قصة: أنتوني دور
ترجمة: آسر حريري
كانت هذه هي المرة الأولى للصياد خارج مونتانا. استيقظ، وهو ما زال مأخوذا برؤية عمرها ساعات صعد خلالها عبر سحب مضاءة بلون الورد. كانت البيوت والحظائر تشبه نقاطا ضئيلة عميقة في الوديان المغطاة بالثلوج، وكانت البلدة عن بكرة أبيها تبدو من تحته كما لو كانت في شهر ديسمبر. تلال بنية وأخرى سوداء مخططة بالثلج، ومضات من بحيرات متجمدة، ضفائر طويلة لنهر يتلألأ عند قاع الوادي. ومن فوقه، كانت السماء قد تعمقت بالزرقة، نقية للغاية، حد أنه أدرك أنها ستحث الدمع في عينيه إن أطال النظر لوقت كاف.
الظلام قد حل الآن. هبطت الطائرة فوق شيكاغو، مجرتها من الأنوار الكهربائية، والأحياء الفسيحة كانت تتضح شيئا فشيئا كلما اقتربت الطائرة من المطار. مصابيح الشوارع، مصابيح السيارات الأمامية، أكوام المباني، حلقات التزحلق، شاحنة تستدير عند إشارة مرور، ندف منثورة من الثلج فوق مستودع، وهوائيات تومض فوق التلال البعيدة، وأخيرا، الأنوار الزرقاء الطويلة والمتوازية للمدرج.
ثم هبطت الطائرة.
دلف إلى المطار، وبجانبه صفوف الشاشات. شعر بالفعل كما لو كان قد فقد شيئا، بعض الجمال المنظور، أو حلما جميلا تداعى واختفى. لقد أتى إلى شيكاغو ليرى زوجته التي لم يرها منذ عشرين عاما. كانت هناك لتقدم عرض السحر خاصتها لأحد المسؤولين بجامعة الولاية. فحتى الجامعات، على ما يبدو، بدت مهتمة بما يمكنها أن تفعله. خارج الصالة بدت السماء رمادية كثيفة تتعجلها الرياح الهادرة. وكان الثلج في طريقه للسقوط. قابلته سيدة من الجامعة ودعته إلى سيارتها الجيب. حافظ على نظره مثبتا خارج زجاج النافذة.
بقيا في السيارة لخمس وأربعين دقيقة، مرا أولا على المعمار الشاهق والمضاء بوسط المدينة، ثم بأشجار البلوط العارية في الضواحي، وبأكوام الثلج المجروف، ومحطات الوقود، وأبراج الطاقة، وأسلاك التليفونات.
قالت المرأة:
“إذا، هل تحضر عادة عروض زوجتك؟”.
قال:
“لا”. “ولا مرة!”.
ركنت السيارة في ممر مفضي إلى قصر حديث وفخم، له شرفات مربعة تتدلى على مرآبين، ونوافذ ضخمة مستطيلة عند الواجهة، أعمدة مصقولة، أضواء مقببة، وسقف منحدر من الصخر الزيتي.
على طاولة قريبة من الباب الأمامي كان قد وُضع ثلاثون شارة اسم. لم تكن زوجته قد حضرت بعد. ولا أحد آخر بدا أنه قد حضر. عثر على شارته ثم علقها على سترته.
ظهرت فتاة صامتة ببذلة رسمية، ثم سرعان ما اختفت بمعطفه.
البهو الجرانيتي كان متصلا بدرج كبير ذي قاعدة عريضة وقمة دقيقة. نزلت سيدة. وقفت على بعد أربع أو خمس خطوات من القاعدة وقالت للمرأة التي أوصلته إلى المكان: “مرحبا، آن!”، فيما قالت له: “لابد أنك السيد دوماس!”.
صافحها، كانت يدها عبارة عن شيء عظمي شاحب، خفيفة الوزن كطائر بلا ريش.
قالت إن زوجها، رئيس الجامعة، يعقد فقط رباط عنقه. ثم ضحكت بنبرة حزينة على كلامها، كما لو كانت ربطات العنق هي شيء لا تحبذه. توجه الصياد ناحية النافذة، أزاح الستار، وحدق خارج المكان.
كان النور شاحبا لكنه استطاع أن يرى منصة خشبية تمتد بطول المنزل، مائلة ومتدرجة، يتغير عرضها باستمرار، ولها درج منخفض. فيما تقبع من ورائها، في الظلال الزرقاء، بركة صغيرة محاطة بالشجيرات، وفي مركزها حمام طيور رخامي. وخلف البركة انتصبت أشجار عارية من البلوط، والقيقب، والجميز الأبيض كالعظم.
مرت طائرة هليكوبتر بالقرب وكان ضوؤها الأخضر يلتمع.
قال:
“الثلج يتساقط”.
“حقا؟”، هكذا سألته السيدة المضيفة، بنبرة تنم عن اهتمام، وربما لا. إذ من المستحيل أن تعرف تماما ما هو الصادق وما ليس كذلك. كانت السيدة التي أوصلته قد توجهت نحو البار، وكانت تمسك شرابا وتحدق إلى السجادة.
ترك الستار لينسدل. هبط رئيس الجامعة سلالم الدرج. فيما وصل مزيد من الضيوف. اقترب رجل يرتدي سروالا رماديا مكتوب على شارة اسمه “بروس مابلز” وقال:
“سيد دوماس. ألم تحضر زوجتك حتى الآن؟”.
قال الصياد:
“أتعرفها؟”.
هز رأسه نافيا:
“أوه. لا”، ثم باعد بين ساقيه وحرك وركيه كما لو كان يقوم بتمارين التمدد قبل سباق عدو وقال:
“لا. لا أعرفها. لكني قرأت عنها”.
شاهد الصياد رجلا طويلا بالغ النحافة يخطو عبر الباب الأمامي. منحته التجاويف عند ذقنه وتحت عينيه مظهرا عجوزا وعظميا، كما لو كان يقوم بزيارة من عالم آخر، عالم أكثر نحافة. اقترب الرئيس من الرجل النحيل، عانقه، واستبقاه للحظة بين ذراعيه.
قال مابلز:
“هذا هو الرئيس أوبراين. رجل مشهور، في الواقع، أعني، عند هؤلاء الذين يهتمون بهذا النوع من الأشياء. ما حدث لأسرته شيء فظيع”.
غرس مابلز شفاطته في ثلج مشروبه.
لأول مرة خطر للصياد بأنه ما كان ينبغي له أن يأتي.
سأله مابلز:
“هل قرأت كتب زوجتك؟”.
أومأ الصياد.
“في قصائدها زوجها صياد”.
قال بينما ينظر عبر النافذة إلى حيث يستقر الثلج فوق الشجيرات:
“أنا أرشد الصيادين”.
“هل سبق وأن ضايقك هذا؟”.
“ماذا؟”.
“قتل الحيوانات. أعني، لكسب العيش”.
راقب الصياد رقائق الثلج وهي تذوب ما إن تحط على إطار النافذة. هل هذا ما يعنيه الصيد للناس؟ قتل الحيوانات؟ وضع أصابعه على الزجاج وقال:
“لا. لا يضايقني”.
***
في شتاء عام 1972 قابل الصياد زوجته في مدينة جريت فولز بولاية مونتانا. حل ذاك الشتاء دفعة واحدة. كان بمقدورك أن تراه مقبلا. ستائر كثيفة البياض غطت كل الشمال، امتد اللون الأبيض على طول الطريق بتجاه السماء، ثم اندفع جنوبا كنهاية كل شيء. هرولت الماشية وهي تخور بإزاء الأسوار. تساقطت الأشجار. وتداعى سقف حظيرة فوق الطريق السريع. غير النهر اتجاهاته. فيما قذفت الريح بطيور السُّمنة تصرخ عند شجيرات الجولق الصفراء بينما تمزقها أشواكها بطرائق وحشية.
كانت مساعدة ساحر، جميلة، لها من العمر خمسة عشر عاما، ويتيمة. لم تكن بالقصة الجديدة: فستان أحمر لماع، ساقان طويلتان، وعرض سحري متنقل يؤدى في صالة الاجتماعات بالكنيسة المسيحية المركزية. كان الصياد يتمشى في الجوار بذراعين مملؤتين بأكياس البقالة حين أوقفته الريح في طريقه وساقته نحو زقاق وراء الكنيسة. لم يسبق أن قابل ريحا كهذه. لقد ثبتته في مكانه. كان وجهه مضغوطا على نافذة منخفضة، وعبرها، تمكن من متابعة العرض. كان الساحر رجلا ضئيلا في عباءة زرقاء قذرة. ومن فوقه لافتة متداعية كتب عليها: فيسبوتشي العظيم. لكن الصياد لم يكن يرى غير تلك الفتاة. كانت أنيقة، شابة، وذات ابتسامة جميلة. استبقته الريح بقوة مصارع عند النافذة.
كان الساحر يثبت الفتاة في تابوت أبلكاشي ذي لون أحمر مبهرج وبراغي زرقاء لماعة. برزت كل من العنق والرأس في ناحية، فيما برز الكاحلان والقدمان في الناحية الأخرى. افتر ثغرها عن بسمة. لم يسبق أن ابتسم أحدهم ابتسامة عريضة كتلك وهو محبوس في تابوت. شغل الساحر منشارا كهربائيا وقربه وسط الضوضاء ناحية مركز الصندوق وشرع ينشرها إلى نصفين. ثم دفعها بعيدا، تحركت قدماها في اتجاه، وجذعها في آخر. سقطت رقبتها إلى الخلف، تلاشت ابتسامتها، وابيضت عيناها. خفتت الأضواء. وصرخ طفل.
“هزي أصابع قدميك”، هكذا أمرها الساحر ملوحا بعصاته السحرية، وفعلت. تحركت أصابعها المبتورة في حذائها اللماع ذي الكعب العالي. فصرخ الجمهور بسعادة.
راقب الصياد وجهها الوردي ذا العظام الدقيقة وشعرها المتدلي وحنجرتها الممدودة. التقطت عيناها الضوء الساقط. هل كانت تنظر إليه؟ هل رأت وجهه المضغوط على النافذة، أو الريح التي تضرب عنقه، أرأت البقالة؟ البصل؟ أو كيس الدقيق الذي سقط على الأرض حول قدميه؟
بالنسبة له كانت جميلة على نحو لم يكن أي شيء آخر جميلا به قط. سقط الثلج على ياقته وتجمع متراكما حول حذائه. بعد بضع دقائق أعاد الساحر ضم نصفي الصندوق المفصولين، فك الأربطة، ولوح بعصاه، فإذ بها كاملة مرة أخرى. خرجت من الصندوق، وانحنت محيية بفستانها البراق. ثم ابتسمت كما لو كان ما حدث هو شهود القيامة ذاتها.
ثم أسقطت العاصفة شجرة صنوبر بإزاء المحكمة، فانقطعت الكهرباء شارعا تلو الآخر. قبل أن تتمكن من التحرك، وقبل أن يبدأ المنظمون في مصاحبة الحشد خارجا على أنوار الكشافات، انسل الصياد بخفة إلى القاعة متوجها نحو المسرح ليبحث عنها.
كان عمره ثلاثين عاما، ضعف عمرها. ابتسمت له، مالت من فوق المنصة وسط الأشعة الحمراء لأنوار مخرج الطوارئ، وهزت رأسها قائلة: “انتهى العرض”. في شاحنته الصغيرة تعقب عربة الساحر عبر العاصفة الثلجية وهي في طريقها نحو العرض التالي: حفل جمع تبرعات بمكتبة في بوتي. ثم تبعها في الليلة التالية نحو ميسولا. كان يهرع نحو المسرح بعد كل عرض ويتوسل إليها: “فقط لنخرج لتناول العشاء”. “فقط أخبريني باسمك”. غمزت الصنارة بالمثابرة. قالت نعم في بوزمان. كان اسمها سهلا، ماري روبرتس. فيما تناولا فطيرة الراوند في مطعم بأحد الفنادق.
قال:
“أعرف كيف فعلتِها. القدمان في الصندوق هما دمى. لقد ثنيتي قدميكِ على صدرك وحركتي القدم الدمية بخيط”.
ضحكت.
“هل هذا ما تفعله؟ تتعقب فتاة من مدينة إلى أخرى لتخبرها أن عروض السحر خاصتها ليست حقيقية”.
قال:
“لا، أنا أصطاد”.
“وماذا تفعل عندما لا تصطاد؟”.
” أحلم بالصيد”.
ضحكت مرة أخرى.
قال:
“هذا ليس مضحكا”.
فقالت وهي تداري الابتسامة:
“عندك حق. هذا ليس مضحكا. أنا مثلك تماما ولكن مع السحر. أحلم به. حتى ولو لم أكن نائمة”.
ألقى نظرة على طبقه. كان سعيدا. بحث عن شيء يمكن أن يقوله. ثم أكلا بصمت.
بعد برهات، وبعد أن أكلت بحرص بالملعقة قطعتين من الفطيرة، قالت:
” لكن أتعرف!! لدي أحلام كبيرة”.
ثم بنبرة هادئة وجادة:
“بداخلي سحري الخاص. لن أقضي حياتي كلها أُنشر إلى نصفين من قبل توني فيسبوتشي”.
قال الصياد:
“ليس لدي شك”.
فقالت:
“عرفت أنك ستصدقني”.
عاد فيسبوتشي إلى جريت فولز في الشتاء التالي ونشرها إلى نصفين في ذات التابوت الأبلكاشي. وتكرر الأمر في الشتاء الذي يليه. في كلتا المرتين، وبعد أن ينتهي العرض، يصطحبها الصياد للطعام في مطعم بيتر روت، حيث يستمتع بمراقبتها بينما تأكل قطعتيها من الفطيرة. كانت مراقبتها هي متعته المفضلة: الحركة في حلقها إذ تبتلع، الطريقة التي تنسل بها الملعقة نظيفة من بين شفتيها، والطريقة التي ينسدل بها شعرها خلف أذنيها.
ثم بلغت ثمانية عشر عاما، وبعد تناول الفطيرة تركته ليصطحبها إلى كوخه، على بعد 40 كيلو مترا من جريت فولز، شمالا ناحية ميزوري ثم شرقا عند وادي نهر سميث. لم تكن تحمل سوى حقيبة صغيرة من الفينيل. كانت الشاحنة تصطك وتنحرف إذ كان يقودها عبر طرق غير معبدة، وكانت تنزلق متأرجحة فوق الثلج العميق، عدا أنها لم تبد خائفة أو قلقة حول المكان الذي قد يأخذها إليه، أو حول احتمالية أن تعلق الشاحنة في كومة ثلجية، فتتجمد حتى الموت في معطفها الشتوي وزي مساعدة الساحر اللماع الذين ترتديهما. تصاعدت أبخرة أنفاسها من أمامها. درجة الحرارة عشرون تحت الصفر. عما قريب ستغطي الثلوج هذه الطرقات فتُصيرها غير قابلة للمرور حتى يحل الربيع.
في كوخه المكون من غرفة واحدة بفراء وبنادق قديمة معلقة على الحوائط، أدار مزلاج باب مؤدي إلى قبو صغير وأراها مؤونته للشتاء: مئة من سمك السلمون المدخن، طيور دراج منتوفة الريش، وأرباع من لحم الغزال المجمد متدلية من الخطاطيف. قال:
“يكفي لشخصين من مثلي”.
بالأعلى، ألقت نظرة على كتبه فوق المدفأة: مقالة عن عادات طائر الطيهوج، سلسلة من المجلات عن طيور الصيد البرية، مجلد سميك عنوانه ببساطة: الدُب. سألها:
“هل تعبتِ؟”.
ثم:
“أتودين أن تري شيئا؟”.
أعطاها بذلة الثلج، ثبت حذاءيها في زوجين من أحذية الثلج الجلدية، ثم أخذها لتسمع صوت الدب الأشهب. لم تكن سيئة في استخدام الأحذية، باستثناء قليل من الحركات الخرقاء. شقا طريقهما وسط صرير أحذيتهما عبر الثلج المتعرج بفعل الريح في صقيع لا يكاد يحتمل.
كل شتاء كان الدب يتخذ وكره في ذات شجرة الأرز المجوفة التي انتزعت قمتها بفعل عاصفة. كان دبا أسود اللون، ثلاثي الأصابع وضخم الجثة، وعلى ضوء النجوم كان يتمثل كيد عظمية تندفع خارجة من الأرض، أو كغول زائر ينبش متفقدا طريقه خارج العالم السفلي. جثيا. بينما النجوم من فوقهما تبدو كنقاط بيضاء، ساطعة، وحادة كالسكاكين. همس:
“ضعي أذنكِ هنا”.
الأنفاس التي حملت كلماته تبلورت متجمدة ثم سرعان ما ذرتها الرياح.
أصغيا، وجها لوجه، بينما أذناهما مثبتتان فوق ثقوب خلفها طائر النقار في الجذع. سمعت الصوت بعد دقيقة، التقطت أذنها شيئا كالتنهيدة الناعسة، زفرة عميقة لهاجع. اتسعت عيناها. مرت دقيقة كاملة. فسمعت مرة أخرى.
همس:
“بإمكاننا رؤيته، لكن علينا أن نكون هادئين تماما. سبات الدببة الشهباء خفيف. أحيانا يكفي أن تدوس فقط على بعض الأغصان خارج أوكارهم فإذ بهم قد استيقظوا”.
شرع يحفر في الثلج. تراجعت للخلف بفم مفتوح وعينين واسعتين. دفع الصياد بخصر منحن الثلج للوراء عبر ساقيه. حفر بعمق ثلاثة أقدام حتى اصطدم بقشرة جليدية لامعة تغطي ثقبا ضخما في قاعدة الشجرة. أزاح بحذر طبقات الثلج ونحاهم جانبا. نفذت رائحة الدب إليها عبر الثقب، أشبه برائحة كلب مبتل، أو بالمشروم البري. أزال الصياد بعض الأوراق. فإذ تحتها خاصرة مشعثه، رقعة من الفرو البني.
همس قائلا بينما يشير نحو مكان ما بأعلى الجذع:
“إنه مستلق على ظهره. هذه بطنه. لابد أن قائمتيه الأماميتين هنا في مكان ما”.
وضعت يدها على كتفه وجثت في الثلج بجوار الوكر. كانت عيناها مفتوحتين على اتساعهما لا ترمشان. تعلق فكها متدليا. انفصلت من فوقها نجمة عن مجرتها ثم ذابت في السماء. قالت:
“أريد أن ألمسه”.
بدا صوتها عاليا وفي غير محله وسط تلك الغابة عند شجرة الأرز العارية تلك. فهمس بينما يهز رأسه بالرفض:
“تششش”.
“فقط للحظة!”.
فهسهس:
“لا. أنتِ مجنونة”.
شد ذراعها. نزعت القفاز عن يدها الأخرى بأسنانها ثم مدتها نحو الأسفل. فسحبها مرة أخرى لكنه فقد اتزانه فسقط للوراء بينما يمسك بقفازها الفارغ. بينما كان يراقبها مذعورا، استدارت ووضعت كلتا يديها، بأصابع متباعدة، على الوبر السميك لصدر الدب. ثم قربت وجهها، كما لو كانت تشرب من التجويف الثلجي، وضغطت شفتيها على صدره. كانت رأسها كلها داخل الشجرة. أحست بالأطراف الفضية الناعمة للوبر وهي تلامس وجنتيها. انثنى ضلع ضخم قليلا عند موضع أنفها. تناهى إلى سمعها أصوات الرئتين بينما تمتلئان ثم تفرغان. كان بإمكانها أن تسمع صوت الدماء وهي تنساب عبر الأوردة.
سألته:
“أتريد أن تعرف بماذا يحلم؟”.
رقى صدى صوتها خلال الشجرة وتدفق عبر النهايات المبتسرة لفروعها المجوفة. سحب الصياد سكينته من معطفه. تردد صدى صوتها:
“بالصيف. بالتوت أسود. بالسلمون. بحك خاصرتيه في حصى النهر”.
قالت لاحقا حين عادا إلى الكوخ وشرع الصياد يشعل النار:
“كنت أود لو أزحف الطريق كله نحو الأسفل. أن أتكور بين ذراعيه. أن أشده من أذنه وأقبله في عينيه”.
راقب الصياد النار، ألسنة اللهب تتقاطع فيما بينها، كل حطبة هي جسر محترق. ثلاثة أعوام قضاها منتظرا هذه اللحظة. ثلاثة أعوام وهو يحلم بفتاته هذه وهي تجلس إلى جوار النار. ولكن بطريقة أو بأخرى فقد انتهى الأمر على نحو مخالف لما تخيله. لقد ظن أن الأمر سيكون شبيها بالخروج للصيد. شبيها بالتربص لساعات بجانب مستنقع بينما ماسورة بندقيته مستندة إلى حقيبته منتظرا أن يظهر الرأس الضخم ذا القرنين لذكر الأيل وهو يشخص ببصره ناحية السماء، أن يسمع قطيعا بأكمله من ورائه وهم يشهقون ثم يتشرذمون هربا هابطين التل. إذا واتتك الفرصة تطلق النار وتسقطه صريعا، هذا كل ما في الأمر. ولكن هذا شعور مختلف. بدا الأمر كما لو أنه أصغر بثلاثة أعوام، كأنه مازال واقفا خارج الكنيسة المسيحية المركزية بعد أن تم اقتياده نحو شباكها المنخفض من قبل الرياح، أو ربما من قبل قوة أعظم.
همس لها بمقابل النار:
“ابقي معي. اقضي الشتاء هنا”.
***
وقف بروس مابلز إلى جواره، كان يعبث بالثلج في مشروبه باستخدام الشفاطة وقال:
“أنا مهتم بالرياضات. أدير القسم الرياضي هنا”.
“نعم. لقد ذكرت هذا”.
“أفعلت؟ لا أذكر. كنت أدرب على جري المضمار. سباق الحواجز”.
كان الصياد يراقب الرجل النحيل المغموم، الرئيس أوبراين، بينما يقف في زاوية غرفة الاستقبال. كل بضع دقائق يتوجه ناحيته بضع ضيوف ويسلمون عليه.
قال الصياد لمابلز:
“ربما تعرف أن الذئاب هم قفازو حواجز أيضا. في بعض الأحيان يعلق من يتتبعهم إذ تختفي آثار حوافرهم. كما لو أن قطيعا بأكمله قفز ببساطة داخل شجرة واختفى. يعثرون على آثارهم بعد هذا، على بعد ثلاثين أو أربعين قدما. كان الناس يعتقدون أن هذا سحر. ذئاب طائرة. لكن كل ما كانوا يفعلونه هو مجرد القفز. قفزة واحدة عظيمة ومنظمة.
كان مابلز يقلب ناظريه في أرجاء الحجرة. قال:
“هاه. حقا! لم أكن أعرف هذا”.
وبَقِيت. في المرة الأولى التي مارسا فيها الحب، صرخت بصوت عال جدا حد أن ذئابا تسلقت سطح البيت وعوت في المدفأة. استدار عنها متعرقا. كانت الذئاب تضحك وتنبح طوال الليل، كأطفال يعبثون في الباحة، انتابته الكوابيس. همست في أذنه:
“الليلة الفائتة انتابتك ثلاثة كوابيس، وكنت تحلم بأنك ذئب في كل مرة. كنت جوعانا بجنون وكنت تركض تحت القمر”.
هل حلم بهذا حقا؟ لا يمكنه أن يتذكر. ربما يتحدث وهو نائم.
في ديسمبر لا يحدث أن ترتفع درجة الحرارة عن خمس عشرة تحت الصفر. تجمد النهر بصورة لم يألفها من قبل. في أمسية عيد الميلاد قاد طوال الطريق نحو هيلينا ليبتاعها زلاجات جليد. في الصباح لفعا نفسيهما بالفرو من قمة الرأس حتى أخمص القدمين ثم خرجا للتزحلق على النهر. أمسكت به عند فخذيه وانسابا في الفجر الأزرق، تحركا عبر اللفائف المتجمدة والمياه الضحلة، تحت الأشجار العارية من النغت والحور، وحدها أطراف صفصاف الجداول العارية كانت تبرز من فوق الثلج. ومن أمامهما امتدادات النهر الشاسعة البيضاء تذوب في الظلمة.
عند منعطف صقلته الرياح عثرا على طائر بلشون ميت، بكاحلين متجمدين في الثلج. لقد حاول أن يخلص نفسه، فضرب بمنقاره أولا على الثلج الذي يدفن أصابعه ثم على ساقيه هو النحيلتين والمتقشرتين. وعندما مات أخيرا، مات واقفا، جناحاه مطويان إلى الخلف، منقاره مفتوح في صرخة أخيرة يائسة، وساقاه تشبهان عودي بوص مغروستين في الجليد.
نزلت على ركبتيها إلى جوار الطائر. رأت في عينيه وجهها ينعكس بصرامة. قال الصياد:
“إنه ميت. هيا بنا. سوف تتجمدين أنتِ أيضا”.
ردت:
“لا”.
نزعت قفازها وأغلقت منقار البلشون بقبضتها. التفت عيناها للوراء فورا. قالت في أنين:
“أوه. مذهل. أستطيع أن أشعر بها”.
بقيت هكذا لدقائق كاملة، الصياد يقف إلى جوارها، وهو يشعر بالبرد ينخر في ساقيه، خائفا أن يلمسها وقد ركعت بإزاء الطائر. ابيضت يدها ثم ازرقت بفعل الريح. وأخيرا وقفت قائلة:
“علينا أن ندفنها”.
استلقت تلك الليلة متيبسة وغير قادرة على النوم. لم يكن متأكدا مما يضايقها. لكنه شعر بأنه متضايق لنفس السبب.
“هذا مجرد طائر. ليس بإمكاننا أن نفعل شيئا لطائر ميت. من الجيد أننا دفناه، ولكن غدا سيعثر عليه شيء ما، ثم ينبش ويخرجه من مكانه”.
التفتت إليه. كانت عيناها مفتوحتين على اتساعهما. تذكر مظهرهما حين كانت تضع يديها على الدب. قالت:
“عندما لمستها، رأيت أين ذهبت”.
“ماذا؟”.
“رأيت أين ذهبت حين ماتت. لقد كانت على شط البحيرة مع طيور بلشون أخرى، مئات منهم، يواجهون جميعا ذات الاتجاه، ويخوضون بين الصخور. كان الوقت فجرا، وكانوا يتابعون الشمس وهي ترقى فوق الشجر القابع على الضفة الأخرى. لقد رأيت هذا بوضوح كما لو كنت هناك بنفسي”.
استلقى على ظهره وراقب ظلالا تتحرك عبر السقف. قال:
“الشتاء يؤثر عليكِ”.
عزم أن يتأكد من خروجها كل يوم. كان هذا شيئا آمن به منذ أمد بعيد: اخرج في الشتاء كل يوم وإلا ستفقد عقلك. كل شتاء كانت الصحف تمتلئ بحكايات عن زوجات مزارعين بقوا حبيسي المنازل، ففقدن عقولهن بسبب حمى الكوخ، ثم أجهزوا على أزواجهم بالسواطير أو المخارز.
تسلل الشتاء إلى جنبات الكوخ. أخذها للخارج كل يوم. أراها آلافا من الخنافس وهي تقوم بسباتها الشتوي داخل كرة برتقالية معلقة تتدلى من تجويف بضفة النهر. أراها زوجين من الضفادع الهاجعة مدفونين في طين متجمد، حيث تتبلور دماؤهما حتى الربيع. أخرج كرة من النحل خارج خليتها، كان طنينهم بطيئا، وكانوا مأخوذين من هول المفاجأة، تحلقوا حول الملكة بإحكام، كل نحلة تهتز لتوفر قليلا من الدفء. عندما وضع تلك الكرة في يدها، سقطت مغشية عليها وقد التفت عيناها للوراء. وبينما كانت مستلقية، رأت أحلامهم جميعا دفعة واحدة، أحلام اليقظة التي تراود عشرات من شغالات النحل إبان الشتاء، كل حلم ينضح بالحياة: دروب مضيئة عبر الأشواك تفضي إلى باقة من الورود البرية، ومئات الخلايا المترعة بالعسل في مظهر أنيق.
بمرور الأيام تعرفت أكثر عما يمكنها فعله. شعرت بحساسية لاذعة وغريبة تتدفق في دمها، كما لو أن بذرة زرعت قبل مدة طويلة قد شرعت تنبت الآن. كلما كبر الحيوان، كلما ازدادت قوة اضطرابها. الكائنات الميتة مؤخرا كانت بمثابة مناجم وهمية للرؤى، يتم التخلص منها عبر قوة تتلاشى ببطء كقطع سلسلة طويلة من الحبال واحدا تلو الآخر. خلعت قفازيها وشرعت تلمس كل شيء بإمكانها أن تطوله: الخفافيش، السمادل، فرخ كاردينال سقط من عشه وما زال دافئا. عشرة من ثعابين الغارتر الملتفة تحت صخرة بجفون مغلقة وألسنة ساكنة. في كل مرة لمست حشرة متجمدة، برمائيا هاجعا، أو أي شيء مات للتو، كانت عيناها تلتف للوراء، وكانت رؤاها، جنتها الخاصة، تثير رجفة في جسدها كله.
مر شتاؤهما الأول على ذلك النحو. إذا نظر هو عبر نافذة الكوخ، رأى آثار قطعان من الذئاب تعبر النهر، بوم يصطاد على الأشجار، وستة أقدام من الثلج الشبيه باللحاف جاهزة لكي تلقى بعيدا. أما هي فقد رأت الحالمين المختبئين الذين عششوا تحت الجذور في مواجهة الشفق الطويل، كانت أحلامهم تتموج في السماء تماما كالشفق القطبي.
بالحب العالق في قلبه كما لو كان شظية تزوجها مع أول أوحال الربيع.
شهق بروس مابلز حين وصلت زوجة الصياد أخيرا. عبرت الباب كحصان عرض، متحفظة في الطريقة التي خفضت بها عينيها، ولكن واثقة من خطواتها في نفس الوقت، كانت تطرق الأرضية الجرانيتية بحذائين من الكعوب المدببة. لم يكن الصياد قد رأى زوجته منذ عشرين عاما، وقد تغيرت كثيرا: لقد أصبحت أرق، أقل وحشية، وبطريقة ما، فقد كانت بالنسبة له أسوأ لهذا التغيير. تجعد وجهها حول عينيها، وكانت تتحرك بطريقة من يود تجنب الاحتكاك بأي شيء قريب، كما لو أن طاولة صالة الاستقبال أو باب الخزانة قد ينقضان فجأة للأمام ويشدانها من تلابيبها. لم تكن ترتدي أية مجوهرات، أو خاتم زفاف، فقط بذلة سوداء بسيطة مزدوجة الأزرار.
عثرت على شارة اسمها فوق الطاولة ثم علقتها على ياقة بذلتها. كل شخص بغرفة الاستقبال ألقى نظرة عليها أولا ثم صرف عينيه بعد ذلك. أدرك الصياد أنها، لا الرئيس أوبراين، هي ضيفة الشرف الحقيقية. بمعنى ما كانوا يتوددون إليها. كانت هذه طريقتهم، طريقة رئيس جامعة: نادل صامت، فتيات في المعاطف الرسمية، مشروبات مثلجة كبيرة. “اعطها فطيرة”، فكر الصياد، “فطيرة راوند. أو أرها دبا أشهبا نائما”.
جلسوا للعشاء حول طاولة ضيقة وطويلة للغاية، نحو خمسة عشر كرسيا بظهر عال على جانبيها إضافة إلى كرسي عند كل طرف. كان الصياد يجلس على مبعدة عدة كراسي من زوجته. نظرت نحوه أخيرا، نظرة تعرف، ودفء، ثم حولت نظرها بعيدا مرة أخرى. لابد أنه بدا لها عجوزا. لابد أنه بدا لها عجوزا على الدوام. لم تنظر إليه مرة أخرى.
أحضر طاقم المطبخ، في أرديتهم البيضاء المكوية بعناية، حساء البصل، والجمبري المقلي، وسمك السلمون المسلوق. تحدث الضيوف من حول الصياد في شبه همس عن أشخاص لا يعرف عنهم شيئا. كانت عيناه مثبتتين على النوافذ وعلى الثلج الذي يهب بالخارج.
ذاب النهر المتجمد ودفع أكواما من الجليد بتجاه نهر ميزوري. شعر الصياد بهذه الاستثارة القديمة، بهذا الاندفاع في روحه، في وقت كهذا ينهض مع الفجر الوردي العريض، يقبض على قصبة الصيد بالذباب خاصته، ويهرع نازلا بتجاه النهر. تكون أسماك السلمون المرقط قد صعدت بالفعل عبر المياه البنية الباردة لتأكل أولى حشرات الربيع. سرعان ما يرن الهاتف في الكوخ باتصالات العملاء، وبذا يبدأ موسمه كدليل صيد.
في أبريل قد يريد زبون موسمي صيد أسد جبلي أو الخروج في رحلة صيد طيور مع الكلاب، أما أواخر الربيع والصيف فهما مخصصان لصيد السلمون المرقط. كان يخرج كل صباح قبيل الفجر، يقود بترموس القهوة ليقل محاميا، أو أرملا، أو سياسيا ذا ولع بصيد السلمون الوحشي. يعود للمنزل وقد فاحت منه رائحة أمعاء السمك النتنة ويوقظها ليحكي لها حكاياته الحماسية: سمكة سلمون محلية تقفز شلالات بطول خمسة عشر قدما، أو سلمون قوس قزح عنيد عالق تحت جذع ساقط بالماء.
بحلول يونيو كانت ضجرة ووحيدة. كانت تتجول خلال الغابة، دون أن تذهب بعيدا أبدا. الغابات في الصيف كثيفة ومأهولة، ليس كحالها إبان الشتاء حين تكون كالقبر الهادئ. إذ لا شيء ينام طويلا، يخرج كل شيء من شرنقته، يحلق، يئز، يتكاثر، يلد صغارا، ويزداد في الوزن. صغار الدببة يرشون أنفسهم بماء النهر. فيما تصرخ الكتاكيت طلبا للديدان. اشتاقت لسكون الشتاء، للسبات الطويل، للسماء العارية، لقرقعة العظم على العظم التي تصدر عن ضرب الأيائل الشجرَ بقرونها.
في سبتمبر جاء صيادو الطرائد الضخمة. كل زبون يريد شيئا مختلفا: أيل، ظبي، ذكر الموظ، أو أنثى الغزال. يودون مشاهدة الدببة الشهباء، أو تتبع حيوان اللقام، أو إطلاق النار على طائر الكركي. يودون رءوس الأيائل الملكية ذات القرون السبعة ليزينوا بها جدران بيوتهم. كل بضعة أيام يعود للمنزل تفوح منه رائحة الدم، محملا بقصص عن زبائن أغبياء، عن هذا الرجل من تكساس الذي جلس لاهثا، غير قادر على الصعود إلى قمة التل ليطلق رصاصته. أو هذا النيويوركي المتعطش للدماء الذي أدعى أنه يود فقط تصوير الدببة السوداء، قبل أن يستل مسدسا من حذائه ويطلق النار بوحشية على دبين صغيرين وأمهما. ليلا كانت تغسل بقع الدم التي تلطخ ملابس الصياد، تراقبها بينما تتلاشى متقلبة من لون الصدئ إلى اللون الأحمر ثم إلى الوردي في حوض مملوء بماء النهر.
بدأت تنام، كانت تأخذ قيلولات طويلة بعد الظهر لثلاث ساعات أو أكثر. تعلمت أن النوم مهارة كأي مهارة أخرى، كأن يُنشر المرء إلى نصفين ثم يعاد جمعه، أو كالتنبؤ برؤى طائر أبي حناء ميت. علمت نفسها أن تنام على رغم الحرارة، وعلى رغم الضوضاء. الحشرات تطرح نفسها على الشبكات المعدنية، والدبابير تهبط مندفعة داخل المدخنة، وأشعة الشمس الحارقة الملحة تسقط مائلة عبر النوافذ الجنوبية. ورغم ذلك كله تنام. حين يعود للبيت كل ليلة خريفية، متعبا، وبساعدين ملطخين بالدماء، تكون مستغرقة في النوم منذ ساعات. فكر بأن الريح في الخارج تجرد أشجار الحور من أوراقها قبل الأوان. أخذ يدها النائمة بين يديه. كلاهما يعيش تحت وطأة قوى ليس بإمكانهما السيطرة عليها: رياح أكتوبر، وتقلبات الأرض.
***
كان ذلك هو أسوأ شتاء بإمكانه تذكره. من عيد الفصح فصاعدا ظلا محاصرين بالجليد، دفنت شاحنته تحت ستة أقدام من أكوام الثلج. تعطلت خطوط التليفونات في ديسمبر وبقيت هكذا حتى أبريل. بدأ يناير برياح دافئة تُبعت بصقيع فظيع. في الصباح التالي تغطى الثلج بطبقة جليدية سمكها ثلاثة انشات. علقت الماشية في مزارع الجنوب بينما تحاول اختراق الجليد فنزفت حتى الموت وهي تحاول تحرير نفسها. انهارت الغزلان بأظلافها الصغيرة واختنقت تحت طبقات الثلج العميق. كانت الدماء تسيل كأوردة معروقة تشق التلال.
في الصباح كان يجد آثار الذئاب مطبوعة على الثلج حول الباب المفضي إلى القبو الصغير، انشان فقط من الخشب الصلب يفصلانهم عن مؤونته الشتوية المتجمدة والمعلقة تحت ألواح الأرضية. دعم الباب بألواح سمرها في الخشب ومن فوق المفصلات. استيقظ مرتين على صوت حوافر تخربش على المعدن فاندفع خارجا وهو يصرخ ليصرف الذئاب بعيدا.
أينما توجه بنظراته كان ثمة شيء يموت: أيل يسقط مغشيا عليه، ظبية هزيلة تترنح فوق الجليد كهيكل عظمي سكران. تفيد أخبار المذياع بخسارات فادحة بين قطعان المواشي في المزارع الجنوبية. كل ليلة كان يحلم بالذئاب، العدو معها، القفز من فوق الأسوار، وتمزيق جيف الماشية التي تتصاعد منها أبخرة الثلج.
استيقظ في فبراير على صوت الذئاب تحت كوخه. سحب قوسه واستل سكينه واندفع خارجا عاري القدمين في الثلج، تخدرت قدماه. كانوا قد تسللوا من تحت الباب، وكانوا يزدردون ويحفرون الأرضية المتجمدة من تحت الأساس. فك ما تبقى من الباب وأبقاه مفتوحا.
لم يكن بحوزته سوى سهام صيد الأيائل ذات الأعواد الألومينية المدببة والرؤوس العريضة. جثا عند المدخل المظلم -مخرجهم الوحيد- بوتر قوسه مشدودا على آخره وبسهم معد للإطلاق. من فوقه كان بإمكانه أن يسمع الوقع الهادئ لخطوات زوجته على ألواح الأرضية. أصدر ذئب صوت سعلة. تحرك آخرون ولهثوا. ربما كانوا عشرة. شرع يطلق السهام بثبات في الظلام. سمع بعضهم يعض كتل الأساس في نهاية القبو، آخرون انغرزوا في كتل اللحم. أطلق كل ما في جعبته: دزينة من السهام. علت صرخات الذئاب المطعونة. انقض عليه بعضهم، فهاجمهم بسكينه. شعر بأسنان تنغرز في عظام ذراعه، وبأنفاس حارة على خديه. طعن بسكينه في الضلوع، والذيول، والجماجم. صرخت عضلاته. كانت الذئاب في حالة هياج. اندفع الدم من رسغه وفخذه.
تناهى إلى سمعها أصوات الصرخات غير المألوفة للذئاب الجريحة تخرج عن ألواح الأرضية، إضافة إلى أناته ولعناته بينما يقاتل. بدا الأمر كما لو أن نفقا قد شق على طول الطريق من الجحيم حتى أسفل منزلهم، وما يخرج عنه الآن هو أقصى درجات العنف التي يمكن أن يشهدها مكان. جثت بإزاء المدفأة واستشعرت أرواح الذئاب بينما تخرج عبر الألواح في طريقها نحو السماء.
كان غارقا في دمائه، وجوعانا، وكان فخذه قد تأذى بشكل سيء، ورغم ذلك قضى اليوم كله في الحفر ليخلص الشاحنة العالقة. سيتضورون جوعا إذا لم يحصل على طعام. حاول أن يركز تفكيره على الشاحنة. جر لوحا حجريا ولحاء شجرة ليحشرهم تحت العجلات، أزاح جبل ثلج من صندوق الشاحنة. ثم أخيرا، وبعد أن أستحكم الظلام، أستطاع أن يدير المحرك، ليمضي بعدها في طريقه على الثلج الذي جمدته الرياح. لبرهة قصيرة رائعة، كان يميد متحركا فوق القشرة الجليدية، أنوار النجوم تتخلل عبر النوافذ، العجلات تدور، المكابس ترتج، وما بدا أنه الطريق كان ينكشف على ضوء كشافاته الأمامية. ثم انغمس.
ببطء، وبألم، شرع يحفر مرة أخرى ليخلصها.
كان الحال ميؤوسا منه. إذ كان يخرجها، ثم خلال بضعة أميال لاحقة تنغمس مجددا. بالكاد كان يجد مساحات حيث تكون القشرة الجليدية فوق الثلج سميكة بما يكفي لتتحمل وزن الشاحنة. لعشرين ساعة كان يحفر ثم يزيد من سرعته ليدفع الشاحنة فوق أكوام من الثلج بارتفاع ثمانية أقدام. ولثلاث مرات إضافية كانت تنغمس في الجليد وتغرق إلى مستوى النوافذ. تركها أخيرا. كان على بعد عشرة أميال من البيت، وثلاثين ميلا من المدينة.
أشعل نارا دخانية هزيلة باستخدام أغصان مقطوعة وتمدد بجوارها محاولا النوم، لكنه لم يقدر. أذابت حرارة النار الثلج الذي يحوطها، انزلقت القطرات ببطء نحوه لكنها تجمدت متصلبة قبل الوصول إليه. النجوم التي تدور في أبراجها فوقه لم يسبق أن بدت أبرد أو أبعد. في حالة بين اليقظة التامة والنعاس التام، كان يرى الذئاب بينما تلتف حول ناره، خارج دائرة النور، هزيلة ولعابها يسيل على فكوكها. فكر لأول مرة بأنه ربما يموت إذا لم يتدفأ. تمكن بصعوبة من الجلوس على ركبتيه والالتفاف ثم الزحف بتجاه البيت. كان يشعر بالذئاب تحوطه، يشم الدم الذي يلطخ أجسادهم، ويسمع خربشات مخالبهم على الثلج.
سافر طوال هذه الليلة وطوال اليوم التالي، في شبه غيبوبة، أحيانا على قدميه وأحيانا أخرى أكثر على ركبتيه وكوعيه. تارة يظن نفسه ذئب، وتارة يظن نفسه ميت. وعندما وصل أخيرا إلى الكوخ، لم يكن ثمة من أثر لزوجته في الرواق، وما من علامة تدل على خروجها. باب القبو كان ما يزال مفتوحا، بينما تناثر حطام من إطار الباب وجوانبه على الأرضية.
كانت جاثية على الأرضية، يغطي الثلج شعرها، غارقة في حالة من الخدر الناجمة عن الانخفاض الحراري. بآخر ما تبقى لديه من طاقة أشعل نارا وسكب كوبا من الماء الدافئ في حلقها. وبينما يغرق في النوم، رأى نفسه من بعيد، يبكي ويعانق زوجته التي كادت تتجمد حتى الموت.
لم يكن لديهم سوى دقيق وقليل من البسكويت في خزائنهم. عندما صار بإمكانها أن تتكلم، كان صوتها هادئا وبعيدا. همهمت:
“لقد حلمت بالأشياء الأكثر روعة. لقد رأيت الأماكن التي تذهب إليها الذئاب عندما ترحل. أعرف أين تذهب العناكب، والإوز….”.
تساقط الثلج بلا انقطاع. الليل كان سرمديا، فيما مر النهار كزفرة قصيرة. كان الصياد جائعا بشدة. وكلما نهض واقفا كان نظره يزيغ في خطوط ألوان بطيئة ومقززة. خرج بالمصابيح ليصطاد، حفر حتى وصل إلى جليد النهر، ثم فرمه باستخدام المطرقة، ليدلي كرة عجين معلقة بخطاف عبر الحفرة. أحيانا كان يعود للبيت بسمكة سلمون مرقط، وأحيانا أخرى كانوا يأكلون سنجابا، أو أرنبا. ذات مرة أكلوا أيلا جائعا بعد أن حطم الصياد عظامه وغلاها. وأحيانا حفنات قليلة من ثمار الورد. في الأوقات الأسوأ من شهر مارس حفر ليخرج نبات البوط من أجل أن يكشط درناته ويسويها على البخار.
بالكاد كانت تأكل، فقد كانت تنام ثماني عشرة أو عشرين ساعة. ولم تكن تستيقظ سوى لتشخبط على أوراق دفترها قليلا قبل أن تعود للنوم مرة أخرى، متشبثة بالأغطية كما لو كانت تمنحها الأود. تعلمت أن قوة ما تستتر في قلب الضعف، كأرض صلبة في قاع حفرة عميقة. بمعدتها الخاوية، وبجسدها الهادئ، وبدون متطلبات العيش اليومية، تملكها شعور بأنها تقوم باكتشافات عظيمة. كانت فقط في التاسعة عشر ربيعا، وقد فقدت عشرين كيلوجراما مذ تزوجته. لم تكن وهي عارية سوى قفص صدري وحوض ناتئين.
قرأ أحلامها المشوشة، لكنها بدت له محض أشعار بلا معنى، إذ لم تمنحه أفكارا واضحة ليفهمها.
حلزون: يتزحلق على الصخور تحت المطر.
بومة: تثبت عينيها على أرنب بري يهبط كما لو كان من القمر.
حصان: يقطع السهول جريا مع إخوانه…
في أبريل ارتفعت درجة الحرارة إلى ما فوق الصفر ثم إلى ما فوق العشرين. وضع بطارية إضافية في حقيبته وذهب ليخلص الشاحنة العالقة. استغرق استخراجها اليوم بطوله. قادها ببطء عبر الطريق الموحل تحت ضوء القمر. سألها حين عاد عما إذا كانت تود الذهاب للمدينة في الصباح التالي. ولدهشته أجابت بنعم. سخنوا مياها للاستحمام وارتدوا ملابسا لم يكن بإمكانهم ارتداؤها خلال الستة أشهر الماضية. كانت قد برمت حبلا عبر حلقات حزامها لتثبت سروالها.
من وراء المقود، كان صدره مبتهجا لوجودها معه، ولخروجهما إلى المدينة، ولرؤية الشمس الساطعة من فوق الأشجار. تزين الوادي. فقد كان الربيع قادما. أراد أن يقول:
“أنظري إلى هناك. إلى هذا الإوز الذي يعبر الطريق. الوادي ينبض بالحياة. حتى بعد شتاء كهذا!”.
طلبت منه أن ينزلها عند المكتبة. اشترى هو طعاما: دزينة من البيتزا المجمدة، بطاطس، بيض، جزر. كاد أن يبكي حين رأى الموز. في مرآب السيارات شرب نصف جالون من اللبن. عندما مر عليها عند المكتبة كانت قد اشتركت في بطاقتها واستعارت عشرين كتابا. توقفا عند مطعم بيتر روت ليتناولا شطائر الهامبرجر وفطيرة الراوند. أكلت ثلاث قطع. كان يراقبها وهي تأكل، بينما تنسل الملعقة خارج فمها. بدا هذا أفضل. إذ كان هذا شبيها بأحلامه. قال:
“حسنا، ماري. أظن أننا فعلناها”.
قالت:
“أحببت الفطيرة”.
بمجرد أن تصينت الخطوط عاد التليفون ليرن من جديد. أخذ هو زبائنه في رحلات عبر النهر. بينما جلست هي في الرواق تقرأ بنهم.
سرعان ما عجزت مكتبة جريت فولز العامة عن إشباع رغبتها النهمة والمفاجئة للكتب. أرادت مزيدا من الكتب والمقالات عن فنوف إلقاء التعاويذ ومبادئ الخدع السحرية واستحضار الأرواح فطلبتها عبر البريد من نيو هامشير، ونيو أورلينز، بل ومن إيطاليا. كان الصياد يقود إلى المدينة مرة كل أسبوع ليستلم طردا من الكتب من مكتب البريد: كتاب خفايا الكون، قاموس العراف، ذروة فن السحر، العلم الخفي عند القدماء. فتح مرة أحد هذه الكتب على صفحة عشوائية وقرأ:” احضر الماء، اربط شريطا حول مذبحك، احرقه فوق أغصان طازجة ولبان”.
استعادت صحتها، امتلأت بالطاقة، لم تعد مستلقية تحت الفراء تحلم طوال اليوم. تكون خارج السرير قبله، تعد قهوتها، وتدس أنفها بين الصفحات. بغذاء منتظم من اللحم والخضروات استعاد جسدها عافيته، التمع شعرها، وتألقت عيناها وخداها. كم بدت جميلة في نظره إبان تلك الساعات القليلة التي يكونها في البيت. بعد وجبة العشاء يشاهدها وهي تقرأ على ضوء المدفأة، بينما ريش طائر شحرور مضفر بشعرها كله، ومنقار بلشون معلق بين نهديها.
في نوفمبر أخذ إجازة في يوم أحد وتزلجا عبر المنطقة. صادفا أيلا متجمدا حتى الموت عند منخفض. نعقت الغربان في وجوههم ما إن اقتربا منه. انحنت وأرخت راحتها على الجمجمة المتصلبة. همهمت:
“هنا. أنا أشعر به”.
بينما يقف من ورائها، سأل:
“ما الأمر؟ بماذا تشعرين؟”.
وقفت مرتجفة. قالت:
“أشعر بحياته تنسرب خارجا. أرى أين يذهب وماذا يرى”.
رد:
“ولكن هذا مستحيل. كما لو كنتي تقولين بأنك تعرفين بماذا أحلم أنا”.
قالت:
“أنا أعرف فعلا. أنت تحلم بالذئاب”.
“ولكن هذا الأيل ميت على الأقل منذ يوم. لم يذهب إلى أي مكان. سيذهب فقط إلى حوصلات هذه الغربان”.
كيف يمكنها أن تخبره؟ كيف يمكنها أن تطلب منه أن يتفهم شيئا كهذا؟ كيف يمكن لأي شخص أن يتفهم هذا أصلا؟ بأوضح من أي وقت مضى كانت ترى خيطا رفيعا يفصل ين الحلم واليقظة، بين الموت والحياة، خيط رقيق حد أنه أحيانا لا يكاد يوجد. دوما ما بدا هذا أوضح ما يكون في الشتاء. ففي الشتاء، في هذا الوادي، الموت والحياة ليسا مختلفين إلى حد بعيد. قلب سمندل متجمد كلية في حالة سبات، كان بإمكانها أن تدفئه وتوقظه في راحتها. بالنسبة للسمندل لم يكن ثمة من خيط البتة، ما من سور، ما من نهر فاصل، فقط مساحة بين الموت والحياة كحقل ثلجي بين بحيرتين: مكان حيث يتلاقى الحلم واليقظ، حيث يكون الموت مجرد احتمالية ورؤى تتصاعد متلألئة كدخان نحو النجوم. كل هذا كان بحاجة فقط إلى يد، إلى حرارة كف، إلى لمسة أصابع.
في فبراير ذاك سطعت الشمس خلال الصباح فيما تكون الثلج ليلا. طبقات زلقة غمرت حقول القمح والأسطح والطرقات. ذات يوم وصلها إلى المكتبة، كانت سلاسل الإطارات تصطك بينما يبتعد بسيارته متجها على طول نهر ميزوري نحو بلدة فورت بينتون.
حوالي الظهيرة تقريبا انحرف مارلين سبوكس، وهو سائق جرافة ثلجية يعرفه الصياد من أيام المدرسة الابتدائية، انزلق بجرافته من فوق جسر صن ريفر ليسقط من ارتفاع أربعين قدما في النهر. كان قد مات قبل أن يتمكنوا من إخراجه من العربة. كانت تقرأ في المكتبة، على مقربة من الجسر، حين سمعت دوي ارتطام الجرافة بقاع النهر، كان دويا مخيفا كسقوط ألف عارضة حديدية دفعة واحدة. حين وصلت إلى الجسر، وهي تعدو في تي شيرت وسروال من الجينز، كان الرجال بالفعل قد هبطوا إلى الماء: عامل تليفونات من هيلينا، صائغ، وجزار في مئزره. هبط جميعهم ضفتي النهر وخاضوا في المياه المتدفقة محاولين أن يفتحوا الباب. رفع الرجال مارلين خارج الكابينة، وهم يترنحون بينما يحملونه. تصاعد البخار من أكتافهم ومن كبوت الشاحنة المهشم. اندفعت عبر المنحدر المغطى بالثلج ووصلت إليهم. يدها على ذراع الصائغ، وساقها تلمس ساق الجزار، مدت يدها لتقبض على كاحل مارلين.
حين لمس إصبعها جسد مارلين، التفت عيناها للوراء وقفزت أمامها رؤية واحدة: مارلين سبوكس يبدل بدراجة هوائية، مثبت فوق إطارها الخلفي مقعد مربوط إليه بإحكام صبي- هو ابن مارلين- يرتدي خوذة. غمر الراكبين أنوار متلألئة بينما ينطلقان في درب تحتي عملاق تحفه أشجار القيقب المورقة. مد الصبي قبضة صغيرة بتجاه شعر مارلين. مر انعكاسهم بسرعة خاطفة على زجاج نافذة أمامية لأحد المتاجر. تقلبت الأوراق الساقطة في أعقابهم. هذه الرؤية الهادئة، كشريط من حرير ناعم، تدفقت للخارج ببطء وسلاسة، وبقوة عظيمة، جعلتها تترجف تحت وطأتها. كانت هي من يبدل بالدراجة. وكان إصبع الصبي يشد شعرها هي.
الرجال الذين كانوا يلمسونها أو يلمسون مارلين رأوا ما رأته، وأحسوا بما أحست به. أول الأمر كانوا يتحدثون عن هذا داخل أقبية بيوتهم، تحت جنح الليل، لكن جريت فولز لم تكن بالمدينة الكبيرة، ولم يكن شيء كهذا مما يمكن للمرء أن يحبسه في قبو. سرعان ما ناقشوا الأمر في كل مكان، في المتاجر، وفي محطات الوقود. حتى أولئك الذين لم يسبق أن عرفوا مارلين سبوكس أو ابنه أو زوجة الصياد أو أيا من الرجال الذين كانوا في النهر ذاك الصباح تحدثوا عن الأمر كخبراء. قال حلاق:
“كل ما توجب عليك فعله هو أن تلمسها. وسترى أنت أيضا”.
هتف صاحب بقالة بحماس:
“أجمل درب يمكن أن تحلم به أبدا!”.
فيما همس موظفو السينما:
“لم تكن فقط لتقود دراجته ومعك ابنه، بل كنت لتحبه حقا!”.
***
كان بإمكانه سماع هذا في كل مكان. في كوخه، أشعل نارا وشرع يقلب بلا اكتراث في كومة من كتبها. لم يكن يفهم أيا منها. لم يكن كتاب واحد حتى بالإنجليزية.
بعد العشاء، أخذت الأطباق إلى الحوض.
سألها:
“أتقرأين الآن بالإسبانية؟”.
توقفت يداها في الحوض. قالت:
“إنها البرتغالية. أفهم القليل فقط”.
قلب شوكته بين يديه:
“هل كنتِ هناك عندما قُتل مارلين سبوكس؟”.
“لقد ساعدت في سحبه خارج الشاحنة. لا أظنني كنت ذات فائدة كبيرة”.
نظر إلى مؤخرة رأسها. شعر برغبة في غرز شوكته في الطاولة.
“أي ألاعيب فعلتها؟ هل نومتي الناس مغناطيسيا؟”.
تقلص كتفاها. خرج صوتها غاضبا:
“لماذا ليس بإمكانك أن…”.
لكن صوتها خانها. تمتمت:
“لم تكن هناك ألاعيب. لقد ساعدت في حمله”.
عندما بدأت تتلقى مكالمات هاتفية، كان يغلق السكة في وجوه المتصلين. لكنهم كانوا عنيدين: أرملة مكلومة، محامي أحد الأيتام، صحفي من جريدة جريف فولز تريبيون. أب منتحب قاد طوال الطريق إلى كوخهم ليتوسلها أن تحضر لدار الجنازات، وفي النهاية وافقت. أصر الصياد على توصيلها. فلم يكن صائبا في رأيه أن تذهب إلى هناك بمفردها. أنتظر في شاحنته داخل مرآب السيارات، دون أن يسمع سوى طقطقة المحرك وهمهمات الراديو.
بعد برهات، وبينما كان يساعدها في الصعود إلى الكابينة. حيث كانت ملابسها مشبعة بالعرق. قالت:
“أشعر بالحيوية. كأن دمائي تفور داخل جسدي”.
في البيت استلقت مستيقظة، ذاهلة، طوال الليل.
اتصلوا بها مرة بعد مرة، وفي كل مرة كان يوصلها. كان يقلها حتى بعد يوم كامل من صيد البط ثم يغفو من التعب بينما ينتظرها في السيارة. وعندما يستيقظ، تكون إلى جواره، تشد على يده، شعرها مخضل، وعيناها متقدتان. قالت:
“لقد حلمتَ بأنك كنت مع الذئاب تأكلون السلمون، الذي جرفته المياه وكان يحتضر على الشواطئ الضحلة”.
قاد للبيت وسط الحقول المعتمة. حاول أن يرقق من نبرته:
“ماذا تفعلين هناك بالداخل؟ ماذا حقا؟”.
“أمنحهم عزاءا. أجعلهم يودعون أحباءهم. أساعدهم ليعرفوا شيئا من المستحيل أن يعرفوه بطريقة أخرى”.
قال:
“لا. أنا أعني أي نوع من الحيل؟ كيف تفعلينها حقا؟”.
حولت راحتي يديها للأعلى. قالت:
“ما داموا يلمسونني، فإنهم يرون ما أرى. ادخل معي المرة القادمة. ادخل وأمسك يدي. وسوف تعرف”.
لم ينبس ببنت شفة. كانت النجوم أعلى الزجاج الأمامي تبدو جامدة في أماكنها.
أرادت العائلات أن تدفع لها، أغلبهم لم يسمحوا لها بالرحيل حتى فعلوا. كانت تخرج إلى الشاحنة وفي جيبها خمسون، مائة، -وفي إحدى المرات- أربع مائة دولار مطوية في جيبها. شرعت تنطلق خارجا في العطلات، تختفي بالشاحنة قبل أن يستيقظ، كسائق لا يهاب شيئا. تجثو عند صرعى الطرقات: ظربان متجعد، وغزال متهشم. ضغطت راحة يدها على شبكة الشاحنة حيث تسوى قشور الحشرات. أتت المواسم ومرت. قضت نصف الشتاء بالخارج. كل منهما صار بمفرده. لم يعودا يتحدثان. في رحلات القيادة الطويلة كانت تشعر في بعض الأحيان برغبة في أن تمضي بالشاحنة بعيدا ولا تعود أبدا.
مع الذوبان الأول للثلوج كان يخرج إلى النهر محاولا أن ينسى نفسه في إيقاع الرمي، في صوت الحصى الذي يشق طريقه أسفل التيار وهو يطقطق. ولكن حتى الصيد بات مبعثا على الوحدة بالنسبة إليه. كل شيء، فيما بدا، كان خارجا عن إرادته: شاحنته، زوجته، ومسار حياته نفسه.
وبحلول موسم الصيد، كان عقله قد شرد تماما. صار يفسد الصيد بأخطاء من قبيل الاقتراب من أيل في اتجاه الريح، أو إخبار زبون بأن يتوقف ويفرغ خزانة بندقيته قبل ثلاثين ثانية من خروج طائر دراج من مخبئه. عندما فوت زبون إشارته وأطلق سهما متأخرا على عنق ظبي، انفجر الصياد غضبا من استهتاره، وجثا عند آثار أقدام الحيوان، قابضا على الثلج المضرج بالدماء. زعق في وجهه:
“هل تعرف ماذا فعلت؟ كيف سيصطدم عود السهم بجذع الأشجار؟ هل تعرف كيف سيتعين على هذا الحيوان أن يجري بلا نهاية؟ وكيف ستهرول الذئاب من ورائه لتمنع عنه الراحة؟”.
لهث الزبون واحمر وجهه. ثم قال:
“الذئاب لا تصطاد هنا. ما من ذئاب في هذه المنطقة منذ عشرين عاما”.
كانت في بوتي، أو ربما ميسولا حين اكتشف أموالها في حذائها عالي الساق: ستة آلاف دولار وفكة. ألغى رحلاته، وبقي يغلي غضبا ليومين، يقطع الرواق جيئة وذهابا، وينبش في أغراضها، ويعيد صياغة حججه في رأسه. عندما رأته، ورزمة الأوراق النقدية تبرز من جيب سترته، توقفت في منتصف الطريق إلى الباب، كانت حقيبتها على كتفها، وكان شعرها مشدودا للوراء.
قال:
“هذا ليس صوابا”.
مشت بالقرب منه في تجاه الكوخ.
“أنا أساعد الناس. أنا أفعل ما أحب. ألا ترى كيف أشعر بالتحسن بعدها؟”.
“أنتِ تستغلينهم. إنهم يبتئسون في الحداد وأنتِ تأخذين أموالهم”.
صرخت:
“هم من يريدون أن يدفعوا! أنا أساعدهم أن يروا شيئا يودون أن يروه بشدة”.
“هذا احتيال. ونصب”.
عادت خارجة إلى الرواق. قالت بصوت هادئ وقوي:
“لا، هذا حقيقي. بقدر ما أي شيء آخر حقيقي: تماما كالوادي، والنهر، وسمكك المعلق في القبو. لدي منحة. موهبة”.
شخر.
“موهبة في الاحتيال. في سلب الأرامل مدخراتهن”.
طوح المال في الباحة. التقطت الريح الأوراق وبعثرتها فوق الثلج.
ضربته، بعنف، مرة واحدة على فمه. بينما تصرخ:
“كيف تجرؤ؟ أنت من دون الناس جميعا يجب أن تفهم. أنت يا من تحلم بالذئاب كل ليلة!”.
في الأشهر التالية باتت تترك الكوخ بشكل أكثر تكرارا ولفترات أطول، تزور البيوت، ومواقع الحوادث، ودور الجنازات في جميع أنحاء وسط مونتانا. وأخيرا، أخذت الشاحنة للجنوب ولم تعد أبدا.
كانا قد تزوجا لخمسة أعوام.
***
بعد عشرين عاما، في مطعم بيتر روت، كان ينظر إلى التلفاز المعلق على الحائط فإذ به يراها تجري مقابلة. عاشت في مانهاتن، لفت العالم، كتبت كتابين، ومطلوبة في كل أنحاء البلاد.
سألها المحاور:
“أتتواصلين مع الموتى؟”.
أجابت:
“لا، أنا أتواصل مع الأحياء. أنا أمنح الناس السلام”.
قال المحاور بينما يحول حديثه إلى الكاميرا:
“حسنا، أنا أصدقها”.
ابتاع الصياد كتبها من متجر الكتب وقرأهم كلهم في ليلة واحدة. كانت قد كتبت قصائد عن الوادي، موجهة في خطابها إلى الحيوانات: أيها الذئب الجامح، أيها الغزال المبجل. سافرت إلى السودان لتلمس العمود الفقري لحفرية الستيجوسورس، وكتبت عن احباطها لما لم تستشف شيئا من خلاله. شبكة تلفزيونية أرسلتها إلى كامتشاتكا لتحتضن الرقبة الضخمة الشعثاء لماموث بينما يُرفع جوا من قلب النهر المتجمد. كان حظها أفضل هذه المرة، إذ وصفت قطيعا كاملا يتحرك بخطوات واسعة عبر مد موحل، يمزقون عشب البحر، ويوسعون آذانهم لالتقاط أشعة الشمس. في العديد من القصائد كانت توجد تلميحات غامضة إليه: وجود مظلم مشبع بالدماء يحوم خارجا عند الهوامش كعاصفة في طريقها، أو كقاتل يختبئ في قبو.
كان عمر الصياد ثمانية وخمسين عاما. عشرون عاما هي زمن طويل. تلاشى الوادي ببطء ولكن بشكل ملحوظ: عُبدت طرق جديدة، وتركت الدببة الشهباء المكان بحثا عن موطن آخر. اقتلع الحطابون كل غابة أشجار متاحة تقريبا. كل ربيع يحول الصرف القادم من طرق قطع الأشجار النهر إلى لون الشوكولاتة البني، فيما انجرفت تربة الغابات القديمة إلى نهر ميزوري. في كوخه، انحنى فوق الطاولة، جلس إلى جوار كتبها، أخذ قلم رصاص، وكتب لها رسالة.
بعد أسبوع شقت شاحنة البريد الفيدرالي الطريق إلى كوخه. كان جوابها داخل المظروف، على ورق مزخرف. بدت الكتابة متعجلة إنما متقنة. قالت إنها ستكون في شيكاغو بعد غد. وإن تذكرة طيران مرفقة بالخطاب. تمنت ألا يتردد في الحضور. وشكرته على رسالته.
بعد الشراب دعا رئيس الجامعة ضيوفه إلى غرفة الاستقبال. كانت شموع مضاءة موزعة حول الغرفة: على حواف النوافذ، وحاجز الدرج، ورف المدفأة، ورفوف الكتب. أُزيح البار ووُضعت ثلاثة صناديق مكانه على السجادة. حفنة من الثلج الذي كان قد سقط على أغطية الصناديق -إبان حفظها بالخارج- كانت تذوب، تسربت القطرات إلى السجادة، فخلفت بقعا داكنة. وُضعت الوسائد على الأرضية من حول الصناديق. استند الصياد إلى المدخل وراقب الضيوف وهم يتحركون بتوجس نحو الغرفة، بعضهم يمسك بفناجين القهوة، آخرون يتجرعون الجين أو الفودكا في كؤوس عميقة. أخيرا استقر الجميع على الأرضية مشكلين دائرة.
دخلت زوجة الصياد آنئذ، أنيقة في بذلتها السمراء. جثت وأشارت إلى الرئيس أوبراين ليجلس إلى جوارها. كان وجهه هزيلا وغامضا. مرة أخرى كان للصياد ذات الانطباع بأنه ليس من هذا العالم وإنما من عالم آخر نحيف.
قالت زوجة الصياد:
“أيها الرئيس أوبراين، أعرف أن هذا صعب عليك. بإمكان الموت أن يبدو نهائيا، كمقصلة تهوي على عنق. ولكن طبيعة الموت ليست نهائية على الإطلاق. ليس الموت بهاوية مظلمة سنقفز فيها. أتمنى أن أريك كيف أنه مجرد ضباب، شيء بإمكاننا أن ننظر إليه عن كثب، شيء بإمكاننا أن نعرفه ونواجهه دون أن نخافه بالضرورة. إننا نتضاءل إثر كل حياة تنتزع من حيواتنا المشتركة. ولكن حتى في الموت لدينا الكثير لنحتفي به. إنه ليس سوى انتقالة، تماما كالكثير من الانتقالات الأخرى”.
دخلت الدائرة وكشفت أغطية الصناديق. لم يتمكن الصياد من رؤية ما بداخلها من موقعه. كانت يداها ترفرف حول خصرها كجناحي طير. قالت:
“فكر، فكر بعمق في شيء تتمنى تسويته، شيء ما، اختفى الآن، في غياهب الماضي، شيء تتمنى لو استعدته، ربما مع بنتيك، لحظة، إحساس مفقود، أمنية يائسة”.
أغمض الصياد عينيه. كانت زوجته تهمس:
“فكر الآن، في لحظة ما رائعة، في برهات طيبة ومشمسة قضيتها مع زوجتك وبنتيك، جميعكم معا”.
كان صوتها مهدئا. شكلت أضواء الشموع وهجا برتقاليا متجانسا خلف جفنيه. كان يعرف أن يدها تمتد إلى شيء أو شخص ما ممدد داخل الصناديق. في مكان ما بأعماقه شعر بها تتمدد عبر الغرفة.
قالت زوجته مزيدا من الكلام عن كيف أن الجمال والفقد هما في الحقيقة نفس الشيء، وكيف أنهما ينظمان العالم. شعر الصياد بشيء يحدث، دفء غريب، حضور خافت، شيء مبهم وغير مستقر، كريشة تمر على مؤخرة عنقه. امتدت الأيادي من الجانبين نحو يديه. تشابكت الأصابع. تساءل عما إذا كانت تنومه مغناطيسيا، ولكن لا يهم. ليس لديه شيء ليقاومه أو ليستفيق منه. صارت داخله الآن، وصلت وقد شرعت تنقب.
تلاشى صوتها، وأحس بنفسه منجرفا لأعلى كأنه سيرتفع إلى السقف. تدفق الهواء بخفة داخل وخارج رئتيه، سرى الدفء في الأيادي القابضة على يديه. في خياله رأى بحرا ينبثق عن ضفدعة. كانت المياه عريضة ومسطحة وتلتمع كمعدن مصقول. كان بإمكانه أن يشعر بعشب الكثبان على ساقيه، وبالريح الهادرة فوق كتفيه. كان محاطا من جميع الجهات بالنحل الذي يتنقل بين الكثبان. وعلى مبعدة كان طائر من طيور الشواطئ يغطس لالتقاط سرطانات البحر. عرف أن على بعد بضع مئات من الياردات هناك بنتان تشيدان قلاعا من الرمل. إذ كان بإمكانه سماع أغنياتهما الناعمة والعذبة. كانت أمهما برفقتهما، مستلقية تحت شمسية، إحدى ساقيها مثنية، والأخرى ممدودة. كانت تشرب شايا مثلجا، وكان بإمكانه أن يستطعمه في فمه، حلو ومر وبنكهة النعناع. كل خلية في جسده بدا أنها تتنفس. أصبح هو البنتين، الطير الغاطس، النحل الطنان، صار أم الفتاتين وأباهما، أحس بروحه تتدفق خارجا، تذوب، تسبح إلى العالم تماما كالخلية الأولى في طريقها إلى البحر الأزرق العظيم…
عندما فتح عينيه، رأى الستائر الكتانية، ونساء تلبسن العباءات جاثيات على ركبهن. كانت الدموع ظاهرة على وجنات العديد من الناس، أوبراين ورئيس الجامعة وبروس مابلز. كانت رأس زوجته محنية. أفلت الصياد برفق الأيادي التي تقبض على يديه، نهض، وسار خارجا إلى المطبخ، إلى جواره كانت الأحواض المملوءة بالرغوة وأكوام المواعين. ترك نفسه يخرج من باب جانبي ليجد نفسه على المنصة الخشبية الممتدة بطول المنزل، وقد استقر فوقها انشان من الثلوج.
شعر بانجذاب إلى البركة، حمام الطيور، وسياج الشجيرات. سار إلى البركة ووقف عند حافتها. سقط الثلج بتؤدة، فيما توهجت بواطن الغيوم بالأنوار المنعكسة عن المدينة.
لم يمض وقت طويل حتى جاءت زوجته إلى المنصة الخشبية وانضمت إليه. هناك أشياء كان قد جهز ليقولها: شيء عن اعتقاد ما نهائي، التعبير عن الامتنان لمنحه سببا لترك الوادي ولو لليلة واحدة. أراد أن يخبرها بأنه على الرغم من أن الذئاب قد اختفت، وربما اختفت إلى الأبد، فإنها ما تزال تأتي إليه في أحلامه. حيث يكفي أنها تجري هناك، بشراسة ودون قيود. أحس أن بإمكانها أن تفهمه. في الواقع، لقد فهمت هذا قبل أن يفهمه هو بزمن طويل.
ولكنه خشي أن يتكلم. رأى أن مثل هذا الكلام قد يقوض رابطة هشة للغاية ويحولها إلى فتات، كركل زهرة هندباء في طريقها لأن تتحول إلى بذور، حيث ستتبعثر كرتها الهشة والرقيقة مع الريح. لذا عوضا عن ذلك، فقد وقفا معا، تهادت الثلوج من الغيوم لتذوب في الماء، حيث كانت تهتز صورتهما المنعكسة كشخصين محاصرين خلف زجاج يفصلهما عن عالم مواز، وأخيرا، مد يده لتمسك بيدها.
……………..
*أنتوني دور هو قاص وروائي أمريكي، ولد في أوهايو عام 1973، درس التاريخ في جامعة بودوين. صدر له العديد من الروايات والمجموعات القصصية بالإضافة للمقالات والمذكرات. حصلت روايته الثانية “كل الضوء الذي لا يمكننا رؤيته” على جائزة بوليترز عام 2015. كما تم تحويلها إلى مسلسل يحمل نفس الاسم.