سماسرة “البيست سِلر”.. لعبة تزييف الوعي وتكوين “الأولتراس”

رضا عطية
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. رضا عطية

في مشهد دال من فيلم “المنسي” (1993) يقف ممثل ضيئل الحجم (محمد هنيدي) أمام إحدى قاعات دور العرض السينمائي متكلمًا بلغة ركيكة وتدعي المعرفة في آن، ليقوم بدور إقناع الجمهور الباحث عن ضالته من الاستمتاع بقطف اللذة السريعة العابرة المتمثلة في مشاهد جنسية خلف ستار منتج فني مبتذَل يدعي أنَّه فن سينمائي، يؤدي الممثل محمد هنيدي دور “سمسار” أو وكيل يعمل على تضليل الجمهور “المنسي” (عادل إمام)، وصديقه (علاء ولي الدين)، حين يسألاه عن محتوى الفيلم: “الفيلم ده قصة ولا مناظر؟” بما يعنيه مصطلح “قصة” من اعتماد بنية الفيلم الفنية على قصة لها بنيتها الحكائية ونسقها الدرامي وتشكيلها الفني، في مقابل أفلام “المناظر” أي الأفلام التي تتشكّل من بنية تلفيقية من مشاهد جنسية، فيخبِر “السمسار” (هنيدي) الجمهور بأنَّ الفيلم “مناظر” ثم يتبين كذبه توريطًا للجمهور في دفع أمواله في منتج اعتمد على تحديد محتواه على هذا السمسار الذي أولاه ثقته دون سابق معرفة به.

ظهر في مجال الأدب، في مصر تحديدًا، وبوضوح، في السنوات العشر الأخيرة، ظاهرة “سماسرة” أو وكلاء الكتاب أصحاب ما يُعرف بالروايات الرائجة “البيست سلر”، قد يكون هذا السمسار صحافيًّا خفيف الوزن من الأقسام الثقافية أو المواقع الأدبية على الإنترنت أو ممن يقدمون أنفسهم للحياة الأدبية باعتبارهم “نشطاء ثقافيين”، يعمل هؤلاء “السماسرة” في خدمة المنظومة الترويجية في صناعة الكتاب الجماهيريين، هؤلاء الكتاب الذين تكون جماهيريتهم محدودة في المكان والزمان رغم ما تبدو عليها من الاستحواز على أعداد كبيرة من القراء، فمعظم هؤلاء المقروءين في مصر من جمهور يبدو كبيرًا، تجدهم لا يستطيعون تخطي المجال المصري ليكون لهم حضور إقليمي على الساحة العربية، كما أنَّ النسبة الكبيرة منهم (تقريبًا كلهم باستثناء أحمد خالد توفيق ونبيل فاروق) تتعرض أسماؤهم للأفول والغياب بعد بضعة سنوات من الانتشار الواسع، هم يشكلون موجات من الأسماء تحوز حضورًا يبدو كبيرًا لبعض الوقت ثم تتلاشى كل موجة بأسماء كتابها لتحل محلها موجة أخرى بكتاب آخرين.

من الأساليب التي يعتمد عليها كتاب “البيست سلر” في الترويج لمنتجهم وتوسيع رقعتهم الجماهيرية ما يردده هؤلاء السماسرة الذين يشبهون “محمد هنيدي” في فيلم “المنسي” الذي يبدو أنَّ حجمه الضئيل رمز لضآلته الفكرية والمعرفية وخفته، بأن مبيعات هذه الرواية أو تلك قد بلغت أرقاماً فلكية مع التأكيد بقيمة ما في محتوى هذه الرواية مدللين عى ذلك بإقبال القراء عليها لأنها تمس وعيهم. يقوم هؤلاء السماسرة، أدعياء المعرفة بقيمة الأدب وهم يسطون على دور ناقد الأدب الذي يجمع المعرفة الأكاديمية والذائقة المدربة، بدهاء ومكر بنصب شباك الترويج لكُتّاب الروايات الذي يلعبون لصالحهم لاصطياد أكبر عدد من الجمهور، كلٌّ لصالح الكاتب أو مجموعة الكُتّاب الذين يعملون معهم.

مشكلة كتابات ما يطلق عليها “البيست سلر” أنَّ الغالبية العظمى منها تتأسس على الكتابة السطحية التي تعتمد على حكاية مثيرة أو مشوقة لإلهاء القارئ واستغراقه دون امتلاك مقاومات الأدب وجمالياته بما يرقى بذوق القارئ وينهض بوعيه، هي أقرب لصورة فوتوغرفية تخلو حتى من بعض الجماليات الفنية للتصوير الفوتوغرافي، لكن الكتابة التي تستحق صفة الأدبية شيء آخر، أقرب إلى اللوحة التي تحاكي الواقع ولا تنسخه كما هو فلا تضيف إليه كما الصورة الفوتوغرافية العادية. مشكلة روايات البيست سلر أنَّ كتابها لا يريدون أن يخسروا “القارئ السهل” والمستسهل، لذا تعمل هذه الكتابات الشعبوية على إيهام قارئها بالامتلاء الثقافي دون عناء سواء للكاتب أو للقارئ.

يسعى المروِّجون لكُتّاب الرواية الذين يريدون مكانًا في قوائم “البيست سلر” إلى مضاعفة أعداد جمهور القراء لسلعتهم التي يروجون لها (الرواية) عبر ترديد مقولات بأنَّ هذا الكاتب “مليوني” أي دخلت مبيعات كتبه في خانة الأصفار الستة، على الرغم من عدم إفصاح دور النشر في مصر عن أعداد النسخ المباعة من منشوراتها وكذلك تراوح معظم الطبعات عددًا ما بين الخمسمائة والثلاثة آلاف نسخة نظرًا لتكلفة الطباعة وأيضًا هامش الربح الذي يخصم من ثمن الكتاب لصالح الموزِّع، أي أنه لو بلغ عدد طبعات كتاب ما الخمسين طبعة، وهذا نادر الحدوث جدا، فلن يتجاوز عدد النسخ المطبوعة منه المائة والخمسين ألف نسخة. وهنا يكون الدور الخطير الذي يلعبه سماسرة البيست سلر، مشابهين في ذلك الدور الذي لعبه محمد هنيدي في فيلم المنسي بإقناع عوام الجماهير بأنَّ منتج الكاتب الذي يروِّجون له هو سلعتهم المطلوبة التي حصلت على صك الرواج المليوني، فتعتمد آلية التكوين الأولتراسي لكُتِّاب البيست سلر على ما يشبه التفشي الجرثومي الذي يلعب فيه هؤلاء السماسرة دورًا رئيسيًّا في تزييف وعي الجماهير.

بالطبع يلعب هؤلاء المروِّجون أو سماسرة “البيست سلر” على وعي القطيع، أو الوعي الاستهلاكي حيث تقبل جماهير العوام من العابرين بالطريق على سلعة ما حين تشاهد ازدحام متجر يبيعها بطابور من المتكالبين على شرائها، دونما اختبار سابق لهذه السلعة أو لمنتجات هذا المتجر، لكن لدى هؤلاء العابرين من جهور العوام رغبة اتباعية في الانسياق وراء قطيع المستهلكين والالتحاق به، لذا يردد سماسرة هؤلاء الكتّاب بأنَّ كاتبهم هذا أو ذاك تصل مبيعاته المليون نسخة أو ما يقرب من هذا الرقم لمنحه قوة جذب لعدد آخر من القراء يريد أن يقرأ ما يظن أنَّ الملايين يقرأونه.

من الطبيعي أن يكون هناك تفاوتات في مستوى الجماهير من القراء، فهناك القارئ النخبوي صاحب الوعي الأصيل الذي يملك قراره بنفسه في فرز الكتابات الإبداعية المطروحة، هذا القارئ الذي يملك وعيًّا نقديًا مؤسس على المعرفة الأكاديمية بالأدب والذائقة المدربة، وهي النسبة الأقل عددًا بالطبع لأنّها تأتي في المستوى الأعلى من هرم القراء، وهناك نوع آخر من القراء العوام من متوسطي القدرات أو دون ذلك (المديوكر) وهي الشريحة الأكبر عددًا التي تحتل قاع الهرم القرائي، كذلك هناك شريحة وسطى من القراء الذين يحاولون أن يبدوا نخبويين بعدم الانتماء إلى أنماط القراءة الشائعة لكتابات البيست سلر لكنهم لا يملكون الحس النقدي الكافي ولا الذائقة المدربة التي تساعدهم على اختيار الأدب الجيد.

تبقى دائمًا أزمة أو مشكلة لدى بعض كتاب البيست سلر أنَّهم يشعرون بعدم الحصول على صكوك الاعتراف الرسمي من المؤسسات الأكاديمية والوسط الأكاديمي من النقاد والقراء النخبويين، يبحثون عن قيمة تنقصهم وتقدير عزيز ووجاهة مفقودة لديهم، فيعتمدون في ذلك على “سماسرة”/ وكلاء يقدِّمون أنفسهم على أنهم خبراء بالأدب وأنهم ينتمون إلى دائرة الكتابة النخبوية ليحاولوا تمرير كتاب البيست سلر الساعين للحصول على اعتراف رسمي من مؤسسات ثقافية بمشروعيتهم ككتاب نخبويين، يريدون الحصول على جوائز الأدب الرسمي وأن ينالوا اعترافا نقديًّا بالكتابة عنهم في مجلات الثقافة الرسمية، فيحتاجون في ذلك إلى وسطاء يقدمونهم عبر هذه الوسائل.

 دائمًا ما يبقى صراع أو توتر ظاهر أو متوارٍ بين الكتابات الخفيفة التي تتوجه لجمهور العوام والأدب النخبوي، قد يحس النخبويون بضآلة قيمة الكتابات الشعبوية الرائجة وقد يشعر كتاب البيست سلر بتعالي الأوساط الثقافية النخبوية والرسمية عليهم وبعدم اعترفها بهم، هنا قد يكون دور سماسرة البيست سلر الخبيث في محاولة اختراق الدائرة الوسطى بين القراء النخبويين والقراء العاديين وكذلك محاولة اختراق دائرة القراء النخبويين أو على الأقل الحصول على شيء من الاعتراف الرسمي بقيمة هذه الكتابات الرائجة مؤقتًا لأصحابها ثم ما يلبث أن يحل آخرون محلهم، فتكون الرغبة الجامحة لبعض هؤلاء من كتاب البيست سلر في الحصول على جوائز رسمية أو النشر عنهم/ لهم في الجرائد والمجلات الثقافية الرسمية. ومن هنا، يكون الدور الخطير لسماسرة كُتّاب البيست سلر ولعبة اختراق المجال الثقافي الرسمي والنخبوي تزييفًا للوعي وعبثًا بالذائقة.

 

مقالات من نفس القسم