“أولاد الناس” من الرواية التاريخية إلى الرواية الخنفشارية!

أولاد الناس
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
هدير خالد 
يُحْكَى أنّ رجلًا عُرِفَ بالتعالُم و الاختلاق، فاتفق ستةٌ من أصحابه على فضحه، فاختار كلُّ واحدٍ منهم حرفًا، الخاء النون الشين الفاء الراء، و صنعوا من هذه الأحرف كلمةً.
هي الخنفشار، وعندما أتى سألوه:
-أتعرف الخنفشار؟
قال:
-نعم، هو نبتةٌ صحراوية يتجبَّن بها اللبن، و زاد، فأنشدهم:
لقد عقدتْ محبّتُكم بقلبي … كما عقد الحليبَ الخنفشارُ.
ترددتْ هذه النادرة طيلة قراءتي لرواية “أولاد الناس” لريم بسيوني  وكانت الرواية في نظري مثالًا فاضحًا للخنفشارية المحضة المثيرة للاستفزاز والغضب، وأثارتني البديهيَّات المطلقة التي باتت مِعْولًا للبعض للطعن في أوجه النظر الخارجة عن السياق، على غرار أن “الأدب نسبي”، لأن تلك المُسلَّمات تفترض أن الحديث عن “أدب” أو “عمل أدبي” وأنا هنا لم أرَ أدبًا ولم أستطع حتى أن أقتفيَ بعض الخطوات الخفية التي تقودني إليه، فأيُّ نسبيةٍ تلك التي تتحدثون عنها؟
اختارتْ الكاتبة لنفسها سبيلًا متوعرةً حين وضعت عملًا أدبيًّا مُسْتوحَى من الحقبة المملوكية في مصر، وأفهم جيدًا أن الأعمال الأدبية التاريخية ليست مصادرَ أكاديمية يُفرَض عليها التزام الوصف التاريخي المُسهَب بحذافيره، وباستطاعة الكاتب أن يضيف بعض الرتوش التي لا تقدح في مصداقية العمل كليةً و لكنها تزيح القالب العلمي الصارم جانبًا، و تُخفّف الأجواء قليلًا حتى تجذب القارئ، كل هذا معروف، والمُحزِن أن الكاتبة لم تفعل أيًّا من هذا، قدَّمتْ إلينا عملًا خاويًا، لا يستطيع المرء أن يشعر فيه بتلك الحقبة التاريخية، وكأنّ الأجواء مُفْتَعَلَة، شَتَّان بين المماليك في المصادر التي تحدَّثَتْ عنهم و بين مماليك تلك الرواية!
الرواية مُقَسَّمَة إلى ثلاثة أجزاء، الجزء الأول يتحدث عن مملوك يدعى الأمير محمد، صادف في السوق فتاةً فارعةً دارعةً تهرول تجاهه حتى لا يقبضوا على أخيها و ابن عمها و خطيبها في نفس الوقت ظلمًا و قهرًا، فيُسْحَر بجمال تلك الفتاة الشجاعة، ويقرر أن ثمن حرية هذين الشابين أن يتزوجها عَنْوَةً، فتُغْصَب عليه و بعد أشهر قليلة، تقع في غرامه، وتراه أعظم رجلٍ في الوجود، و لا أفهم كيف، ما هذا التحول الصارخ في الشخصية؟ ما هذه المبالغة التي جعلت العمل أشبه برواية رخيصة من روايات جرجي زيدان عن التاريخ الإسلامي؟ كُنّا نعيب عليه اهتمامه بالقَصَص الرومانسي المبالغ في تفاصيله في ثنايا تاريخنا العربي و الإسلامي، شاعرين أن اللغة الركيكة و هشاشة القصة صالحان فقط لجمهور المراهقين الغر الساذج، و ليس مادة روائية تصلح للقراءة الواعية، إذن الأمر هنا أضخم بكثير من رواية رديئة لكاتبة، بل هو انعكاس لنموذجها المعرفي بأكمله، إذا كانت هذه رؤيتها للكتابة التاريخية، فليس من المُسْتَهْجن أن نُطالع عملًا فقاعيًّا، ينسج أوهاقًا حالمة في حقبة دموية سياسية، لا قِبَل لها بهذه المثالية الجوفاء.
الحكاية الثانية تسرد علينا قصة قاضي قوص الذي طَلَّق امرأةً عن زوجها لأنها لم تعد تحبه ولا تقبل منه البناء بها، و تغوي القاضي حتى يقرر الوقوع في غرامهاو الزواج منها، بالطبع الكاتبة استشعرتْ نوعًا من الخواء الحَدَثِيّ في غمار ذلك الاندفاع الشعوري، فمَلَأَتْ تلك الفراغات بأحداث سياسية جانبية، عن المماليك و بعض الصراعات مع السلاطين، في قالب ورديّ، حتى تملّكني الغضب إزاء هذه اللغة التافهة و الأسلوب المُفْتَعَل لسرد تلك الصراعات المصيرية في التاريخ المصري، ولم أطق إكمال الحكاية الثالثة، لأن الرواية في نظري لا علاقة لها بالفن الروائي ولا الكتابة بشكل عام، فالأسلوب مُهترَئ، والشخصيات مُفكَّكة، لا بناء يجمع الحكاية، ولا خيط يعين القارئ لفهم خطوط الحكايات.
ثم استوقفني الطابع العام للرواية، فمن الواضح أن اللغة الروحانية والتراكيب الصوفية هي الصيحة الرائجة الآن لضمان نجاح أي عمل، فقط لملء الفراغ أيضًا، بعضُ المعاني الواسعة المائعة غير الواضحة فاضتْ بها الرواية، بات مُضْحِكًا أن تملأَ أي فقرة بسفساف من أسماء الأجناس مثل: (العشق، الفناء، الإبداع، الروح، الوصول، الشغف…) أهي معادلة؟ رواية كبيرة الحجم، شخصيات كثيرة غير مُحكَمَة، لغة ركيكة، أحداث تاريخية شهيرة اُخْتُلِف حولها، بعض التلميحات الصوفية، قصص رومانسية مثالية على شاكلة المسلسلات التركية، و إيحاء للقارئ أنه يغوض في باطن التاريخ…أن تكتب عملًا روائيًّا برعاية “حريم السلطان”، علاقات غرامية ساذجة، و شخصيات تتحدث بكلمات صوفية مُبْهمة.
لم أفهم سر اختيار الكاتبة لهذه التجربة العاطفية في الحكاية الأولى، أو فلنَقُلْ إن الكاتبة قد صنعت نموذجًا نسائيًّا شاذًّا عن التوقعات لشخصية مثل شخصية زينب، القارئة المُتعلِّمة و ليست كأترابها من الفتيات في ذلك العصر، فبعد أن قهرها ذلك الأمير المملوكي وقضى بالحبس والتعذيب على أخيها وابن عمها، حبيب عمرها ومن كانت تتهيأ لعقد قرانه عليها بعد حوالي أسبوع، ترفضه في بادئ الأمر، فتنقلب الآية، وتقع في غرامه بكل ولهٍ و كأنه أعدل الرجال و أشجعهم، و اختارتْ الكاتبة أن يكون سر هذا الحب المُفاجِئ هو مشاعر زينب الجنسية تجاهه، هذا ليس حبًّا، بل هي عقدة التعلق بالخاطف أو السجَّان، عقدة ستوكهولم الشهيرة، و لكن الكاتب للأسف شوَّهت تلك المشاعر النبيلة وعاطفة الحب المجردة، وجعلتْ زينب امرأةً خانعة مازوخية، تتقبل قهر زوجها لأنها لا تستطيع أن تنام بعيدًا عن أحضانه، الأزمة ليست في طرح نموذج سلبي من الشخصيات، ولكن في تزيين هذا التصرف و هذا النمط من التفكير، الذي يعكس منظومة الزواج رأسًا على عقب، ويجعل المدخل إلى قلب المرأة و استمالتها لبناء أسرة سوية، هو العلاقة الجسدية، كان هذا بالنسبة لي خطابًا مرفوضًا ولا أتقبل هذه الشاعرية في وصفه.
حين كنتُ أتصفح بقية الحوارات بشكل عام، استوقفني أن الكاتبة لا تعترف بكونها كاتبة، بل تحشر صوتها بين شخوص الرواية، وتُصِرّ على لفت نظر القارئ إليها، ألم تسمعْ عن موت المؤلف؟ ألم تنتبه أن هذه الآلية تنفي التماهي المطلوب بين الراوي والمؤلف؟ أزعجني للغاية كل حوار كنت أشعر فيه أنها تحدد لكل شخصية ما ستقوله، يعني في حوار بين القاضي وضيفة في الحكاية الثانية، كانت ضيفة صامتة، والقاضي يسألها لِم لا تجيبه، فأوضحت الكاتبة أن ضيفة صامتةٌ خوفًا أن يضربها، وفجأةً في الحوار نجد القاضي يسألها: أأنتِ خائفة أن أضربك؟
ما هذا؟ كيف له أن يستكنه أفكارها؟ من المفترض أن الكاتب يخلق الخطوط العريضة للشخصية ولا يصفها حتى وصفًا ظاهريًّا، ثم يدع الأحداث و المجريات التي تعترض سبل الشخصية تطلق العنان، لأن الرواية حكاية وليست كتاب تاريخي، فمن باب أَوْلى أن يعزل الكاتب صوت نفسه، و يدع الفرصة للقارئ للغوص داخل كل شخصية، و هذه نقطة بالغة الأهمية، غيابها زاد من إضعاف بنية الرواية الأساسية.
كما أن الخيط الذي يربط الأحداث، غير مُحدد، و شخصيات كثيرة حيوية لا نفهم هذا الاجتثاث في مصيرها، كالسلطان حسن!
بعض الروايات قد توصف بالعسر لغموض الآلية الذي اعتمده الكاتب في عرض فكرته، و لكن في حالة روايتنا، فإن الكاتبة لم تعتمد أسلوبًا، بل تركت الأمر على غاربه، و أطاحت بنقاط حيوية كالحبكة، فمن المفترض أن نصل إلى نقطة العقدة، ثم بعدها يظهر الحل، هكذا تسير الرواية، خصوصًا أنها رواية واقعية، ليست رواية تيار وعي أو تعبيرية، رواية واقعية تعتمد على التشويق، لا، بل نطالع ضخامةً و طولًا في الأحداث، يجعلنا نتساءل، هل الرواية تستحق سبعمائة صفحة و أكثر لأحداث كتلك؟ هل استطعنا أن نلمح عنصر التشويق و التطور في الشخصيات كي نتحمل هذا العدد من الصفحات؟ على العموم، تعلمت من تجربتي تلك و ما سبقها أن الجماهيرية لم و لن تكون معيارًا لجودة العمل، و أن العمل الجيد يفرض نفسه من أول صفحة.
ثم ما معنى تلك العبارة ” في الإبداع فناء” ؟ و لماذا كررتها الكاتبة ألف مرة في الرواية؟ و لا أفهم صراحةً سر ولعها بالتدخل في الشخصيات، و كأنها ترفض بناء الشخصية و تركها لتتحدث عن نفسها، أبجديات الرواية التي لا نقاش حولها أن الكاتب لا يحق له التدخل ليُملي على الشخصية كيف تفكر و ماذا تفعل، لا تترك فرصة للشخصية، حتى تشعر أن الشخصيات جميعًا تفكر بعقل واحد و تتحدث بلغة واحدة و تشعر بنفس المشاعر في نفس الوقت، فلا طابع يميز كل شخصية ولا يمكنك أن تشعر بالفرادة، و لا أنفي هنا الاختلاف العام أو الظاهر الذي تفرضه طبيعة الحكاية على بناء الشخصية، الأزمة تقبع في قَوْلَبة العمل ككلّ، و كأنه رَوْسمٌ لم يُكْتَب لغرض سوى التسلية الفارغة التي لا تشبع جوع النفس للأدب و متعة الحكاية، و تأمل الشخصيات على حدة، و كأنك عند كل شخصية تسأل نفسك، تُرى فيمَ تفكر الآن؟ و ما رد فعلها؟ و ما شعورها؟ كل هذا لا نجده هنا، بل نجد شخصية واحدة، أرادتها الكاتبة للعمل، فقسّمتْها، و بات كل إرْبٍ يخدم تلك الشخصية العليا، التي تهيم في كل شيء عشقًا.
الكثير من الكتب العربية قد كُتِب بغرض التفكُّه، أو التزَلَّف إلى العامة وقصد الشهرة، و هذا تطلب نوعًا من الموضوعات الطريفة التي تلفت النظر، كقصص العشاق و الشعراء و طرائف الأغبياء و الأسفار، و إلى يومنا هذا نطالع تلك الكتب في إكبار و تعظيم لا مراء فيهما، ولكن ما سر خلود تلك الأعمال رغم عدم تناولها لموضوعات جدية أو علمية؟ هناك عوامل كثيرة، و لكن الأهم – في رأيي- اللغة و الأسلوب، فأنت تستشعر أن مقام الموقف قد دعَّمتْه لغة مكينة، و ناسبت السياق في سلاسة، و أسلوب بلاغي جعل قراءة تلك الأعمال أشبه برحلة في الزمن الغابر، لذلك فقد نفرْتُ من هشاشة اللغة في الرواية، و لم أفهم ما العلاقة بين هذه اللغة التي لا يمكن وصفها بالفصحى ولا بالعامية وبين أحداث الرواية، كيف لكاتبة أن تكتب على لسان شخصية في رواية تاريخية فصحى: ” خلي بالك من نفسك؟ ” و هذه الحوارات غير المنطقية على ألسنة الشخصيات، حكمت الكاتبة على العمل بعدم المنطقية، و لكن ليس بالخيال، فالخيال جوهر الرواية، لا رواية بلا خيال حتى في الرواية الواقعية، في حين أن المنطقية تجعل العمل مُحكمًا، مترابط الشخصيات و الأحداث، حلقة ماتعة من الأحداث تملأ نفس القارئ و تحلق به في عوالم و حيوات من الممكن أن يخلقها عقله، و لا تستوحش نفسُه بداخلها، فيُهرَع إليها مُتمنِّيًا أن يكون جزءًا من الأحداث.
و أنا لا أتمنى أن أكون جزءًا من دولة مماليك وردية، الشخصيات تهيم فيها تائهة بين الصوفية و رحاب العشق والفناء وكل تلك المصطلحات التي لا علاقة لها بالرواية أصلًا، و هذا أكّد لي أن الأدب الرائج في عصرنا هذا له معادلة، ما إنْ تتحققْ، فسيُضْمَن نجاحُها الساحق، و سيعود القارئ بعدها خالي الوطاب من أي متعة أدبية فعلية، كنتُ أودُّ مناقشة الأحداث التاريخية، و لكنّي لا أجد حدثٌا كي يُنَاقَش، بعض المواقف التاريخية، و الكثير من قصص الغرام السعيدة و كلمات صوفية، هذه هي الرواية بإيجاز.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية 

مقالات من نفس القسم