شوقى عبد الحميد يحيى
خُلق الإنسان فردا، ويموت فردا، وفى حياته، يعيش فردا، حتى لو كان يعيش فى جماعة، ومجتمع وعالم ضاج بالبشر. حيث تظل بأعماقه كل التجارب التى مر بها أو مرت به، فضلا عما ورثه، قهرا، دون أن تكون به مقدرة على قبولها أو منعها. لذا فقد عبر “مجدى نصار” فى روايته “روح الله الفضل حبش”[1] عن الإنسان فى كل مكان، وتحت أى ظرف، حيث اقتحم عوالمه الداخلية، وبحث عن تلك المرآة التى تعكس الأشياء الخارجية، بما يتواءم مع الطبيعة الداخلية لذلك الإنسان بالتحديد. فيتولد ما يمكن أن نقول عنه الرؤية الذاتية للأشياء الخارجية.
وقد استحضر الكاتب القمر والشمس، كموجودات أزلية، فلا يعلم أحد متى كانتا، أو متى تختفيا. وكأنهما ملازمان لوجود الإنسان من قبل أن يوجد الإنسان، لذا فشهادتهما هى شهادة ذات قيمة. غير أن الكاتب أنسنهما، فجعلهما صديقين للإنسان، خاصة المقهور، أو الحالم.
وقد اقتحم الكاتب أعماق النفس البشرية، وليس أقدر من الإنسان ذاته، في التعبير عما بداخله، فترى أن الساردة تتحدث بضمير المتكلم (أنا/ نحن). وهذه الصيغة تتناسب تماما مع المحاولات الأولى للكاتب/ة، حيث يحاول أن يثبت وجوده وسط من سبقوه، أو أن يقول هذا أنا.. إلى جانب أنه يمثل عملية الاستبطان (المنولوج الداخلى) التى تُخرج المشاعر والأحاسيس، خاصة تلك التى لا يستطيع الكاتب (أو الانسان) أن يبوح بها مباشرة، والساردة هنا تعانى من ضغط العيب الخلقى، والذى لا يد لها فيه، وتأثير ذلك على الغير، خاصة فى مجتمعاتنا محدودة الوعى، والثقافة، والذى يمثل طعنا فى ذاتها الإنثوية. وكل هذا كان مساعدا، بل وموفقا من الكاتب استخدام تيار الوعى، الذى يتيح للساردة، أن تتجول فى عديد الاتجاهات، ليزيد ذلك من الضغط النفسى، الناتج عن التشتت، الذى تعيشه الساردة، بين الواقع (المُر) والأمل، أو الأمانى بالحياة الزوجية السعيدة. فساهم ذلك فى خلق شخصة نابعة من طين الأرض وساعية لأن تكون عضوا فاعلا(وفق تصورها) فى هذا المجتمع، الذى تنتشر فيه السوءات، فسعى الكاتب لمواجهتها، ليكون هو أيضا فاعلا فى هذا المجتمع. فتبدأ الرواية بالعرض العام، وتنسحب منه لنجد أنفسنا أمام العرض الخاص. ويتمثل العرض العام فى القمر والشمس، الذين يفرشان ضوهما على الكون كله، ونلحظ أن كلاهما مصدر للضوء، أى لتبيان الحقيقة المخفية، وكانه لم يعد وسيلة للتخفى، فتبدأ الرواية هكذا:
{يقول القمر: كانت تنتظر هذا اليوم؛ قدَرٌ لا مفرَّ منه. اليوم..ستجلس في كرسي الاعتراف، لتبوح لرجلٍ بالسِّر الذي تخجل حين تُفشيه للنساء.
تقول الشمس: أسرارها تخرج عن سلطتها؛ إفشاؤها صعب، كتمانها أصعب. جراحُها ظاهرة، مُخجِلة؛ تجعلها تنزوي وتموت في اليوم ألف مرة.
تقول روح: نمتُ على قلق، صحوتُ على قلق أكبر}.
فالقمر رَأَىَ.. وقال، والشمس {عَلِمَت).. وقالت، والإنسان شعر وأحس.. بالقلق، دون أن يدرى سره، أو كنهه، لذا فعذاب الإنسان، أقوى وأكثر تعذيبا، وهو ما يستدعى قول الآية 72 من سورة الأحزاب {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا}. والمتأمل لهذه المقتطف من الرواية، سيلحظ أن القمر والشمس تعلم ما ستعانيه، وحالتها، وهى لا تعلم. وكأننا أمام استحداث عتبة جديدة يمكن الوصول إلى لب النص عبرها، متجاوزين تلك العتبات التقليدية من غلاف وعنوان وأقول مختارة، وعناوين فرعية، وإن كنا نستطيع أن نتبين من العنوان الأساسى “روح الله الفضل حبش”، على الرغم مما يحويه من تمويه، وكأن الكاتب يخفى الطرق أمام قارئه، فيحاول البحث، فإننا لم نلبث كثيرا حتى نتبين أنه اسم الساردة أو بطلة العمل، التى اختار لها اسم “روح” ونظرا لأن استخدام هذا الاسم ليس شائعا، فالذهن يذهب مباشرة إلى الرؤية الرمزية، بحيث تصبح تلك الفتاة(الجامعة) للعديد من الصفات الخيرة، شكلا أن موضوعا، فإنها تصبح الرمز الذى يشار به إلى الإنثى فى أى مكان، والتى رغم صفاتها.. لا تخلو من العيوب.
وكذلك العنواوين الفرعية التى يمكن أن تحدد لنا ما سوف يدون الفصل عنه. فعلى سبيل المثال نجد الفصل الأول معنونا ” عالم من عيون”…وفيه سنتعرف على رؤية العالم بعيون المصاب، وتصبح الألوان هنا ذات أهمية –سنعود إليها لاحقا-، فنجد الحديث عن الألوان المختلفة. ويأتى الفصل التالى مباشرة (عيون لا تعرف الألوان) وفيه نتعرف على رؤية الآخرين حيث هم.. مجردة من الرؤية الشخصية. فإذا كنا نعبر عن رؤية الشخص، سنجدها مصبوغة بالألوان المختلفة، أما إذا نظرنا إلى رؤى الأخرين، فسنأخذها مجردة وبعيدة عن الألوان. وهكذا، نجد كل الفصول يحمل (العيون)، وكأن الإنسان هو ما يراه الآخرون، أو أن الإنسان يقرأ ما يدور بأعماق الآخرين مصبوغا بلونه هو، فلون الحالة التى يكون عليها الفرد، تكون رؤيته للغير.
غير أن الشمس والقمر، اللذين جعل الكاتب لهما دورا فى كشف الدواخل، لم يقفا متفرجين وترك الإنسان بفرادته، ولكنهما يوصيان عليه، وكأنهما يخافان عليه { تقول شمس روح إنها تعرف مصير هذا القلق، تنتظر القمر كعادتها لتوصيه بروح، تُغبطه على رحلة حلوة سيقطعها معها. تبتهج الشمس برؤية روح؛ كأنها ابنتها، كأن نسختها المطبوعة على ظهرها ليست مجرد صورة، بل قطعة منها، تحمل روحها ونورها، وَهَجَها وطاقتها. تقول روح للشمس إنها تحبها في السماء وتكرهها على بدنها}ص67. ولنلاحظ أن الشمس لم تقم بالعمل لذاتها، وإنما أوصت القمر، لما يحمله من دلالات إيحائية تتواءم وما تتطلبه “روح”من العطف والحنان والحب.
ولذا، اعتمدت الرواية، وأعطت أهمية كبيرة للألوان، بما لها من تأثير نفسى، يتواءم مع التغيرات النفسية التى تعترى الساردة “روح”، والتى هى مركز الرواية، حيث الأبيض، مرادف القمر، والذى يمثل لاحظات الحب القليلة التى عاشتها، “روح” مع “هانى” أو تخيلت أنها عاشتها معه. والأسود، وهو ما ارتبط فى الذهن الجمعى بالحزن، او الموت، حيث عاشت “روح” هذه الحالة فى أمها وهى صغيرة، وكان مصيرها فى النهاية موت الحبيب “هانى”. فضلا أن الساردة، وقد أحاطتها العيون، فقد حولت هى كل تلك العيون إلى ألوان، وكأنها تحيلها إلى المشاعر والأحاسيس {احتلتني العيون، سيطرت على نظرتي لذاتي وعلاقتي بالناس، منحتُها ألوانًا: سوداء قاسية، بيضاء حانية، رَمَاديَّة تقسو حينًا وتحنو حينًا، وردية إن منحتني حُبًّا، حمراء إن اشتهت مفاتني، زرقاء إن ربطتني بكرامات وهمية، بُنِّيَة أكرهها لأنها تشبه مأساتي. ثم امتدت الألوان لتشمل الناس والمواقف والكلمات والأفعال: امرأة سوداء، لحظة بيضاء، كلمة حمراء، إشارة صفراء}.ص11. الأمر الذى يحيل “روح” إلى كتلة من المشاعر والأحاسيس، وهو ما يتفق مع رؤية شخصية “روح” التى تمثل الحالات المتقلبة التى مرت بها “مصر” حين النظر إليها بإعتبارها معادلا موضوعيا لمصر. غير أن هذا لا يستقيم مع سير الرواية التى أضاعت هذه الرؤية وأبقت “روح” عند حدود الشخصية الإنسانية، خاصة تلك المواقف التى عبر فيها عن الرغبة الأنثوية، الشبقى منها {نقلَتْ سامية المقطع إلى هاتفي، سهرتُ معه، أشاهده بتركيز، أغمضُ عينيّ، أستحضر سمير، أراه مقبلًا في أناقة، يدخل غرفتي، يتأمل وجهي، يمسح خدَّيَّ، يلثم شفتيَّ، يُقبِّل شمس ظهري، يداعب قمر صدري، يُباعد بين ساقيَّ، أداعب شفر النهر،يسيل الماء، يغمر الفراش، أرتاح قليلًا، تعاودني الرغبة، أعيد الكرَّة، سأكررها كثيرًا بعد ذلك، لُيهلكني التعب، أنا سعيدة. أصادف سمير في الدرس، أنزل عن وجهه إلى صدره وقوامه، أناديه ليلًا، أضمُّه، ألتهمه، أتمنَّاه زوجًا، حبيبًا، سماءً تضم قمر رغبتي المتوهج}97. أو المعنوى، حيث تسمو المشاعر، ويطير الإنسان بدون أجنحة {دخل هاني حياتي فتبدَّلت الحياة.. كل رجال العالم في رجلٍ واحد يهاتفنى يوميًّا، يقنعني بالعودة للعمل، يطلب لقائي، أجلس حيرانة، ماذا تريد من بائسة، يا جميل الوجه واللسان؟ ابتسامتُه آسره، تخترق قلبي مثل سهم، أختلسُ النظر في وجهه، بحذر، كَيْلَا أفضح افتتاني به، تتكرر اللقاءات، يسألني عشرات الأسئلة، لا أسأل عن شيءٍ يخصُّه، يتعجب، أرفع كتفي، أودُّ البَوْح؛ عندي مائة سؤال، ألف عبارة، مليون كلمة، أسكت. انهار الجدار لما قال أحبكِ، قلت أحبكَ، منذ زمن، زمني يسبقه، لماذا كتمتِ، لم أرد. يمسك يدي، أمتلئ أمانًا، أقسم: لو للجنَّة يدان، ستكونان أقل حنانًا. يبتسم في وجهي، تضحك الدنيا، تموت الأحزان، يقهقه النهر، يسكر النسيم، ترقص الحياة. يقَبِّلُ جوف يدي، أنبض موسيقا. يبوس خدِّي الأيمن، أحب نفسي،أقبَلها. تمرُّ شفتاه على شفتيَّ، تنتفض أوردتي. يحضنني، تهبط السماء، أمدُّ يدي، أداعب القمر، ألاعب النجمات}ص101. على الرغم من أن الرواية ساقت العديد من الإشارات، التى كان يمكن النظر من خلالها إلى “الرمز، مثل الإشارة إلى النكسة والعبور، وموت عبد الناصر{يحكي أبي عن أمه كثيرًا. يكرر حكاية بعينها ليُضاحك صباح: ذات يوم قالت أمي إنها أصغر من عمتي بكثير، هتفت عمتي: سنتين بس، قالت أمي: جيتي في النكسة.. أنا جيت واحنا بنعدِّي القناة، سخرت صباح من خلط أمي للتواريخ، تدخَّلت جدتي بحكاية تخصها: كانت جنازات تطوف المدن في وداع عبد الناصر، خرجت جدتي مع الصبايا، تركت صباح الرضيعة مع حماتها، عادت متأخرة، قالت لجدي: كنَّا بندفن الريِّس، رفع عصاه: هدفنك وراه يا بنت الكلب!}ص30.
وكذلك حرب العراق {حين لعنت الحروب والجيوش، العراق والكويت، عاد جلال القطيفي في تابوت، منعتها أُمُّها من تشييعه: لا هو خطيبك ولا جوزك، انطفأ وجهها، ترمَّل جمالها، أحجم الخُطَّاب عنها}ص60. أو سب الحكومة، الأمر الذى يستدعى نوعا من الغضب على أفعالها، وهو ما يستحضر الرؤية الرمزية { ممدوح يسبُّ الدين للحكومة، سلوى تشخر لأمها، عادل إمام يهتف في فيلم، محمود عبد العزيز يغني: الكيمي كيمي كو.ضحكتُ، للمرَّة الأولى في يومي، تلاقت عيناي بعين مديحة، ابتسمَتْ لي، أنهيتُ طعامي، دخلتُ الغرفة، عازمةً على إيقاظ هاني بأي طريقة}ص83. فضلا عن تكرار ذكر “جورباتشوف” الذى يستدعى الانهيار الذى أحدثه فيما كان يسمى بالاتحاد السوفيتى، وما يؤل بالضرورة إلى النظر للتشقق الذى يمكن أن يكون حادثا، فى البيئة المحلية، والتى هى مسرج العملية، غير أن كل ذلك لم نجد له أثرا فى سير الرواية، أو مصائر شخوصها، حيث نجد فى النهاية أن المشكلة الأساسية، والتى نجح الكاتب فى اللعب عليها، حيث وزع تبيانها على أكثر من فصل من فصول الرواية، ولكنها فى النهاية، كشفت عن أن والد “هانى” كتب برنامجا فى التليفزيون، لا يرضى المتشددون فى الدين (الإرهابيون) فكان الانتقام من ابنه “هانى” وكان ضياع الحلم “لروح”. وهنا يثور تساؤل عن ذلك العيب الذى خبأته “روح” وأرادت أن تبوح به ل”هانى”، والذى سود حياتها منذ الطفولة، وجعلها محط سخرية العديد من زملائها، وكانت سببا فى عزلتها الفكرية، وهروب الشباب من التقدم لها. فهو العيب، وإن كان سببا فى استبطان الحالة النفسية الداخلية ل”روح”. غير أن تحويلها إلى صاحبة كرامات، وإن رفضت هى ذلك بنفسها، إلا ان ذلك يَعرضُ تفكير الانسان الريفى وكيف يتم تحويل الإنسان العادى إلى شيخ بكرامات، إلا انها لم يكن لها تأثير على الرؤية المجتمعية، اللهم عرض الكثير من حالات النذور، وزيارة أضرحة الأولياء، والكشف عن الكثير من المستور داخل المجتمع الريفى. وعندما تعلم “روح” بوفاة الأمل “هانى” تظل إنسانة، تتلفظ بما يتلفظ به كل مصاب ؛ حين يكون الجرح ساخنا، لتصل حد الخروج عن المألوف {جنيني المرسوم على صدرها، همستُ لها ألا تنهار، لكنها انهارت، ثارْت، سخطتْ: لماذا أنا؟ تخلقني نصف كائن، تمنحني نصف حياة، تقذفني في بحرٍ ظالم، تخطف قشَّة نجاتي، تُغرِقُ أملي الأخير، تُغرِقُني؟ تتلذَّذ بعذابي، تتركهم يقتلونه، يقتلونني، تنتقم مني؟ لماذا؟ ألا تجيب.. مرَّة؟!}ص148.
التقنية الروائية
اعتمدت الرواية على تقطيع الجمل، والزمن،، فجاء السرد متسارعا متقطعا، لا رابط بينه، وكأن الكاتب أراد أن ينقل الإحساس بالتشتت والتوهان {أُمُّه تناديه. يوسف صبيّ، يبني تمثالا من الطين، لامرأةٍ بثديٍ وحيد، يغرس فيه خشبة، يضحك، سامية طفلة، تخرج من البيت بخفَّة، تهزُّ ضفائرها، تقهقه: يا أهبَل. ممدوح فضا أمام بيته، يدخن الجوزة، يهزُّ كتفيه، خلف بوَّابته مُسجِّل، شعبان عبد الرحيم يغني: أنا بَكْرَه إسرائيل. دخلتُ البيت، شقة جدتي مغلقة، صعدتُ شقتنا، شاشة التلفزيون نصفين: ناس يهربون من برج يحترق/ صواريخ تضرب جبالا جدَّتي تصلي بالصالة، أمي بغرفتها، ترتدي روبًا بنفسجيًّا، ترصُّ الملابس في الدولاب، أبي على السرير يخفى وجهه في الجرنال}ص43. فاعتمدت اللغة على تداعى المعانى {في درس الأستاذ سالم، قال ولد: وَحمة، قالت بنت: أُمّها أكلت الشجرة، دخلتُ البيت، أبي يشاهد المباراة، سألته: ممكن نأكل الطين؟ ضمَّني: دي مش طين، دي نعمة. قبَّلني: كمان بوسة، انتفض: جووون.. وِشِّك حلو. الخُفَّاش لونه إيه؟ = ضحكتك عسل، بُنِّي؟ صَحّ؟ = فين صباح؟ أنا جُعْت}ص31.
{الشياطين في عروق مصطفى، الإمام الشاب، يسبِّح، يستجير من الفتنة. يخطئ البقال في الحساب، يجري بائع الطعمية إلى الحمام، يَعضُّ الجزار شفتيه، ينتصب عضو الفكهاني. يترك سلامة الترزي المقص، تبصق زوجته البدينة: نجس. يتهامس زبائن المقهى، ينظرون نحو الفضل، يبتسم كامل صالحة بخبث، يشعر عزيز الدقَّاق بنغزة؛ طلبها للزواج، رفضت: حتة مصوَّراتي! تمر بمصنع الجبنة، تبتسم لجلال القطيفي، يمشيان إلى السوق}ص93. فحينما استخدم كتاب الستينيات هذا الإسلوب، كان للدلالة على التوهان، والتيه الذى عاشه ناس هذه الفترة، فكأن السرد تعبير عن الحالة المجتمعية.
الأمر الذى يعيدنا إلى الستينيات من القرن الماضى، وقد وقع ما سُمي (النكسة)، التى جاءت بعد التسليم الكامل للوعود، ورسم الصورة التى توحى بأن النصر آت لامحالة. فحدثت المفاجأة وتزعزعت النفوس، وتشتت العقول، فلا أحد يعلم الحقيقة وماذا حدث، ولما حدث. فتحول السرد من الخط المستقيم، صعودا أو هبوطا، فتفتت الجملة، وتشظى الزمن، ولجأ الكاتب إل إسلوب تداعى المعانى، كتعبير عن التشتت وعدم التركيز، أو عدم الوضوح. أما وقد اتضحت الأمور، ومر العديد من السنوات، وأصبح اليقين هو السيد، فى كل ما يخص الحياة، سواء بالسلب، ام بالإيجاب. وإذا كان الإبداع عامة –لسعيه نحو المدينة الفاضلة- يقف فى غالبيته على يسار السلطة فيه. أى أن السرد قد ينحو ناحية المباشرة التى استعملها فى العشريات الأخيرة من القرن العشرين، والعشريات الأول من القرن الواحد والعشرين، كنوع من الاعتراض على ما يحدث، أما أن نقرأ رواية نُشرت فى العام الخامس والعشرين من القرن الواحد والعشرين، وأن نجد فيها كل ما كان يستعمله كتاب فترة الستينيات،، فهو ما يدعو للتساؤل، خاصة أن القارئ سيجد الكثير من مناطق السرد يتوه فيها بين الواقع والخيال، أو بين “قمر” أم “شمس” أو “روح” أو “صفية” أو “مديحة”.. إلخ. فيحار القارئ، ولا يشعر من قرأ فترة الستينيات، إلا أن الزمن قد عاد به إلى تلك الفترة.
يلعب العمل الأول، لأى كاتب، دورا كبيرا فى التعريف به، ومجدى نصار، ناقد مشهود له فى الأوساط الأدبية بعمق الرؤية، وتأتى روايته “روح الله الفضل حبش”، عتبة أولى للدخول إلى عالم الرواية، فكان التعامل معه، ليس كما يتم التعامل مع غيره، حيث تنبئ الرواية بأن وراءها، مبدع يعلم سر الإبداع، وروائي يسعى للتجريب، والتفرد، ولديه رؤية يسعى لتوصيلها، قد يصيبه ما يصاب به العمل الأول، غير أنه فى النهاية يملك موهبة الإبداع، ورؤية الرسالة التى يجب أن يحملها أى إبداع للمجتمع الذى استخرج منه ما يستحق التنبيه، ويسعى أن يسير به نحو الدور الحقيقى للإبداع. وهو ما يجعلنا نحتفى به وبروايته، شادين على يديه.. أهلا بك فى عالم الرواية.
……………………………