ساحر الموسيقى

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إبراهيم فرغلي

أغلقتالباب. تعمدت ذلك. سمعت الطرقات الخافتة. لكني توجهت للجهة الأخرى من الشقة. مررت على الصالة الطويلةالمضاءة بنوافذ مطلة على المنور، والمفروشة بسجادة حمراء طويلة، حوافها مزركشة بزخارف ذهبية كابية، إلى حيث ملاذي الأخير؛ في غرفتي. مملكتي الصغيرة التي أشعر بأنها أصبحت، بمحدوديتها وصغر مساحتها ورتابة أيامي فيها، خانقة. لكنها، تظل عالمي الخاص، بوحدتي فيها أصبح ملكة المكان، بلا منازع، حيث الهدوء والصمت وأسئلة الروح التي لا تنقطع، وفناجين القهوة وروائح الدخان.

أغلقت الباب. ألقيت بنفسي على الفراش. وضعت رأسي على الوسادة. تأملت السقف. حلقت بعيدا، باتجاه السماء. وكلما ارتفع صوت طرقاته المتوترة على باب الشقة كلما ارتفع تحليقي إلى السماء. وكلما زاد عناده كلما زاد إصراري على النأي. حتى وجدت عيني غارقتين بالدموع. أغلقتهما ونمت على جنبي، وأنا أشعر بالتعب. تسللت دموعي إلى وجنتي، ولم أبال بها. لم يكن جسدي هو المتعب، وإنما روحي ؛ مثقلة إلى حد الإعياء.

كان صوت الطرقات على الباب كأنه نقر على زجاج روحي يكاد يخدشها أو يشرخها بشقوق غير محتملة. لكنه أخيرا أصيب باليأس على ما يبدو، إذ تهيأ لي أنني لم أعد أسمع شيئا. لم يعد هناك صوت لأي طرقات أخرى. وعندما تراكم الصمت، وتأكدت من انصرافه أخيرا، عدت إلى الأرض بروحي وغفوت.

قبل أن أغفو مباشرة شعرت بالغضب لأنه تجرأ وأتى خلفي ليطرق الباب. فهو يعرف أن انتداب أمي للعمل في الأسكندرية أتاح لي أن أعيش بمفردي في الشقة ثلاثة أسابيع كاملة كل شهر. فزعت من التغيرات التي أصابته جميعا، فهو الذي كان مثل نسمة هواء باردة، يبدو لي الآن وكأنه تحول إلى ما يشبه رياح الخماسين. سمعت الدقات على الباب مرة أخرى. لكني وجدت نفسي وقد تحررت من ثقل جسدي وروحي فجأة، قفزت من الفراش بخفة لم أعهدها منذ فترة. عندما فتحت له باب الشقة الذي تتوسطه ضلفة من الزجاج المغبش اكتشفت أنني لا أرتدي سوى طاقم ملابسي الداخلي الأبيض. لكني لم أتردد. فتحت الباب بحذر. ووجدته يقف مبتسما. يمسك بين يديه بوكيه ورد أحمر قاتما. ويرتدي قميصا أسود على بنطال بنفس اللون. ظهر شعر صدره من فتحة القميص. هالني أنه حليق الوجه، تخلص من لحيته، لكنه أبقى زغبا طفيفا منحني إحساسا بالإثارة. دعوته للدخول فاقترب بحذر. فتحت الباب على اتساعه، وفور دخوله أغلقت الباب. واتجهت نحوه. إقتربت منه فاقترب. مد لي يده الممسكة ببوكيه الورد فالتقطته منه، وأثارني اللون الأحمر وأنا أستنشق الشذى الجميل. أمسكت بالبوكيه بإحدى يدي واندفعت إليه وتشممت عبقه. إحتضنني، ومسح بيده على ظهري وأردافي. بينما أمرغ وجهي في قميصه والجزء العاري من صدره كيفما اتفق.

أحسست أنني أريده أن يأخذني. أن يمرغ وجههه في أنحاء جسدي. أن يلعقني. وأن يتركني أفعل به ما أشاء. طلبت منه أن يدخل الغرفة وفعل. جلسنا متجاورين على حافة الفراش المغطى بملائتي القرمزية المفضلة، المكرمشة من أثر نومي القلق في الليالي الأخيرة. نظر لي مبتسما. إعتذر لي عما حدث بيننا، وأكد لي أنه لن يجبرني على فعل شيء لا أحبه. ابتسمت وأنا اشعر بحالة من النشوة والصفاء الخالصين. قال لي أنظري: هذه هي الذقن التي طلبت أن أشذبها. فعلت ذلك لأجلك.

قال ذلك وهو يضع يده على ظهري ويحاول فك مشد الصدر. تحرر ثدياي. بدأ يدلكهما بحنو، وعندما تصلبت حلمتاي وضع شفتيه عليهما، واحدة بعد الأخرى، وهو يداعبهما ويعضهما عضا خفيفا. داهمني إحساس قوي باللذة . أمسكت بالجزء الخلفي من رأسه، وجذبته إلى صدري أكثر بينما تتخلل أصابعي شعر رأسه الخشن. عيناي مغمضتان من النشوة. وأعصابي مشدودة، وخلايا جسدي كلها متيقظة، مرهفة لكل لمسة من يده. لكني لا أعرف لماذا تغير عبق جسده فجأة إلى تلك الرائحة العطرية عندما تعرى ووقف أمامي بجسده القوي قبل أن يعتليني مباشرة. إختفت رائحته التي تثيرني، بمزيجها الذي يجمع لمسة طفيفة من العرق برائحة الشعر الدهنية. أصبحت رائحته فجأة ممزوجة بذلك العطر الذي يصفه بأنه “مِسْك”. كانت رائحة دبقة، تكاد تشعرني بالاختناق. ولكني مثل امرأة تبلغ ذروة شهوتها في لحظة افتضاح أمرها، اندفعت إليه بكل جسدي ومشاعري، لا أريده أن يتوقف حتى لو أدى الأمر إلى اختناقي.

عندما استيقظت لم أكن أعرف إذا ما كانت غلمتي حقيقية أم أنها كانت قوية لدرجة أنها لاحقتني من المنام إلى اليقظة المباغتة التي روعتني وأعادتني إلى الواقع دون أدنى رغبة مني. لكن أليس الواقع نفسه قد تحول إلى كابوس؟ ألم تتحول علاقتي به إلى مأساة حقيقية منذ تحولت شخصيته بالشكل الغريب الذي سارت عليه الأمور في الشهور الثلاثة الخيرة. الموسيقى الجميلة التي كانت المنطقة المشتركة التي جمعت بيننا تحولت إلى خطب وكلمات صاخبة لا تسبب لي سوى الرعب.

أتذكر الآن عيني سلوى وأنا أحكي لها ما طرأ عليه من تغيرات. تماما كما كان رد فعلها عندما حكيت لها عن قصتي معه لأول مرة. اتسعت الحدقتين كثيرا، وتجلت الشعيرات اللونية الدقيقة التي تميز بؤبؤي عينيها الخضراوين. لكني أيضا لا يمكنني أن أنسى مدى شغفها بالقصة التي وصفتها بأنها من أكثر القصص الرومانسية التي سمعتها. في كل صباح أنطلق إلى المطعم الأمريكي الطابع الذي أقوم فيه بعملي كنادلة، بعد أن أنتهي من طقوسي كلها. أغلق الباب وشذى عطري الياسميني المفضل يفوح حولي ويزيد من انتعاشي. أهبط على الدرج بخفة، أمر من الممر الضيق الذي تتجاور به محلات الساعات والقداحات والسجائر، وتنتهي بمحلي المفضل. الذي يقف في واجهته الشاب الوسيم صاحب الشعر الأسود الناعم المصفف بعناية. بينما الموسيقى الصاخبة تعلو من خلفه. عادة ما كنت أبدأ يومي بموسيقاه. في أغلب الأحيان كانت موسيقى غربية صاخبة.

أبتسم له بخفر، فيرد لي الابتسامة بأفضل منها. ويعلو صوته: “صباح الفل يا قمر”. فأنتشي، وتلتقط روحي الموسيقى بشغف، تعتصرها مثلما تفعل فراشة برحيق زهرة ، وتظل الألحان تتردد على أذني طول اليوم بلا توقف. ربما أبدأ اليوم بأغنية للبيتلز، أو بمقطوعة لبيتهوفن، أو باخ. وأحيانا يأتيني صوت منير بأغنية من أغنيات اسطوانته الأخيرة. ومرات كانت الأغنيات الشعبية الشجية بصوت عدوية هي مفتتح يومي، وخاتمته. عند عودتي في المساء، أبطيء من خطواتي قليلا، قبل أن اتوقف أمام المحل. يلقي علي التحية فأقول: مساء المزيكا! يبتسم، ويمد لي يده بشريط مما يقترحه علي. لا يعلق عليه، وإنما يقول فقط “إسمعيه وبعدين نتكلم”.

” عادة ما تكون تلك الشرائط لبعض المطربين الذين يطلق عليهم “

. تعرفت من شرائطه الاستثنائية تلك على موسيقى الجاز، الشعبية التي يعيد عزفها مثلا “كيني جي”، أو الأغنيات الأصلية لنجوم الجاز الكبار “تينا بروك”، “لوي ارمسترونج”، “كونت ماسي”، وغيرهم. تعرفت على “إلفيس بريسلي”، و”فرانك سيناترا”. وأغرمت بـ”إلتون جون”، “شيرلي باسي” و”تراسي شابمان” السمراء صاحبة الأغنيات الفلسفية والكلمات العميقة بأدنى قدر ممكن من الموسيقى والإيقاع.

أصبحت أسيرة الموسيقى. مدمنة لكل أصوات الطبيعة والبشر. غناء وإنشادا، آهاتا، وقرع طبل. وحتى موسيقى الهند الصوفية ، وموسيقى آسيا الوسطى والصين التي ابتكرت من أصوات الطبيعة: خرير مياه النهر وحفيف الريح، وصفير العواصف، وقصفات الرعد. ذابت روحي في الموسيقى، وغرقت في عشق فتاي الذي علمني السحر والموسيقى والذي لذلك استبدلت إسمه الأصلي”حسام” بالاسم الذي أطلقته عليه في خيالي “ساحر الموسيقى”.

 “ساحر الموسيقى” لم يكتف بكل ذلك، وإنما دعاني إلى شقته الصغيرة في وسط البلد. وهناك أراني الأعواد، وعلمني الفروق بين كل منها. أشعل سيجارة محشوة بالحشيش. قدمها لي فاعتذرت، لكني تنشقت رائحتها بعد أن فاضت في أرجاء المكان. ضحك أخيرا، وقال” أنا شكلي اتسلطنت”.إبتسمت له. توجه إلى أحد الأعواد الذي انتفخت أخشابه البنية الداكنة، وعاد به ليجلس في مواجهتي. أمسك الريشة وبدأ العزف، وهو يتأمل السقف العالي للشقة العتيقة. طربت روحي لألحان العود: أغنيات لأم كلثوم؛ خاصة “الأطلال”،”فكروني”، ثم “الف ليلة وليلة”. عندما لاحظ ابتهاجي ونشوتي عزف وغنى لعبد الوهاب “كيف يشكو من الظما ..من له هذه العيون”. شعرت بأنني دائخة. لكني أيضا شعرت بـأنني أحلق فوق سحب من النشوة

. غنيت في أعماقي، غنيت لنفسي، تواشيح أندلسية، رومانسية، همست بها، ثم شرع صوتي يعلو. توقف عزف العود. فعلا صوتي أكثر، وفي اللحظة التي بلغ هيامي ذروته انتفضت على نشيج مكتوم. توقفت مفزوعة. لمحت ساحر الموسيقى، يمسح عن عينيه دمعة، فبكيت بلا إنذار، رغم أنني لم أعرف، وحتى اليوم، سر دموعه، لكنني بكيت لأجله تضامنا وتعاطفا.

لاحقا حكى لي عن حياته الغريبة. سفره المبكر للعمل في قبرص، ومنها إلى إيطاليا: بائع صحف، وجرسون في مطعم، ومنها إلى فرنسا، حيث تنقل بين البارات. من غسيل الأطباق إلى الخدمة في الصالات أو الكاشير. وما يحصل عليه يشرب به النبيذ طول الليل. أنقذه حبه للموسيقى، واستطاع بقليل من التمارين على عزف العود أن يحصل على فرصة للعزف في ملهى ليلي. وهناك أدرك أنه يعيش الحياة التي يتمناها لأول مرة، فالراتب المقترح كان بالكاد يكفي أجرة السكن في الاستوديو الصغير الذي كان يقطنه، لكن الزبائن الذين تيموا بعزفه كانوا ينقدونه الكثير، ويطلبون منه إعادة هذه المقطوعة أو تلك.

لكنه لم يخبرني عن الفتيات اللائي وقع في غرامهن هناك شيئا مفصلا. إكتفى بأسماء، ووصف عام. كذلك بقي سبب عودته من فرنسا غامضا. تزوغ عيناه إذا سألته عن السبب وتتقلص ملامحه، ويشرع فورا في تغيير مجرى الحديث. على أي حال لم يكن ذلك يعنيني. صحيح أنني في اثناء ذكره لإسم أي واحدة منهن يقتلني الفضول، لكن بمجرد تغير دفة الموضوع أنسى الأمر برمته. اعتدت على زيارته في البيت يوم راحتي الأسبوعية، وفي الأيام التي تسافر فيها أمي إلى الأسكندرية. أحيانا أجلس معه حتى الفجر. نغني ونعزف، ونستمع للموسيقى، الغربية والشرقية، بلا توقف. يدخن الحشيش، بينما اعتدت أنا تدخين السجائر العادية، وتناول بعض النبيذ، بينما أعد له العشاء، ونثرثر حتى يحين موعد انصرافي.

عندما حاول أن ينزع عني ثيابي خرجت من الشقة فورا. وحتى لا أضعف قررت أن أنهي التفكير فيه نهائيا. لم أفكر حتى في موقفي، وفي الأسباب الحقيقية التي جعلتني أرفض عبثه بجسدي، أو فكرة التعري أمامه.. كنت أعرف فقط أنني لا بد أن أحافظ على عذريتي. على يقين أنه يفهمني، وأنه مختلف، وأن سفره وحياته في أوروبا لن تجعله يسيء فهمي بقبولي الذهاب إلى شقته

  لكن العذورة لم يكن بإمكانها أن تقاوم إغواء الموسيقى والعشق، والألحان الشهوانية، ودغدغة النشوة التي يحققها النبيذ. لم يكن بإمكانها أن تقاوم ساحر الموسيقى. وجسدي الذي لم يعرف سوى ملمس ملاءاتي الأثيرة أدمن جسد الساحر ومرتبته الوثيرة المغطاة بفرش مخملية مزركشة. وتوزعت حياتي بين غرفتي، وعملي وغرفته. بل إن حياتي لم تعد سوى ساعات من الانتظار المتحرق لزيارة ساحر الموسيقى.

لم أعد الفتاة البلهاء الرومانسية التي تتحاشى تحرشات الزملاء والزبائن. أو تتلقى غزلهم عن بخفر. إنما أصبحت امرأة. أصبحت أشعر بجسدي. أدركت أن جسدي البض ببشرتي البيضاء، وقصر قامتي، وشعري الأسود القصير كلها ملامح خاصة، تشكل هويتي، أصبحت أفهم أن كل في جزئي له جماله الخاص. وأن نهدي لم يخلقا لكي يدفنا في السوتيان، وكذلك أردافي، لا يمكنني أن أفهم جمالهما الحقيقي، إلا إذا مرت عليهما أنفاس حارة لعاشق يفهم في جمال المرأة، ويشبه الجسد بالعود، وممارسة الحب بالعزف، وآهات الحب بالطرب. لكن أحاسيسي تلك لم يكتب لها أن تعيش لأكثر من شهر واحد، هو الذي فقدت فيه عذريتي واكتسبت جمال جسدي، وعرفت مكامن شهوتي ومواطن شبقي، وبعدها نزلت على الدرج بنفس الطريقة التي اعتدتها، لكنني فوجأت بمحل الموسيقى، مغلقا لأول مرة منذ افتتاحه. الباب الصاج الأخضر المضلع يبدو ككاتم صوت، خانق كئيب، يحرمني، لأول مرة من سماع الموسيقى التي ستصحبني طوال اليوم، ومن مرأى عشيقي.

هل انتهى الأمر عند هذا الحد؟!

لا لم ينته، وإنما استمر أسبوعا كاملا، اختفى خلاله حسام تماما. لا يرد على هاتف المنزل، ولا هاتفه المحمول. لا يفتح باب الشقة المظلمة.

ساحر الموسيقى اختفى، كما كل الأشياء الجميلة التي أحن إليها وأكتشف اندثارها يوميا. مثل أحياء القاهرة الجميلة في الستينات، ومثل شباب الممثلين في الأفلام القديمة بالأبيض والأسود، ولمعة عيني عمر الشريف، وصوت أحمد مظهر، وغنج هند رستم، وجمال عمارة مصر القديمة التي تحل محلها يوميا عمارات جديدة شاهقة بلا روح ولا جمال من أي نوع.

هل انتهى الأمر عند هذا الحد؟!

لا لم ينته. إنما فتح الباب المغلق اخيرا. لكن لم يكن هناك أثر لساحر الموسيقى، ولا لصوت الموسيقى، أو أي مما اعتدت سماعه. لم يكن هناك سوى ضجيج لأصوات متوترة، لاحظت لاحقا أنها لمجموعة من المنشدين الجدد. أناشيد دينية. توقفت أمام المحل، فلم أجد أثرا لحسام. وقف مكانه فتى ملتح، ينفض الغبار عن شرائط متراصة، أغلفتها تحمل صورا لشيوخ متعممين، وبعضهم، بلا عمامات. بعضها كتب عليها فضائل الصلاة, وأخرى حملت شعار فضائل الحجاب. بينما تراصت أسفل صناديق الاسطوانات والشرائط مجموعة من الملصقات والبوسترات التي صورت بورتريهات للدعاة الجدد، صفوف من شرائط الخطب لكل المناسبات.

سألت عن حسام بصوت مخنوق. وجاءني صوت الفتى، وهو ينظر لي شذرا موضحا أن “الأخ حسام الدين يؤدي شعائر العمرة”.

سرت مذهولة. لم أصدق شيئا مما يحدث. استعدت عمرا من الموسيقى والألحان والأصوات العذبة والشجية. استعدت ليال ملاح، وعزف بالعود، ونشوة روحين بالموسيقى وبألحان الجسد. بكيت بلا صوت، ومسحت دموعي مرارا، لكنها لم تتوقف. بللت قميصي ومناديلي الورقية، واشتريت غيرها، فابتلت كلها، وحتى مناديل سائق التاكسي. ركضت هربا من السائق بعدما تركت له السيارة كبحيرة راكدة. ولم تتوقف دموعي. 

بكى كل زملائي في العمل دون أن يعرفوا سبب دموعي، وانتقلت العدوى للزبائن جميعا، فبكوا بلا دموع في أول الأمر، ثم انداحت دموعهم جميعا، حتى تحولت أرضية المطعم إلى بحيرة راكدة. ولم تتوقف دموعي. دخلت مع زميلاتي إلى غرفة تغيير الملابس وخلعت التي شيرت ذات اللونين الأحمر والأسود، والجيب السوداء الضيقة القصيرة، دون أن أتوقف عن البكاء. خلعت سوتياني البيج والكيلوت المخملي النبيتي الذي أهداني إياه حسام، وارتديت المايوه ذو اللون الأحمر والأبيض، ولم أتوقف عن البكاء. وعدنا لممارسة العمل بالمايوهات، ولم يلتفت احد إلى جمال أجسادنا، لانشغالهم بالبكاء، وبشجونهم التي أثارتها دموعي ودموع زميلاتي وكل الحضور.

ولأسبوع كامل غرقت المدينة في البحيرة الكبيرة، وأصبحت الزوارق هي وسيلة الانتقال الوحيدة في أرجاء المدينة. وخلال هذا الأسبوع كنت أبدا رحلتي الصباحية بالزورق الطافي أمام مدخل العمارة. أرقب وصول الفتى الملتحي طافيا إلى المحل، ولا أسمع سوى أدعية تفريغ الهم، وزوال الكرب، فلا يزول غمي ولا ينقطع بكائي. عندما عاد حسام أخيرا استطعت أن أمنع عيني عن البكاء. لكني لم أستطع إيقاف تورمهما، ولا الحمرة القاتمة التي أصابت بياضهما. وليتني ما توقفت عن البكاء.

ساحر الموسيقى أصبح صاحب لحية ثقيلة طويلة، يرتدي جلبابا أبيض ويضع سواكا في جيب الجلباب العلوي. تفوح منه رائحة خانقة عطرية. يسمي نفسه “الأخ حسام الدين”، ويغض بصره عني.

الأخ حسام الدين أزال بكارتي والآن لا يرغب في أن يرى وجهي. يقول أنني سأفتنه! وأنني يجب أن أعود إلى طريق الهداية والصواب. يطلب مني ارتداء الحجاب. ويقول أنه لا يستطيع أن يستر عليّ إذا ظللت على ضلال الجاهلية الأولى، ولم أرتد الحجاب. ارتطمت قدمي بحجر، امتد الألم من القدم إلى القلب، من ذات القدم التي قبلها حسام تقربا وتوددا وعشقا ومحبة وهياجا، إلى ذات القلب الذي ذوبته الموسيقى والألحان والغناء والطرب.

لكنني لاحظت أنني رغم كل ألمي، لا أفيض سوى بالموسيقى. لم تكن روحي إلا مجموعة من الأنغام، والألحان تشدو، فترق روحي وتشف. تغفر لحسام، لكنها لا تسامحه. تشف لتسامح، لكنها لا تفهم. ثم ينطلق من أعماقها إيقاع صاخب تفهم منه روحي كل شيء. أشدو بصوت عال، وأنا أعود إلى المنزل الخالي، إلى مملكتي الصغيرة، أشدو بكل حبي للموسيقى والغناء أجمل ما سمعته، ولا أبالي بأحد. قالوا عني أني مجنونة، والبعض قال شرموطة، وآخرون استمعوا بشجن، ولم أكن أبالي. سمعت وقع أقدامه الخفيفة على الدرج، وسمعت نداءاته الخافتة. لكنني لم ألتفت. أدرت مفتاح الشقة بالباب. أغلقته خلفي، ودخلت إلى غرفتي ورميت بنفسي على عرش مملكتي .. وحدي وصوت الموسيقى

 عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون