زنقة سيدي اليماني

زنقة سيدي اليماني
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ناصر فرغلي

"روحها عملة معدنية سقطت على الأرض ولا تكف عن الرنين".

(أحمد يماني: منتصف الحجرات)

لا يكف عن الرنين أيضا كتاب يماني الجديد الجميل، ولا تكف أسئلته عن مشاكسة الوعي والذائقة.

كيف يمكن أن تكتب عن كتابة يماني إذن؟ كان هذا السؤال ساكنا في ركن خلفي ما من الوعي منذ أن قرأت ديوانه الجديد (منتصف الحجرات) قبل نحو ثلاثة أشهر. كيف يمكن أن تقول رأيك الذي يعبر عن إعجاب وتقدير لمنجز حقيقي، في الوقت نفسه الذي يكرس فيه الوسط الأدبي هذا المنجز ضمن ماكينة إنتاج ضخمة تتناقض أغلب نتاجاتها مع قناعات لديك مختبرة بدورها ومجرَّبة، تتعلق بالشعر والشعرية. وبينما كنت أسير الهوينا في مدينة عربية قصوى وجدت يافطة الشارع تقول: (زنقة سيدي اليماني). تلقفت الإشارة مبتسما، وجلست على أقرب كرسي لأكتب ما يلي.

إننا نجد في (منتصف الحجرات) ما يردنا مباشرة إلى ما قد لا ننتبه إليه في وعد الغلاف الجميل: لا نعدم من ‘زهرة الشعر’ ما تعد به تفصيلة جوجان. ثم إننا نتجشم المركب الصعب في البحث عن الهيكل الباقي للقصيدة بعد أن يمارس يماني والطبيعة كل محوٍ ممكن، تماما كما فعلت منحوتة الهيكل الضخمة على الغلاف (هل هي لداميان هيرست؟). بعدها، تساءل كما شئت: هل عوضتك الحفرية الثمينة عن جماليات الجسد المكتمل لحمارٍ وحشي أو لغزال برٍّ ما؟ أنت حر.

“ظننت في لحظة عماء مطلقة أن أمرا جللا يقبع في علبة هدايا

مغلقة، أدور حول العلبة وبكل شغف أتحسس ورقها اللامع

وشريطها الزاهي أتركه هناك لحين بينما تصطك ساقي شوقا

وحين أبدأ أخيرا في فك الشريط ونزع الورقة اللامعة يكون

قد مر وقت كاف حيث لم أعد أنتظر شيئا من العلبة، أفك

الشريط وأنزع الورقة لأجد علبة أصغر بالشكل نفسه، أفكها

محموما لأجد علبة أصغر وأصغر، في مزحة سخيفة لا تكف

عن التكرار”.

في (منتصف الحجرات) محاولة جسورة للغاية لاصطياد (شعر صافٍ)، إذا كان هذا الشيء موجودا! تتقشف قصيدة يماني إلى حد أبعد من حدوده السابقة، وتتخلص بوعي منهِك لا من كل جمال تشوبه شبهة جاهزية فحسب، بل من كل طريق إلى هذا الجمال. جرأة يماني هنا تطال حتى التصوير نفسه، المجاز الشعري، لصالح نموذج سردي يستعيض عن الصورة الشعرية بما يشبه الصورة السينمائية:

عالق في خشب السرير، اليد اليسرى تتوسد الرأس. حركة

لطيفة ولا شك تجعل من وضع المتمدد بتخبطاته جسدا لا يلحظ،

يلحظ فقط عند سقوطه على الأرضية، فيبدأ في وضع

القدم اليسرى فوق اليمنى ثم اليمنى فوق اليسرى، يخفض

الاثنتين إلى مستوى الفراش، فمنقلبا على الجانب الأيسر

و ضجرا على الأيمن.

 

لا يقدم الاقتباس السابق، من وجهة نظري، أي شحنة جمالية تَجِبُ على كل ما يوصف بالشعر. ولكن ‘الشعر’ عقدة يتخلص منها نص أحمد يماني، أو على الأقل لم يعد يعبأ بها. في هذا السعي الجسور الصوفي الزاهد، قد يصل التسامي إلى اللاشيء أو حدوده، كما رأينا آنفا، لكنه في أحيان أخرى يصل إلى النواة التي لا يمكن اختزالها. اللاشيء هو ضريبة الصيد في أرض مجهولة، أما المعاينة النادرة للجوهر فهي جائزة الصياد المستحقة.

“قلت لك مرة إن أمي ستموت

بينما أنا بعيد عنها وبعيد عنك،

ستضع الملابس والمفارش والأغطية في الغسالة

ستكنس البيت ودرجات السلم

ستمسح أتربة الشرفة

ستغسل الأكواب والأواني

ستطلب حقنة لتنظيف الأمعاء

ونعناعاً وحمّاماً ساخنا

ستجلس على حافة السرير

وتقول امنعوا عني الهواء لثلاث دقائق

ستبتسم لصورتي

وتقول لنذهب الآن”.

 

كمتورط في الإبداع والتلقي يرى الفروق بين قصيدة النثر والشعر الحر، وكلاهما خارج دائرة الوزن، ألمح اتساع مساحة قصيدة النثر (الحقيقية) PROSE POEM ، في عالم يماني، على حساب قصيدة الشعر الحر، الـ FREE VERSE، بانتماء الأولى – في ملتي واعتقادي – إلى عالم النثر، والثانية إلى عالم الشعر، دون حاجة إلى حكم قيمة وتفضيل رغم انحياز ‘ذائقتي’ الخاصة إلى القصيدة الثانية أي الشعر الحر. النموذجان حاضران في كتاب’يماني، وإن بتفاوت نسبي. وقد تصدق هذه المقولة بمقارنة (منتصف الحجرات) بالكتاب السابق مباشرة ليماني (أماكن خاطئة). وقد يكون أحمد يماني، مثل قلة من الشعراء المعاصرين، يراوح بين الشكلين ولكن عن وعي بهذه المراوحة واستمتاع بها، كنتيجة مباشرة لمحايثة الوضع الشعري العالمي في نموذجه اللاتيني خصوصا عن طريق احتكاكه المباشر به معايشة في مدريد أو ترجمة من الإسبانية إلى العربية. قصيدة النثر لدى يماني تتجمل بنثريتها، تتخلص بدءا من تمويه ذاتها وتعف، حين تريد، عن المتداول من تقطيع للأسطر وتوزيعها عشوائيا فيما يشبه المكياج الشعري المكشوف. تستحق ‘قصيدة’ يماني التحية ابتداءً لكونها ‘قصيدة’ لا تتشبث بـ “الشعر”.

 

“يمنح العاشق نفسه طويلا، في معظم الأحيان لا ينتظر شيئا في

المقابل. لكن ما أن يأكل الخوف روحه حتى يتوقف للحظة

في انتظار مردود عمله. هنا تسقط الطَّوَّالَة الخشبية التي ترفعه

عشرات السنتيمترات عن الأرض، هنا يعود صغيرا ويرى نفسه

في المرآة ولا يفرح.

تمنح العاشقة نفسها طويلا وغالبا دون انتظار شيء في المقابل.

في لحظة يتسلط الشك على روحها، تقول إن عطاء أكثر

سيجعل مني صندوق قمامة لن يحفل به كثيرا. هنا تضع هي

الطَّوَّالَة الخشبية وتعلو عشرات السنتيمترات عن الأرض، ترى

نفسها في المرآة أكبر مما كانت عليه ولا تفرح”.

 

رغم التقشف الشكلي الجراحي هنا، فإن تعدد الأنساق الشعرية يوازن التقشف هذا بغنىً من نوع آخر. تسعى قصيدة يماني، النثرية والحرة سواء، إلى النفاذ إلى عظْم التجربة (تذكّر مجددا الهيكل العظمي على الغلاف) مقدما حالات خاصة من مسافات توترات نفسية كبديل عن التوترات الللغوية. لعل يماني كان يكتب وفي ذهنه مقولة التوحيدي الرائعة في مقابساته: (.. ومع هذا، ففي النثر ظِل من النظم، ولولا ذلك ما خف ولا حلا، ولا طاب ولا تحلّى. وفي النظم ظِل من النثر، ولولا ذلك ما تميزت أشكاله ولا عذبت موارده ومصادره، ولا اختلفت بحوره وطرائقه، ولا ائتلفت وصائله وعلائقه).

 

“كنا نفكر أحيانا أن جملة مقتطعة من كتاب

ستعيد التوازن لكل حياتنا،

نستعيدها لمرات حتى نطمئن على عملها

ثم نجهد باحثين عن أخرى.

الجمل تئز في رؤوسنا،

ترطبها وتجعل من صباح اليوم التالي ملعقة من العسل

نتقاسمها بارتياح على عشب الحديقة العامة

ثم ما تلبث جملة جديدة صنعناها سويا أن تحل محل الجميع

جملة صغيرة تزودنا بليلة أخرى

كأن أقول : ولِمَ لا؟

أو أن تقولي: ليكن ما يكون!”

 

النفْس في كتاب يماني هي العالم في غياب العالم أو اختصاره في مجرد حجرات قد يصدف مرات أن يجرح انغلاقَها بابٌ أو نافذة تسمح بنظرة لا تطال سوى شجرة أو تلالا غائمة في أفق غير محدد الهوية. تجربة (الحجرات) هي الذات أولا، والذات في علاقتها بالآخر ثانيا، ولكن دون وسيط هو العالم، وكأن يماني يستعيد عمل ديكارت في العودة إلى حد أدنى كنقطة يبتدئ منها الكلام، صغير ولكنه حقيقي، ضيق ضِيقَ الحجرات ولكن النص يتسع به إلى مساحات من القول شاسعة للدرجة التي تسمح بأن يكون لها منتصف.

عمل لا يفوق جمالَه سوى جسارته وأهمية أسئلته.

ــــــــــــــــــــــــــ

جريدة القدس العربي

February 12, 2014

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم