لونه أزرق بطريقة محزنة: من مفارقات السرد إلي اكتناه الوجود!

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

يسري عبدالله  *

(ليست مهمة الأدب إثارة الغبار، بل مهمته إطلاق الوعي)، لم تكن مقولة (سونيكا) تلك مقولة مجانية بل طرحت فكرة تحرير الوعي الإنساني، هذا الأمر الذي يحدث عبر (فعل الكتابة)، ذلك الفعل الذي يتجاوز صخب الكلمات إلي عمق الدلالات، وهو الأمر الذي لايعني إقامة أية رؤية حدية للعالم، بل يعني التأكيد علي ثمة رؤية منفتحة للعالم، ذلك العالم الذي يبدأ اكتشافة باستكشاف (الذات) نفسها، ومابين جدلية العلاقة بين الذات والعالم يشق الأدب طريقه الوعر.. من الغنج الطفولي إلي حالات العجز والتشيؤ التي تصيب (الإنسان/الفرد) يصور لنا (محمد صلاح العزب)

حالات إنسانية بالغة الرهافة في مجموعته القصصية (لونه أزرق بطريقة محزنة)، وبدءا من العنوان ­ أهم عتبات النص كما يشير جيرارجنيت ­ نري (محمد صلاح العزب) يلجأ إلي تغييب مايسمي (بمرجع الضمير)، حيث يعود الضمير الغائب هنا علي (البنطلون الجينز)

الذي يحلم (السارد/ البطل) بامتلاكه، وتغييب (مرجع الضمير) في العنوان هو ­ في رأيي ­ دفع أولي للقاريء لمزيد من إعمال الذهن، ومحاولة استكشاف مكنونات النص القصصي الذي يطرحه الكاتب، وهو الأمر الذي يتسق ­ في ظني ­ مع نزوع قصص المجموعة إلي منهج الاستبطان الذاتي الذي يصنعه (السارد/ البطل) في قصص المجموعة المختلفة،. حيث نلمح محاولة تحسس الأشياء واكتشاف عوالمها، بدءا من ذلك الغنج الطفولي في (سراويل قصيرة)، مرورا ببدايات النضج في (شارب أصفر خفيف)، وصولا لحالة العجزوالتشيوء التي تصيب الإنسان في (الخروج مع القافلة)

أن هذا التواشج بين التراتبية الهرمية لمراحل تطورية من عمر (الإنسان/ الفرد) وبين تقسيمات النص ذاته (إذ ينقسم النص إلي ثلاثة أقسام تحمل العناوين الثلاثة المشار إليها)، إن هذا التواشج يجعلني أزعم أن (معمارا قصصيا) ينتظم اللوحات الإبداعية التي يقدمها (العزب) في مجموعته، وكأننا بإزاء (متتالية قصصية) تتجذر هنا عبر ذلك (الاتصال) بين قصص المجموعة المختلفة في طرحها لعوالم إنسانية ذاتية، و (انفصالها) كذلك في تمايز هذه العوالم بتمايز تحولات (البطل/ الفرد)، وما بين (الانفصال) و(الأتصال) تتوثق عري (المجموعة/ المتتالية) لتشكل عوالم النص القصصي بتنوعاته المتباينة لدي (محمد صلاح العزب)، حيث تنبيء

(المجموعة/ المتتالية) بشكل أو بآخر ­ عن تنوعات متعددة داخل (النص/ الأم) الذي يشكله هنا جماع تلك النصوص القصصية المختلفة، وهو الأمر الذي يتواشج معه تلك التنوعات التي يقيمها (العزب) بين السرد بضمير الغائب حينا والسرد وبضمير المتكلم في غالب الأحيان، وهو الأمر الذي يعود في رأيي ­ إلي تلك النزعة الذاتية التي تغلف قصص هذه المجموعة، والتي منحتها سوقا إنسانيا بارعا.

وتتشكل بني (المجموعة/ المتتالية) عند الكاتب مرتكزة علي عدد من التقنيات لعل من أهمها (المفارقات السردية)، والتي تبرز في أكثر من قصة داخل المجموعة، فنراها في (الأستاذ عبد الرازق يعمل مفتشا)، ثم تزداد نغمة (المفارقة) وضوحا في قصة (مفتاح واحد فقط)، إذ تمثل المفارقة (IRony) هنا محور النص الرئيس، حيث يعتقد الكل بأن الجد يحكم إغلاق القفل كل ليلة، وسط حالة الهلع التي تنتاب شخوص القصة من إزعاج ومطالبته بالمفتاح الوحيد حتي يتم علاج الابن المريض، وسط ذلك كله نكتشف أن القفل مفتوح، وربما لم يكن مغلقا من قبل!!

وآستخدام المفارقات السردية في مجموعة (لونه أزرق بطريقة محزنة) لا يسهم في إرباك العملية القرائية للمتلقي فحسب، ولكنه يمنح النص القدرة علي تخليق دلالات أكثر انفتاحا، ويأتي استخدام الكاتب لهذه التقنية (المفارقات السردية) موزعا بين كونها واحدة من تقنيات النص كما في ( الجانب الآخر من المصباح) أو (في الظروف العادية لاتتسع الملابس) مثلا، أواتخاذها صيغة إبداعية ينبني النص عليها ويتمحور حولها كما حدث في (مفتاح واحد فقط) مثلا.

وتأتي آلية السرد القصصي في (المجموعة. المتتالية) معبرة عن تناغمات متعددة تصنعها لغة الحكي المائزة، والتي تمتح من منحي كلاسي فصيح، لم يكن مبتعدا عن واقع الحياة اليومية بديالوجاته العامية، في ذات الوقت الذي تحمل فيه لغة الحكي قدرا من التكثيف والاختزال اللغوي الذي ينبيء من قاص واعد امتلك القدرة علي التواصل مع التراث القصصي الكلاسي السابق، في نفس الآن الذي معي فيه لامتلاك آلية مجاوزته، ولعل التمازجات العديدة بين سرود متعددة داخل هذه (المجموعة المتتالية) ينبيء عن ذلك الأمر، وهوماحدابي إلي اعتبار مجموعة ( لونه أزرق بطريقة محزنة) كتابة إبداعية ذات صبغة إنسانية تتجاور فيها مناح مختلفة، تكتسب جميعها سمة (التمايز) و(المغايرة) ، والسبب في ذلك يعود ­ في ظني ­ إلي قدرة القاص علي استيعاب جل خلقته الكتابات السابقة مع سعي دءوب للوصول إلي كتابة (مفارقة)، وهو ماصنعه الكاتب بحس قصصي بالغ الإحكام.

ولعل انفتاح (المجموعة/المتتالية) علي رصد حالات إنسانية بالغة الرهافة

تتوزع مابين منحنيات عمرية مختلفة (سراويل قصيرة ­ شارب أصفر خفيف ­ الخروج مع القافلة) هو الذي منح النص ­ في ظني ­ انفتاحا علي التساؤل السرمدي الذي سيظل الأدب يطرحه حسبما يري (جورج لو كاتش)، وأعني به: البحث عما هو الأنسان؟

ولم يسع الكاتب هنا لتخليق إجابات جاهزة مفعمة بالأمل طارحة مايمكن تسميته بالنهايات الساذجة ­ بتعبير لوكاتش، بل ترك لكل قصة داخل المجموعة أن تتحرك حسب منطقها الخاص، فأضحي بذلك لكل قصة فضاءها الخاص، والسابح في نفس الآن مع الفضاء العام للنص المعني باستكناه حالات شديدة الخصوصية (للإنسان/ الفرد).

ورغم المخاتلة اللفظية التي يصنعها الكاتب في عناوينه الكبري الثلاثة

(سراويل قصيرة ­ شارب أصفر خفيف ­ الخروج مع القافلة) والتي تشي بثمة رصد تقريري لحالات إنسانية، بيد أننا في واقع الأمر بإزاء عناوين تشي بتحولات دالة لدي (السارد/ البطل)، لتصير هذه

(العناوين/ التحولات) كاشفة عن بنيات النص، إذ تصبح مخبرة عن الماضي، كاشفة عن المستقبل الذي لم يكن واعدا، إذ يحوي ( خروجا مع القافلة) لا (منها)، لتصبح دلالة المصاحبة التي تشير إليها (مع) شاهدا علي انكسار إنساني يتم عبره قمع كل حالات التمرد السابقة والتي أشار إليها القاص في (سراويل قصيرة، شارب أصفر خفيف)

وبعد.. إننا بإزاء (متتالية قصصية) تتوسل بسرود متباينة، وتعتمد للحكي لغة مائزة ، تطرح صيغة إبداعية ذات منحي إنساني نصل فيه إلي (الكلي) بالانغماس في جزئياته، التي بدت ­ وبشكل بارز ­ طارحة للجوهري لدي (السارد/ البطل) ومابين الوصول إلي (الكلي) بالانغماس في جزئياته، وطرح الجوهري، يظل هاجس الأدب وتساؤله السرمدي عن: ماهو الإنسان؟! وهو التساؤل الذي تطرحه (المجموعة/ المتتالية) بشكل بدت فيه مكتنزة لطروح متعددة.

 

الكتاب: لونه أزرق بطريقة محزنة

المؤلف: محمد صلاح العزب

الناشر: المجلس الأعلي للثقافة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ناقد وأكاديمي مصري

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم