مؤخرتك الصغيرة؟”.

“آه..لا..لا تدفع ذلك المثقاب أكثر أنك ستوقظ دودتي الشريطية”.

وراح المثقاب يصفر في عنف. وامتدت صرخة صوت الهيليوم مثل المطاط في ألم تحول فجأة إلى صرختين لبوق مهرج ثم ضوضاء إطلاق هواء طويلة.

وقال السؤال الكبير وهو يختنق بأدخنة اللحم مثل الخشب المحترق “قلها!. اخرج باعترافك!. قل أنا فنان! وكل خيانتي هي عمل فني جميل!”

وانطلق صوت الهيليوم النافذ ليصرخ بآخر كلمة ببراءة سريالية “لا..لا..يا حبيبي – هذا سيكون كذبا”.

“إن كذبك اللعين هو الكذب!”. وراح المثقاب يصرخ والصوت يصرخ وغبار المنشار يطفو خارجا وتحولت صرخة الهيليوم أولا إلى غرغرة ثم تحولت إلى سؤال خجول: “عن جد؟ هل أنت مخلص، هل تعني ذلك حقيقة – إنني يمكن أن أكون فنانا صادقا بالمعنى الكامل للكلمة؟ أنت مسست قلبي! دعني أقبلك!”.

بالطبع كان غامضا ومخيبا للآمال انه، على الرغم من الصرخات ورائحة الاحتراق، كانت روح الهيليوم قادرة على تحمل الألم. خاض التعذيب مثل شخص يثرثر خلال بث أغنيته المفضلة في الإذاعة. وشكا بن فتحان وهو يلقي بصحيفة جرى كشطها قائلا: “ليس لديه إحساس بالمناسبة”. تبخر حلمه بعيني المحقق الجميلتين.

كان غريبا أن أبو فلان لم يستمع إلى أي شيء من ذلك. وذات مرة دمدم لنفسه “تينتان اثنتان”. كان يعمل في الصحف بغضب متزايد. كان اللحم الوردي يمر أسفل أصابعه مثل حروف كتابة المكفوفين التي لم تكن تشعر بها – كما لو كانت يديه الضخمتين تستطيعان، مع كل كشطة، أن تمحو كل همسة، كل تمتمة، وكل ملاحظة خلف يد كانت بمثابة كذبة فظيعة.

وسأل بن فتحان “هل يمكنني أنأسجل نقطة؟”. لم يجبه أحد، لا أبو فلان ولا الرجل المشلول الذي كان مائلا، وشفيته لا زالتا مفتوحتين، مثل رمز أبو الهول. وقال بن فتحان في بهجة :

“شكلك منشغل”.

قال البلطجي في لهجة تهنئة خطيرة : “صحيح! أريدأن اعرف أي رسالة تقصدها من المثل”.

قال بن فتحان ليكسب الوقت لأنه لم يكن لديه إجابة: “أي مثل؟”.

غير أنبن فتحان لم يكن بحاجة إلى إجابة، لان صوته السحري في الهواء أجاب بدلا منه. ولو رفع أبو فلان عينيه عن عمله مرة واحدة، لرأىأن فم بن فتحان كان مغلقا. ولكنه لم يفعل. كان الصوت مثل صوته، ولكنه كان موحيا أكثر: “ببساطة، أنا عكست معادلتك حول فكرة الغيرة. خصيات الطيور تشعر بالغيرة لأنه مقارنة بالكائنات الأخرى، تعد خصيات الطيور صغيرة للغاية حقا”.

وخار أبو فلان “خصيات الطيور غير موجودة. هذا هو ما تعنيه، أليس كذلك؟”.

وقال بن فتحان “لا..صدقا، لا اعني أي شيء بشكل خاص.. – “.

وأضاف صوت بن فتحان السحري بمكر “بشكل خصيتين”.

وأضاف بن فتحان الحقيقي “في أي سياق – خاصة الخصيتين”.

وصرخ بن فلان “أنت تحاول أن تورطني في سياسات المكتب”.

انطلق صبي النيون إلى الغرفة وهو يصيح مترنحا من أكداس الصحف التي يحملها “أزمة مخيفة..أزمة مخيفة. لدينا أشياء! آلاف الأشياء!”. تحرك صبي النيون ذو الهيكل العظمي بين الزميلين كسيف من الضوء، وهو يلقي بأثقاله.

أدركأبو فلان فجأة وهو في حال من الصدمة انه تقريبا فقد سيطرته وعاد ثانية إلى الكشط. راح الرجلان يكشطان ويكدسان الصحف تحت سقف يرشح بالرطوبة مثل بطن حصان عجوز. كانا يبدأان كشطهما في النقطة الوردية من كل سرة. وكان الهمجي الضخم يقوي عزمه بتكرار عبارة صعبة النطق “من يشاه الشهوة يشاه شنقا”.

كان بن فتحان صامتا، ولكن صوته السحري لم يكن صامتا. كان يطفو بسهولة في الهواء فوقهما ولاحظ “الكشط، الكشط على الدوام. السمة الخاصة التي نحتاجها من أجل هذه المهنة! هل هناك سمة أخرى خاصة أكثر من ذلك؟ شيء واحد آخر؟ أن تلوي المثل القديم “إلى انكتب على الجبين لازم يتشاف بالخصينين -“.

كانت عينا أبو فلان حمراوين مثل جرحين مجاورين جرت خياطتهما، وكانت ذقنه زرقاء وبدأت لحيته في البروز. كان هناك سد هائل كسد أسوان بداخله على وشك أن ينهار. كان عزمه متأرجحا وكذلك الموجة المتكسرة لشفته السفلى، ولكنه استمر في تجاهل الصوت السحري ومضى يكشط ويكشط. كان يحلم بأنيأخذ حماما ويتناول القهوة ويشاهد مباراة لكرة القدم في التلفزيون. ولكن بالطبع، استهلك طمس جسد ابيض كامل لا يرتدى سوى حزام الكثير من الحبر الأسود. ونشر الكثير من الحبر الكثير من الأبخرة المجنونة المتقلبة، وجعلت الكثير من الابخرة العامل البطل مكرها على نحو متزايد في عمله. 

اشتعلت عينا المحارة لبن فتحان، الذي كان يكشط إلى جانبه بالشحوب حتى انه بدا كما لو كانت عيناه مصابتان بالمياه البيضاء عوضا عن النظارة. كان مشلولا من فرط التوقع. شم في الهواء رائحة المعدن الذي يسبق هطول الأمطار مباشرة. شعر برغبة كبيرة في الإفشاء، إفشاء كان هو هدف كل أسئلته العارضة لزميله، دقيقة بدقيقة، على مدار أشهر. يا لها من ذروة! أي عدالة في العالم!. وهو نفسه لم يكن عليه أن يبذل أي جهد!. كان الصوت السحري يقوم بكل العمل!.

واستمر الصوت السحري بعضته التي تشبه سنة مسمومة “بالطبع بعض الناس شهوانيين حتى أنهم لكي يقوموا بعملهم، عليهم أن يقوموا بالتضحية الأخيرة. وهذا هو السبب في أنهم غنوا أغاني عبدالوهاب بصوت فيروز. لان الصحف عندما تعلن أن جحا ابن جحا بترت يده فإنها لا تضيف أن الحلاق الذي قطع اليد يقطع أشياء أخرى أيضا”.

وانطلق صوت المطرقة الثقيلة، وقرقعة تكسير العظام من الغرفة المجاورة، فيما راح السؤال الكبير يصرخ في صوت مجنون “اعترف بأنك منتقد للنظام”.

كان صوت الهيليوم عاليا وثرثارا مثل ربة منزل “أنا؟ أبدا”.

وزمجر المحقق بقهقهة هائلة : آه..أنا آسف، سامحني أنت “فنان”.

بدا صوت الهيليوم كما لو كان شخص ما تجرى ملاطفته في برنامج مسابقات في التلفزيون “من أنا. صحيح؟”. ثم صرخ بصورة فظيعة : المثقاب عضه، أو ربما كان المحقق نفسه الذي زأر:  “شوف؟ لدينا فسحة”. وقال مقلدا صوتا عاطفيا “أنت لا ترمي إلى الانتقاد ولكن عليك أن تعبر عن ألم فني عظيم”.  

وقال صوت الهيليوم بلهجة ثرثار “لا لا لا يا حبيبي”. وراح صوت الهيليوم يشرح ببساطة كما لو كان يشرح لمعتوه “لا، ما أريدأنأقوله لك؟ هذه هي”.  

وتابع “أنا فنان؟ كلام كلاب! أنا لست فنانا. أنا لست مهيجا. يا حبيبي. أنا كوميديان! أنا مهرج! فاسق!”. وتغير صوته إلى صوت انتصار فخور مهيب “أنا اعترف في النهاية! أنا الفاسق الفدائي للنكات المرسل من النظام الانتقامي للفكاهة لجعلك ترى الحقيقة التي تعد حتمية ومخيفة – وهي أن النظام……”.

كنت الغرفتان صامتتان تماما. ثم انفجر صوته:

“حافل بالطريف! حافل بالطريف..حافل بالطريف..حافل بالطريف”. ومضى يثرثر بسرعة عالية ذات حدة الكترونية نافذة، وهو يكرر ويكرر مثل نغمة الرنين. كان المثقاب يدور بسرعة، وهو يعمل في مادة مقاومة. وتبع ذلك فيض من الغناء الباكي وصياح البوق والغرغرة وضوضاء إطلاق ريح طويلة. ثم تبع ذلك صمت كامل ومميت. 

راح الزميلان يكشطان بسرعة الأفخاذ التي بدت كما لو كانت تتشنج تحت أيديهما – ولكن ليس بنفس سرعة الصوت السحري السام لبن فتحان الذي قال الآن: “يقال إننا عندما نقطع يد رجل، فإنه يظل يشعر بأشباح الخلايا العصبية. انه يريد أن يهرش يده التي اختفت”. توقف قليلا ثم ألقى الجزء المضحك من المزحة مثل فدائية في سيارة مسرعة تلقي قرصا مدمجا لرهينة إلى بهو قناة تلفزيونية: “لاشك أن هذا هو السبب في انك تهرش خصيتيك كثيرا يا أبو فلان!”.

وانفجر وجه أبو فلان مثل أحد المعالم الأشورية.  وألقى بقلمه الأسود السميك، وقبض على حلق بن فتحان قبضة محكمة حتى أن شعر فتحات انفيهما اختلطت ببعضها البعض وصرخ صرخة عالية تكفي لهز المبنى: “أنت ليس لديك أي خصيات أنت الآخر”.  

وقال بن فتحان بهدوء وبشكل متعجرف “آه طبعا، أنا لدي!”

“أنت كاذب، لقد قطعوا خصيتيك أيضا! انه مطلب لا مفر منه للمهنة! لو وضعت يدي بين فخديك لما وجدت شيئا!”.

وقال بن فتحان ساخرا “سوف تجد تفضيلاتك الجنسية الحقيقية!”.

ودفع الهمجي المائدة الحمراء بعيدا لتسقط من عليها الصحف في كل اتجاه، ودس يده بين فخدي بن فتحان. وأمسك شيئا ثم تجمد من هول المفاجأة. وأصبحت عيناه مجرد صفرين. وكان هناك صمت كامل.

قال ابن فتحان بلهجة عصبية “شكلك منشغل”. وارتعدت أنفه الصوفية. 

اكتشف أبو فلان أن هناك بين الفخذين بيضتين صلبتين. في الحقيقة، لم يكن زميله خصيا مثله. وأطلق عواء هائلا متفجعا، بينما كانت هناك ضحكة انتصار كبيرة من الرجل الآخر:

“نعم، أنا رجل!. أنا رجل وأنت لست كذلك”.

وأمسك الهمجي رأسه بيديه وانخفض التموج المقوس لشفته السفلى وتدفقت الدموع من عينيه اللتان تشبهان فتحة القرص المدمج. وراح يعول “أبني! أبني! أبني العزيز! ابني، اكبر وأقوى مني – ابني، العظمة الوراثية لوجودي الدائم! ليس له وجود”. كان رد فعل الهمجي مدهشا، ولكنه كان في نهاية المطاف إنسانا ولديه أولويات إنسانية. لقد أصبح عدم وجود وريث له أمرا علنيا.

وقال بن فتحان الذي انتقلت إليه عدوى الحزن “حقا! حقا!. أنت لست أبو فلان..أنت أبو صفر”. كانت هذه هي المعلومات التي يسعى بن فتحان إلى الكشف عنها طوال الوقت. ثم صاح بصوت متموج:

“وأسجل نقطة؟ أنت خصي” وراح يسخر منه مرددا أغنية عبدالوهاب “مالي ومال الناس! مالي ومال الناس!”. ونهض الهمجي الباكي بقامته الهائلة وذراعيه المفتولين اللذين رفعهما في علامة على الانتصار والرجولة. وأخذ بتلابيب الشاعر النحيف بيد واحدة ورفعه وهو يهزه، فيما راحت ساقاه تتحركان كما لو كان يسبح في الهواء مثل ساقي ضفدعة. 

 

ودفع شاب النيون عربة يد ضخمة من الصحف إلى الغرفة وهو يصيح “يا معلم؟”، ثم رأي المشهد؟ وصاح كلاهما في الرجل باقتضاب “أمن وطني..ما دخلك!”، ولذا انسحب وهو يغلق الباب. ورعد الهمجي في ضحيته المدلاة:

“إذا كانت خصيتاي قد هاجرتا، فلدي مئة ضعف عضلاتك الرجولية، أنتأيها اللسان الصغير المسموم! ما زال لدي النطف المخصبة للاستقامة الأخلاقية العظيمة”.

وقال له بن فتحان ساخرا “دعك من الولولة!”.

ولكن أبو فلان امسك بالشاعر عاليا، وهزه هزة عنيفة. وسمع صوت ارتطام ورأى حبتين من الفاكهة المستديرة تسقطان من مكان إخفائهما بين فخذي بن فتحان وتصدران صوتا مكتوما على الأرض. كان الصوت المكتوم أشبه بصوت طبلة بطيئة: تينتان قرمزيتان لامعتان.

وزأر أبو فلان في انتصار “تينتان ضخمتان. من عند مين. من عند مين!”.

وأطلق بن فتحان صرخة رجل تنتزع خصيتاه. “كافي، كافي!”. وراح بن فتحان يلطم وهو يضرب أذنيه بيديه – 

“كل شيء واضح! هذا هو المكان الذي تذهب إليه التينتان! لكي تخفيان الفراغ الأخلاقي بين ساقيك! أنت أيها المخادع..أنت أيها المنافق!”. 

وعندئذ أطلق بن فتحان عويلا شاعريا كبيرا من الوحشة “آه، يا ولدي، يا ولدي – نطفتي الجميلة المنفلتة!”. لأنه كان بالطبع إنسانا وأحد أبناء آدم. وانفجر باكيا في روح محمومة من المنافسة. “آه…يا ولدي الفصيح!”. ثم قال بكل مأساة الوجاهة الضائعة : “ليس لدي ابن يدرس لدرجة الماجستير في أمريكا! – أنا فقدتك إلىالأبد، لقد فقدتك إلىالأبدأيها الدافق الخاضع للرقابة!. لن اشعر أبدا بتلك النافورة ثانية”.

وصاح أبو فلان “وأكثر من ذلك: أنت شاعر بدون أسلوب..خصية واحدة”. وانطلق يغني “مالي ومال الناس..مالي ومال الناس”.

“تماما مثلما أنت همجي أمي فج بدون حتى خصية واحدة! مالي ومال الناس”.

وتبع ذلك توقف فيه تأمل. وواجها بعضهما.

وقال أبو فلان بعد أن سقطت الزرافة السمينة على ركبتيها: “نحن لن نخبر أحدا بذلك”.

وقال بن فتحان وهو يسقط على ركبتيه هو الآخر “لن نخبر أي أحد”.

قال أبو فلان وهو ينهض ببطء بابتسامة “بالطبع، علينا أن نتذكر أن الموقف الفعلي هو أمر لا يستلزم الشفافية. رسميا تعد هذه معلومات سرية”.

وقال بن فتحان وهو ينهض هو الآخر “بالطبع، نحن ملتزمون بالسرية”. وواجه الرجلان بعضهما البعض.

“اتفقنا؟”.

“اتفقنا!”.

وتصافحا بقوة. ولأن هذه كانت وزارة المعلومات الدقيقة، استدارا وهما مازالا يقبضان على أيدي بعضهما البعض، ونظرا حولهما خشية أن يكون هناك من سمعهما. في تلك اللحظة وقعت عيناهما على الرجل المشلول الذي كان يحدق في حالة من العمى من مقعده. وفجأة بدت عينا المشلول كما لو كانتا هما العين نفسها الشريرة وقد أصبحت زوجا.

وأثناء تلك التحديقة سمع صوت بن فتحان السحري مرة أخرى. طفا الصوت بمكر إلىأذنيهما ليغويهما “لا تنس بالطبع، أن عقمنا كان لديه مراقب دولي….” عندئذ أدركا بقوة – حتى لو كان فاقد الوعي، وحتى لو كان مشلولا إلىالأبد – وأسوأ من كونهما عقيمين – انه كان هناك شاهد عليهما.   

وعلى كل الجدران، كانت حيوانات السمندل تركض بوحشية، فيما أجرى الزميلان مشاورة بالأعين. هذا لا يمكن السماح به – هذا لا يمكن السماح به أبدا. لأن الدافع الحقيقي لكل الرقابة بالطبع، هو الخجل العميق. وعلى الرغم من جهودهما المحمومة في وظيفتهما، فإن شخصا ما في مكان ما سمع الحقيقة.

قال الصوت السحري بحدة “دعنا نتخلص من الحذاء – الآن”.

ودون أن ينظرا إلى بعضهما البعض نظرة واحدة، شرعا في العمل.

ودون أي مقدمة انقض عليه الخصيان، وهما يصرخان عاليا مثل خنزيرين، وكيسا صفنهما الخاليان يتأرجحان، وبكل القوة الذكورية التي بقيت لديهما، خطفا الرجل الذي كان بلا حراك.  وفي هستيريا وحشية راحا يكشطاه بالأقلام ويسودانه كليا، ليطمساه تماما بأقلامهما السامة السوداء. وغطيا كل جزء من جسمه، حتى أصابعه التي كانت مفرودة ومتصلبة مثل أصابع الساحر. ولأن ذلك لم ينه قلقهما، حاول أبو فلان الإمساك بالعينين اللتين تشبهان الفستق الأخضر ولكن يديه تعثرتا في الرقبة وكذلك يدا بن فتحان. من حسن الحظ أن الرجل الضخم والرجل الصغير كانا يخنقان بفعالية على نحو متساو، وبينما كانا يضغطان الرقبة ويخنقانها حتى تحولت شفتاه إلى لون النيون الأزرق، كانت العينان مازالتا تحدقان وظل الفم ثابتا ومفتوحا كما لو كان في حالة من الانتصار، ليجعل الزميلين يقبضان بصلابة أكبر ويضغطان على حلقه حتى الموت –   

كان هناك صمت كلي مفاجئ في الغرفة المجاورة. كما لو كان المحقق وضحيته مذهولين بهذا السباق.

عندئذ كان واضحا انه في الغرفة المجاورة سمع صوت الهيليوم في الحال أن القضاء على صديقه يجري على قدم وساق. لن يكون هناك بعد الآن صوت ساخر عال. تخلى في الحال عن كل الكوميديا في صوته وصرخ من خلال الباب في فزغ يمزق نياط القلوب:

“من هناك؟ بابا..بابا..وينك؟ ما الذي يحدث هناك؟ لا يمكنني أن أراك! بابا..بابا..أنا لم أعد أمزح! لا تدعهم يقتلوك أو أنني سأموت أنا الآخر!”.

انطلقت فورة من الضحك الساخر من السؤال الكبير: “أنت- تموت؟ كاذب! أنت ضيف في منزلي!”. وانطلق يضحك ويضحك.

زاد الزميلان من ضغطهما. وشعرت أيديهما بتشنجات الحلق. وراح عرقه يتساقط على عقد أصابعهما. وبدأت أشباح غددهما التناسلية في العمل في ترف، لتتمدد مع المتعة المطلقة – 

وصرح صوت الهيليوم “يا بايا..يا واحة! لا تموت. أنا على بوابات الموت”.

والآن تحول صوت المحقق فجأة الى عواء كلب مرتاع، مع هستيريا غير متوقعة “أنت يا ابن القحبة، لا تموت! سوف تقتل كل تلك المعلومات الجميلة! يا ابن الزانية :سوف تقتل وظيفتي! سوف تقتلني!”.

واصل الزميلان خنق الرجل على الرغم من الصوت المريع لطفل يحتضر وهو يصرخ مناديا والده: “من قلبي يا بابا! لم أخنك أبدا!”.

ولكن وجه الرجل المشلول الذي كان ازرق الآن كان يحدق دون تعبير، وشفتاه مفتوحتان وعليهما طلاء شفاه أزرق، في قسوة لا يستجيب لتوسلات رفيقه. 

والآن ترددت الأصداء المخضلة لمئات القبلات التي كان المحقق يمطر بها مؤخرة ضحيته المحتضر وهو يقول:

“أنت يا ابن الكلب. لا تموت قبل أنأصور لك فيلم للموت سيدمر والدتك! اقسم لك إني سألقي بك عاريا من مبنى في جواربك وحمالات البنطال وسوف يكون صوت سقوطك المدهش مثالا للعالم كله! أمهلني دقيقتين يا ماخور المعلومات. أعطني دقيقتين”.

ومن الغرفة المجاورة سمعا  صرخة إيديولوجية كبيرة للموت من صوت الهيليوم، عظة عظيمة أخيرة وميلودرامية للهيليوم “آه، يا والدي المجهض! وأنا اسقط بين مقابر أسلافي ميتا فقط تذكر ذلك عني : لكل إنسان الحق في تدمير مصيره”. وتبع ذلك تنهيدة ساخرة للحرية. وتبع الراحة الذهبية صمت كامل – ثم رذاذ ضحكة فاترة، وبعدها صمت مطبق.

توقف الزميلان، وتركا ضحيتهما يسقط متراجعا في مقعده، وكانت أيديهما ضعيفة من الضغط، محاصرين في نهاية المطاف في الازدواجية بين المذبحة التي نفذاها والتجسس على المذبحة في الغرفة الأخرى.

ولكن الكشف الذي حدث بعد ذلك، لم يكن متوقعا بالنسبة لهما.

دخل الى الغرفة المحقق بعينيه الجميلتين تشرقان، وضحيته الذي كان مختفيا لفترة طويلة بين ذراعيه، وتعمد أن يرسم من ملامحه المسحوقة انتصار كامل متعجرف. وقال “روضته في النهاية”.

ابتعد الرجلان بسرعة عن ضحيتهما وألقيا قبعته على رأسه.

أعلن المحقق وهو يرفع ضحيته الهامد بين ذراعيه المتعرقين “نجحت..روضته في النهاية”. وقف هناك مثل السيدة العذراء والطفل يسوع، وهو يربت على حواجبه الجميلة. “قال لي كل شيء قبل أن يموت!وغنى مثل هدهد!”. حدق الزميلان عبر الأرضيةإلى الجسد المعذب بين ذراعيه المعروقين بينما سقط فكيهما ليفتحا فميهما، مشلولان من الدهشة. 

وكل ما استطاع أبو فلان أن يقوله في النهاية عن رجل التعذيب كان “شوف كيف شوف نفسه حلوة”.

أمسك المحقق حزمة ممزقة ومشوشة من شيء ما كان هو ضحيته. حتى الآن كان كل شيء على ما يرام. ولكن السؤال الكبير كان يمسك بفخر دمية خشبية لرجل، يبلغ طولها نحو 1.25 مترا. كانت الدمية على رأسها قبعة تشبه تماما قبعة الرجل المشلول وفي الحقيقة، توأمه الضئيل.

كانت ملابسه تشبه ملابس سيد انجليزي عتيق، يرتدي ما كان يوما ما حلة من التويد الإنجليزي جميلة التفصيل، وزهرة تلتصق بطية صدر السترة ونظارة أحادية حيث يومض الضوء مثل غمزة من شخص حالم أعور. نعم، هذه الضحية التي كان السؤال الكبير المأفون يعذبها، هذا النطفة الضئيلة المخربة لكائن، كانت في الواقع دمية شخص يتكلم من البطن.

لأن السؤال الكبير كان مأفونا عنيدا، يمكن لعينيه الجميلتين أن تريا الأسود على أنه ابيض إذاأرادتا، والخشب على انه لحم بشري، والنهاية المسدودة على أنها فرصة كبيرة.

من الواضح أن الدمية عانت كل التقلبات الشاملة للأسى – حيث أنهاكانت مجرد مواطن عادي وفي أطرافه الخشبية كانت هناك الثقوب التي أطلقت دخان غبار المنشار التي تساقطت مثل الثلج على الزميلين. ورائحة الخشب المحترق التي وصلت إليهما بالخطأ على أنها رائحة لحم محترق. كانت عين تتدلى من محجرها على سلك ملفوف، والطلاء الذي على وجهه أزيل بالحرق، وكانت أصابع يديه وقدميه قد تآكلتا وكان الأكثر إثارة للمشاعر، أن الحروق العميقة في ذراعيه وساقية كانت مثل علامات الشواء في اللحم، كل واحدة منها تحيط بها حافة متفجرة من قماش التويد المتفحم. كانت هناك بصقة كبيرة تتدلى من نظارته الأحادية مثل نطفة، وسفود كباب يبرز من قمة رأسه مثل حركة مسرحية لنادل طموح.     

كان من السهل تخيل فكه يهتز ويصرف بشكل مخيف وهو يصيح “حافل بالطريف! حافل بالطريف!”. فتح فكه فتحة صغيرة حتى يتسنى لمتكلم من البطن أن يجعله يتحدث – لأن الدمية نفسها بالطبع لم تكن قادرة على الكلام. ولكن عندما كان يتعرض للتعذيب، من الذي كان يعطيه صوت الهيليوم؟.   

انه سيده بالطبع. ولكن من كان سيده؟. بدت التحديقة الزجاجية للدمية مثبتتة في كرب على الرجل المشلول. دميتان، احدهما خشبي والآخر إنساني. كانت عيونهما الخاوية تتبادل نظرة من الرثاء الفظيع. الأب والابن. المشلول وابنه الدمية الصغيرة بقبعتيهما اللتان تشبهان قبعات فرانك سيناترا.

استدار الزميلان ببطء وهما يمسكان بقلميهما وحدقا في ضحيتهما.

كان منهارا في المقعد وعيناه لا زالتا تحدقان من وجه كان الآن أسود كلية من أثر حبرهما مثلإله الموت أنوبيس الذي يتخذ شكل ابن آوى، وكان فمه مفتوحا في حالة من الشلل. لم يتحرك فمه على مدار ساعات – ولكن على الرغم من ذلك، كانت المتحدث من البطن يقوم بتشغيل كل المسؤولين مثل الدمى. تظاهر أأنه يشعر بصدمة هائلة، بينما كان طوال الوقت يلقي بصوته من فمه الذي يبدو مشلولا.  

لقد ألقى بصوت الهيليوم لكي يعذب المحقق، وصوته ينطلق عبر المساحة. وألقى بالصوت السحري لبن فتحان الذي كان يطفو ويرفرف حول الغرفة المليئة بالعرق، مثل سنة مسممة. وأوجد استفزازا مجنونا لكي يولد دافعا للزميلين لقتله، وهو رجل كان يستميت للهروب من المرحلة الأخيرةالأكثر دموية من التعذيب.

 ووضع السؤال الكبير يده على فتحتي انفه وأفرغها على الدمية قائلا: 

“اختطفنا الاثنين في ركن شارع. كانا يقفان محاطين بالأثواب، يغنون أغنية صغيرة معا، ويلوحون بقبعاتهم جيئة وذهابا. شيء رائع. أتعرف ما الذي كان يزعمه هو وأقزامه الصغيرة؟. كانوا يغنون في الشارع أن هذه الوزارة تخصي موظفيها لكي تمحص عملية الرقابة”.

وأضاف الشاعر بسرعة “استعارة غير سياسية، بالطبع”.

وأضاف زميله  الأمي “مظبوط!”.

قال السؤال الكبير بعد نظرة مختلسة إلى الوجه المشلول الذي صار الآن اسود اللون “آه..أه..وغنى الهدهد بأن شيخنا سوداني!”.

ثم مسح حبة العدس الوحيدة من على ظهر يده، كما لو كانت مرثية لكل الاستجواب. حسنا، أثارتهذه الكذبة المتبجحة الغيرة المهنية لابن فلان بما يتجاوز تحمله. وتحركت يده مثل أفعى وسحبت الرسغ المطاطي لبيجامة المحقق، ونظر إلى الداخل إلى الندبة، ثم ترك القطعة المطاطية لترتطم برسغه مطرقعة وانفجر ضاحكا: “وتصف نفسك بأنك رجل!”.

ولكن بن فتحان الشاعر وكزه ساخرا: “وأنت تصف نفسك بأنك رجل!”.

وصاح أبو فلان في بن فتحان: “وأنت تصف نفسك بأنك رجل!”

وصاح ابن فتحان ساخرا من أبو فلان بصوت عال “لا، أنت تصف نفسك بأنك رجل!”.

وصاح السؤال الكبير في أبو فلان ساخرا بصوت عال “نعم، أنت تصف نفسك بأنك رجل”.

وقال أبو فلان للمحقق: “حسنا، أنت تصف نفسك بأنك رجل!”. 

راحوا يطوفون حول بعضهم البعض في دائرة خبيثة، وهم يوكزون ويتهمون بعضهم البعض، وأصواتهم عالية مثل أصوات خصيان كليوباترا – وهم يتلفظون بأي شيء لإغراق الفكرة الأكثرإثارة للهلع، لمحو اكبر هرطقة في أن مسرح السادية يمكن أن تهدمه مزحة خبيثة، وأصواتهم الخصية تتزايد حدتها، إلى أن دلفت عربة شاب النيون من خلال الباب وهو يدفع برج بابل جديد من الصحف وبرز وسطهم. قفز وجهه المنحني بشدة إلى المشهد العاطفي في شيء من الحيرة. وسقط البرج، وبه كل القبلات واللمسات والحلمات والشفاه المفتوحة تتطاير في نشوة في كل مكان. وومضت عيناه كما لو كانت “البطارية منخفضة” – ويجب أن يلاحظ أنه كان آخر كائن ترك في الغرفة بصوت عميق لرجل – وراح يبكي بحزن، وشعره منتصب مثل علامة سؤال :  

“فهمني يا معلم!.

وهكذا أوقفوا جميعا الضوضاء لمدة ثانية وأشارواإلى الرجل المشلول وأمروا بصوتهم الحاد “اسأل الشيطان!”.

ولكن قبل أن يتمكن شاب النيون من سؤاله، صاح السؤال الكبير “خلاص، أخربه!”، وركض بخط مائل عبر الحجرة ليركل رأس الرجل المشلول، ولكن قدمه ظلت مرفوعة في دهشة مثل قدم نجم كرة قدم، لأنه بصورة مأساوية كان هناك عائق خفي.

وراحت مويجات من الضوء المسرحي تنبض خلال العينين البندقيتين للرجل المحدق، مثل انعكاسات المياه عبر وجه كلب مصاب بالسعار. ظل متمددا هناك مثل رمز للقوة الصامتة. وراحت الأنبوبة التي قيد إليها تصدر صوت غرغرة إلى جانب رأسه. لم يكن هناك ما يمكن القيام به لوقفه الآن. مثل نافورة صلبة جيدة ومثل كل النكات المريعة، في النهاية فر الفرار النهائي.

………………

*كاتبة أمريكية ايرلندية تقيم في لندن

مقالات من نفس القسم