الحقيقة العارية وحطَّاب الغابات المنسية

صلاح فاروق العايدي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

صلَاح فـارُوق العايدي

أيَّتُهَا الحَقِيقَةُ، كَيفَ أرَى جَسَدَكِ العُريَانَ الصَّافِي؟ هَل تَخرُجِينَ لِي بَعدَ فَوَاتِ الوَقتِ، أم تَغمِدِينَ خِنجَرَكِ الصُّلبَ فِي قَلبِي، عِندَ المُنعَطَف؟

عَارِيًا، أنتَظِرُكِ، أيَّتُهَا القَاسِيَةُ، عَارِيَة. (متلا، الديوان، ص 79)[1]

 

مغامرة الشكل الإبداعي:

رفعت سلَّام واحد من أبرز مثقفى جيل السبعينيات في العالم العربى، ولا يقتصر إبداعه على الشعر؛ فإلى جواره يسهم بين حين وحين في النقد الأدبي، كما يسهم في الترجمة بنصيب وافر. وهذا كله ما يجعل تجربته الفنية ذات أبعاد مركبة، تحتاج في قراءتها إلى وعي خاص؛ يدرك حقيقة ما قدَّمه من إضافات في الإبداع العربي، سيما أن تجربة شعراء السبعينيات مفارقة لما قبلها، ومفارقة لما بعدها في الإبداع الشعرى العربى.

ولا ريب أن ثمَّة علامات مشتركة بين أصحاب هذا الجيل كله، ولا ريب أيضًا أن ثمة خصائص ما، بين كل واحد منهم في تجربته الشعرية الخاصة. وفي كل الأحوال، ليس من اليسير التواصل مع هذه التجارب دون إدراك خصائصها المائزة، إلى جانب الوعى بالأسس الفنية التي قامت عليها.

لقد قدَّم شعراء السبعينيات تجربتهم الكلية على أساس مفارقة الشكل الذي استقر على أيدي سلفهم الشعري من جيلي الخمسينيات والستينيات. وهي المفارقة التي قصدوا بها الاستجابة الضروية لتحولات المجتمع والسياسة من حولهم، خاصة بعد أن سقط مشروع الحلم القومي، فأصبح الشكل القائم غير قادر على التفاعل مع تلك التحولات.

من هنا، فإن الشكل الذي اختاره شعراء هذا الجيل لقصيدتهم الجديدة ليس مجرد شكل فني للتعبير عن تجربة شعرية خاصة، وإنما هو إنتاج ثقافي يجمع في تكوينه محصلة خبرات ثقافية هائلة؛ حصَّلها أصحاب هذه التجربة من التواصل الحميم مع ثقافات العالم؛ قديمها وحديثها، إضافة إلى خبراتهم الخاصة في تحولات المجتمع من حولهم.

وهو ما جعل قصيدتهم الجديدة تخرج عن مجرد التعبير عن مواقف فنية يتعرض لها صاحب التجربة، إلى التعبير عن رؤية كلية ذات طابع أيديولوجي فيما يحدث خلال تلك التحولات؛ مدعومة برؤى ثقافية متعددة، لا تعتمد الحديث والمعاصر منها فحسب، وإنا تضيف إليها القديم؛ العربي منها والأجنبي. وهذا ما جعل تجربتهم الفنية تمثيلًا لتجربة الإنسان ولخبراته الثقافية بطول التاريخ الإنساني، من لحظة الخلق إلى اللحظة الحاضرة في إنشاء هذه التجربة، كما جعلها إعادة قراءة؛ أو بالأحرى تفكيكًا لذلك التاريخ، وإعادة بناء لمرتكزاته الأساسية، على نحو خاص، يستصفي جوهر تلك المرتكزات وتاريخها في لحظاتها المختلفة.

ومن هنا، لم تعد القصيدة لديهم مجرد تجربة فنية، بل أصبحت ” كونًا ” كاملًا، يوازي التاريخ الإنساني كله، كما لم تعد “عالـمًا” شعريًّا يخص الشاعر وحده، بقدر ما هي تاريخ ثقافي لحياة هذا الإنسان. ومن هنا أيضًا، أعلن أصحاب هذه التجربة مرارًا وتكرارًا عن قصدهم العمدي إلى إعادة إنشاء القصيدة من العدم، ومعها إعادة تعريف الشعر وخصائصه. وهذه الرغبة المحمومة في إعادة البدء من نقطة الصفر في التاريخ الإنساني لتُخفي وراءها رغبة موازية وحاضرة بقوة في كل إنتاجهم الشعري من حيث الرغبة في التطهُّر الكلِّي من التاريخ الثقافي للإنسان، لتصبح المساحة خالية أمام الذات الشاعرة لترى بعين البصيرة المجردة ما لا يراه الإنسان المُحمَّل بتاريخ من الوعي الزائف.

وقد انعكست هذه الرغبة القاصدة إلى الكشف عن جوهر التاريخ الثقافي للإنسان في عدد من الخصائص البارزة التي ميَّزت تجربة شعراء السبعينيَّات في مظهرها العام. وهي الخصائص التي وقف أمامها بالرصد والتحليل عدد من الباحثين والنقاد؛ ويأتي في صدارتها ما يُعرف باللغة المغلقة وتشتيت المرجع الدلالي[2]، إضافة إلى الاعتماد الكلي على مفهوم “الكتابي” بدلًا من الشفاهي الذي كان سائدًا في النموذج التقليدي للقصيدة العربية.

والأخيرة – “الكتابي” – ربما كانت أخطر هذه الخصائص؛ إذ انبنى عليها كل تاريخ المغامرة الإبداعية التي تعامل من خلالها أصحاب هذه التجربة مع مفهوم الشعر والقصيدة على نحو خاص. ومن خلال “المغامرة الإبداعية”، تحولّت التجربة الشعرية/ القصيدة إلى مساحة كلية من البياض، توازي في تفاصيلها حدود العالم. وهي تفاصيل لا يراها سوى الشاعر؛ ومن ثم يعيد تشكيلها وفق تلك الرؤية المخفية. وما القصيدة المكتوبة في ذلك إلا علامات التداخل والفواصل في تلك المساحة الأولى للصفحة البيضاء/ مخيلة الشاعر / العالم.

والأساس في تشكيل تلك التفاصيل استعمال كل علامات اللغة المتاحة من ترقيم وتجاور وعلامات إعرابية؛ إضافةً إلى ما يبتكره الشاعر نفسه من علامات، استغلالًا أو إفادةً من التطور الطبيعي لتقنيات الطباعة. وهذا كله جعل السياقات الدلالية التي ينتجها هذا التشكيل الكلي لمساحة الصفحة البيضاء، شديدة التداخل، وتوشك أن تكون مغلقة؛ سيما مع قطع الصلة بين هذه السياقات ومرجعياتها الدلالية المعتادة خارج القصيدة.

وهذا كله جعل الشكل العام للقصيدة – في إنتاجها النهائي – يتخذ شكل “كتلة لغوية” شديدة الكثافة. وكثافتها تأتي من مصادر مختلفة، أحدها إعادة تشكيل مساحة الصفحة البيضاء على ما ذكرت، لكنها أيضًا تتكئ على ألوان الكثافة المعتادة في التركيب اللغوي، من حذف وإضافة وإسناد؛ مدعومة بفيض من الاستعارات “المستحدثة” بعد تجاوزها مبدأ الاستحالة في الشعر القديم[3]، وتجاوزها أيضًا مبدأ تراسل الحواس[4] الذي اعتمده شعراء الرومانسية العربية من قبل.

ومن ثم، فقد تحولت القصيدة على أيدي أصحاب هذه التجربة إلى كون موازٍ لعالم الواقع الذي نعرفه، وليس مجرد عالم مغلق، على ماشاع في تفسيرها. وبالتالي فهي في نهايتها إعادة تشكيل للعالم الواقعي، بما فيه من تشوُّهات اجتماعية، انعكست على موقف الشاعر نفسه من ذلك المجتمع. وهو الموقف الذي جسَّده المبدأ المعروف في تكوين هذه التجربة تحت عنوان “كسر التابو”.

وليس هذا الكسر في حقيقته سوى مواجهة المجتمع بمظاهر تشوُّهه، وإعلان واضح وصريح عن رفض الشاعر لحضورها في تاريخه الثقافي المعاصر. وربما بسبب حدة هذا الموقف، وبسبب طبيعة التكوين النهائي، أو الشكل النهائي الذي اتخذته القصيدة في التعبير عن هذا الموقف، تحولت القصيدة إلى عالم مغلق في ظاهره؛ أثار الاعتراضات المعروفة عن مفهوم الغموض وفكرته[5]. وإن اقترن الإغلاق بالتعبير عن هشاشة المجتمع وتفسُّخ علاقاته الإنسانية، بعد أن غطاها الزيف، وأصبحت أسيرة قناعات عدة من الثقافات المغيِّبة للوعي.

وهذا كله يدخل في إطار مفهوم المغامرة الإبداعية التي اعتمدها شعراء هذا الجيل في التعامل مع مفاهيم الفن عامة، والشعر والقصيدة على نحو خاص. وقد نفهم قيمة هذا التغيير في تناول التجربة الفنية، من حيث التحوُّل إلى مفهوم المغامرة الإبداعية، إذا تذكرنا الأساس الفني لهذه التجربة لدى أصحاب تجربة الحداثة الأولى في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. وهو الأساس الذي يلخصه مفهوم “الرحلة إلى المعنى”، على نحو ما أوضحت في دراسة سابقة[6].

فأولئك الرواد الأوائل بنوا تجربتهم على أساس أن اكتشاف المعنى النهائي الذي تقود إليه القصيدة هو البوصلة التي تقود مبدعها في حدود تلك القصيدة. وهذا في نفسه نوع من المغامرة لا نستطيع إنكارها، خاصةً مع الخطوة الجبارة التي خطاها أولئك الرواد، حين غيروا من الأسس الأولية التي انبنى عليها التشكيل المألوف في مكونات القصيدة العربية التقليدية؛ أى من حيث اللفظ والمعنى والوزن والقافية.

غير أن الرواد الجدد، أو أصحاب هذه التجربة من شعراء السبعينيات، أضافوا إلى هذه المغامرة الخاصة بالمعنى مغامرة الشكل كله، لا من حيث ابتداع شكل جديد للقصيدة العربية، وإنما من حيث إن هذا الشكل في ذاته هو مناط المغامرة. وهو ما أدى إلى تنوع هذه الأشكال وتكاثرها، وإن بدت في صورتها العامة متقاربة، وتبدو متشابهة لغير الخبير بأنماطها وأسس بنائها[7].

ومن ثم، فقد تحولت مغامرة الشكل هذه إلى أداة أساسية من أدوات هذا الشاعر في مواجهة المجتمع بمظاهر زيفه، تحت عنوان عام، هو: كسر التابو. وإن شهر منه الدين والسياسة والجنس. غير أن تابو الشكل في ظنى هو أخطر هذه المواجهات التي قام بها هذا الشاعر في مغامرته الإبداعية؛ خاصة أن الشكل – في هذا المكوِّن العام لتابوهات المجتمع أو قناعاته المستقرة في وعيه العام – هو أكثرها صلابة، وأبعد عن مساحة المرونة التي يمكن بها تمرير الشكل الجديد على وعي الجماعة، بما فيه من اقتران بمناسبات عامة، وبموضوعات نمطية، ومعانى سائرة؛ اعتاد المجتمع رؤيتها الوجه المقابل للمكون الديني ذاته.

ومن ثم، فإن إعادة خلق هذا الشكل هو جزء من عملية المواجهة، وخطوة أساسية في سبيل الوصول إلى إعادة بناء العالم، وتشكيل ثقافته المعاصرة. والسؤال إذن: أين تجربة سلام من هذا كله؟ !!

رفعت سلَّام / إعادة خلق العالم:

ذكرت أن شكل القصيدة في هذه التجربة يمثّل مبدًا فنيًّا أساسيًّا، ارتكز عليه شعراء هذا الجيل في صناعة قصيدتهم. والمتابع لتجربة سلام يلحظ أن هذا الشكل يتجاوز مجرد التعبير عن صورة خاصة للعالم؛ إذ هو في نفسه العالم، بكل تفاصيله. ومن ثم، فهذا الشكل يتحوَّر في كل قصيدة من قصائده ليأخذ صورة المنحنيات التي يبدو عليها ذلك العالم في لحظة الكتابة.

وبعبارة واضحة موجزة، شكل القصيدة في تجربة سلام ليس تعبيرًا عن العالم، وإنما هو العالم، بكل تاريخه الثقافي الذي يعيد الشاعر قراءته، هادمًا كل ما يحيط هذا التاريخ من جدران الوعي المزيَّف، وكاشفًا عن حقيقته في لحظة الخلق الأولى، ومعيدًا – في الوقت نفسه – بناء هذه الحقيقة وفق حدس الشاعر الذي يأخذ صورة المراقب الخارجى، المتحكِّم في تفاصيل الصورة.

هذه واحدة من ميزات التجربة الخاصة لسلام، ظهرت بقوة في دواوينه: “إشراقات رفعت سلام”، و“هكذا قلتُ للهاوية”، و“حجر يطفو على الماء”، كما تظهر في هذا الديوان الذي نحن بصدد قراءته: إلى النهار الماضي.

ففى كل هذه الدواوين انبنى الشكل الأساسي على نوع من الجدل بين المتن والهامش. وهو جدل متصل، يصل من القوة إلى درجة أن ينافس الهامش متنه، ويصبح قصيدة / قصائد مستقلة، دون أن ينقطع الحوار بين الجزئين. فإذا كان الجدل بينهما يأخذ شكل التوازي، كما لوكانا متقابلين، يربطهما علاقات التفسير مرة، والاستدراك مرات، والمقابلة في أحايين أخرى، خصوصًا في الإشراقات، فإنه – في آخر هذه الدواوين: حجر يطفو على الماء – يأخذ شكل الأطراف المنبثقة في كل الجهات، كما لو كان انفجارًا كونيًّا، يحاكي الانفجار الكوني الأول. وفوق ذلك تدعم هذا الانفجار أشكال تصويرية، أضافها الشاعر بقلمه الخاص، وبخطه الطبيعى، دون خطوط المطبعة؛ الأمر الذي يؤسِّس بقوة لفكرة إعادة تشكيل العالم (الطبيعي) في مصدره الأول ولحظته الأولى.

ولا يغيب في هذا دلالة العمودين المتوازيين اللذين أشرت إليهما في الإشراقات، فهذان العمودان – من جانبٍ ما – إعادة تأسيس للعمودين المتقابلين في الموزون المقفى. وهو تأسيس يكشف عما وراء جداريهما الصلبين من معان أولى، أخفاها تراكم الزيف تحت مظلة الشكل السيمتري المنضبط للوزن وللتقفية.

ومن ثم، يقوم هذا التأسيس الجديد لفكرة العمودين المتقابلين بتفريغ ذاكرة الشعر من دلالاته الثقافية المعتادة، ليسمح بإعادة تأسيس موازية لتشكيل الجملة النمطية. وهو ما ينتهي إلى أن يجعل من هذه الجمل تكوينات داخلية؛ أشبه بالمجرات أو النجوم البارزة داخل المساحة الكلية للعالم المادي. وتلك النجوم البارزة ليست إلا الكلمات، أو الجمل الصقيلة، المطبوعة بحروف أسمك وأكبر مما حولها، بحسب خطوط الطباعة المعروفة.

وهي تأتي أيضًا في صورة انفجارات داخلية، تردِّد الانفجار الأول الذي شكل العالم. لكنها لا تأتي فجأةً، أو دون تمهيد؛ فثمة سلسلة من التشكيلات اللغوية التي تستعيد الدلالة الأولى لتشكيلات الجناس والسجع والطباق وحسن التقسيم، المعروفة في البديع العربى، إضافةً إلى الاستعارة الكثيفة التي تجمع أطراف المتنافر وغير المتوقَّع في هذا الكون اللغوي الكبير.

وجماع هذا كله يصب في بوتقة التشكيل الكلي لعالم القصيدة / عالم الشاعر. ويمكن هنا أن نلحظ أن مسار هذا التشكيل بدأ – بالمقارنة بين مجموع أعمال الشاعر – يسيرًا، تتبدى ملامحه الأولى في الاستعارة الكثيفة، وفى الجمل الصقيلة، منذ الديوان الأول. ثم يأخذ في التعقُّد بظهور ملامح الجدل بين العمودين الكبيرين، حتى ينتهي إلى لحظة الانفجار الكبير التي جسَّدها ديوانه الأخير: حجر يطفو على الماء[*].

وهذا يعني أن فكرة الشكل في هذه الأعمال ليست مجرد إطار فني، اختاره الشاعر لصب تجربته الإبداعية. ولكنه موقف أيديولوجي من هذا العالم، وتاريخ ثقافي يستعيد اللحظات الأولى لخلق الإنسان وعالمه، ثم يعيد تشكيل هذه اللحظات، من وجهة نظر ثقافية لتاريخ الإنسان كله.

إلى النهار الماضي / سيرة ثقافية للذات الشاعرة:

إلى النهار الماضي” – إذن – خطوة في طريق التشكيل الكلي لهذه التجربة البارزة، تحمل أسس البناء الأولي لخصائص التشكيل الجمالي في أعمال سلام، كما تعبر بذاتها عن موضع هذا التشكيل الخاص للديوان في تلك المسيرة الحافلة.

وهو يثير عددًا من الأسئلة المبدئية التي يطرحها شكل تصميمه الفني، كما تطرحها الملاحظات الأولى التي يبديها هذا التصميم. وهي ملاحظات تتعلق بالعنوان، وبتقديمه الافتتاحي، كما تتعلق بالترتيب الزمني للقصائد، وبتكوينها الداخلي الذي هو – كما أشرت – تأكيد لخصائص التشكيل الفني في أعمال الشاعر كلها.

وبعد ذلك، تأتي الأسئلة المتعلقة بدلالة السياقات الداخلية في هذه القصائد، من حيث التأكيد المتوالي على صورة بعينها للذات الشاعرة، في مقابل صورة المرأة الكلية التي تتعلق بها هذه الذات، في ضوء رؤية هذه الذات للمجتمع وللعالم كله من حولها. وفي السياق نفسه، يأتى التساؤل عن خصائص التشكيل اللغوي في هذا الديوان، الذي هو تقدمة متصلة بالتشكيل الجمالي كله في مساحة فراغ الصفحة البيضاء، فما دلالة كل هذه الملاحظات؟ !!

دلالة العنوان والتقديم الافتتاحي:

تنصرف الدلالة المباشرة للعنوان: “إلى النهار الماضي” إلى اللحظة الماضية، وكأن الشاعر بذلك يلفت النظر إلى حياة مرَّت. ومن ثم، فقصائد الديوان تعمل على إيضاح هذه النظرة أو تؤكدها. فهل عنى الشاعر ذلك فعلًا؟ أم أن ثمة احتمالات أخرى لهذه الدلالة؟

تركيب العنوان يشير إلى حذف ضمني تقتضيه القاعدة اللغوية، فهو شبه جملة يتصدره حرف الجر “إلى”. وشبه الجملة بطبيعته يتعلق بمحذوف؛ إما أن يكون خبرًا للمبتدأ، أو نعتًا أو شبهه لفاعل في حالة تقدير الجملة فعلية. غير أن الحذف هنا لا يقتصر على الخبر، فالمبتدأ أيضًا محذوف. والتقدير الأقرب لدلالة شبه الجملة هنا: هذه رحلة إلى النهار الماضي. وقد يكون التقدير: أدعوكم إلى رحلة إلى النهار الماضي. وقد تكون كلمة رحلة هنا غير مناسبة، ومن ثم نستطيع استبدالها بكلمات أخرى من قبيل: دعوة، أي أدعوكم إلى النهار الماضي، أو هذه دعوة إلى النهار الماضي. وقد تكون الكلمة المقصودة: التفاتة أو نظرة أو عودة.

وفي كل الأحوال، فإن كل هذه التقديرات تفترض تصوُّرًا أساسيًّا يسيطر على بنية الديوان؛ أي بوصفه رحلة أو لحظة تأمُّل فيما مضى من أحداث الحياة وتحوُّلاتها، ورؤية الذات الشاعرة لما كان فيها.

ولا تقف دلالة التركيب في العنوان عند هذا الجزء الافتراضي المحذوف، فلابد أن نضيف إليه التوقُّف عند دلالة الوصف “الماضي”؛ فهو يستدعى بدوره مقابله الضدي: المستقبل أو الحاضر. هذا على اعتبار أن دلالة الماضي هنا بمعنى “مضى”، لكنه أيضًا يشير إلى لون من اللعب بدلالة هذا المستقبل أو ذلك الماضي؛ فالوصف في ذاته “الماضي” مبني على صيغة اسم الفاعل. وهي صيغة لا تفترض فحسب دلالة “المضي”؛ إذ تشير في الوقت عينه إلى دلالة الحالية، أي استمرار الفعل، وتحقّق حدوثه في لحظة الحاضر؛ لحظة استدعائه أو النطق به.

وهذا يعنى أن دلالة التركيب كله تتحول من دلالة “الماضي” – بمفهومه التقليدي الشائع – إلى دلالة الحلول في الحاضر. ومن ثم يصبح التأمُّل في دلالة الماضي المشار إليه تأمَّلًا في اللحظة الحاضرة، بما تجرُّه معها من تأمُّل أيضًا في المستقبل القريب.

إذن، فنحن أمام عنوان يضعنا أمام لحظة تأمُّل، تنصرف إلى الماضي، لكنها أيضًا تمتد إلى الحاضر، وربما استدعت المستقبل، في كثير من لمحاته التي تشير إليها قصائد الديوان. وهذا ينقلنا مباشرةً إلى دلالة المفتتح الذي يتصدرها: “لِي أَن أَختَرِعَ التَّارِيخ، وَلَه أَن يُذعِنَ لِي“. وهو تصدير مُحمَّل بدلالة التأكيد والقصد إلى إعادة النظر في دلالة الحدث التاريخي. والتاريخ هنا لا يعني فحسب ما تم من أحداث “كبيرة”، نجملها عادة تحت كلمة “التاريخ”. فهو أيضًا يعني صناعة هذا الحدث، سواء أكان كبيرًا بالمفهوم التقليدي لمفردة التاريخ، أو كان صغيرًا، غير منظور بالنسبة لرؤية الذات المفردة.

وهذا يفسِّر دلالة “الاختراع” التي تعني – فيما تعني – إعادة الصنع والترتيب لمفرداته الزمنية، ولعناصر تشكيله التاريخية. ولا يخفى – في هذه الدلالة – حس اليقين والتحدي الذي تتضمنه عبارة اختراع التاريخ، خاصةً مع تأكيدها على استجابة التاريخ المصنوع؛ استجابة الإذعان والخضوع.

وهذا كله يقود إلى توقّع أن ثمة رؤية كلية واستثنائية تقترحها قصائد الديوان لمفهوم التاريخي نفسه، كما تقترح علاقات جديدة لعناصر المكوِّن التاريخي. والبداية في ذلك رؤية الذات الشاعرة لنفسها، بما أنها أعطت لنفسها الحق في إعادة اختراع هذا المكوِّن، أو بالأحرى بما أنها استلبت هذا الحق من سيرورة الزمن التقليدية التي تشكِّل هذا المكوِّن وتصوغ مفرداته التاريخية.

ومن ثم، يأتي السؤال: ما موقف الذات الشاعرة من ذلك؟ بما يتضمنه هذا الموقف من رؤيتها لنفسها، ورؤيتها للتاريخي نفسه في سياق الزمني والمجتمعي.

ترتيب زمنى أم سيرة ذاتية للتاريخ؟!

ومن ثم، فلابد أن يلفت النظر في قراءة الديوان تلك القصائد العشر الأولى من مجموع السبع عشرة قصيدة فيه؛ فهى مرتبة ترتيبًا زمنيًّا واضحًا، يبدأ من العام 1951، وتنتهى بالعام 1977. وهو ترتيب لا يمكن استنتاجه فحسب من منطوق تلك القصائد، وإنما عنوانها المباشر يؤكد حضور هذا الترتيب ويدل عليه.

ومن ثم، فلابد أن يلفت النظر أيضًا، اقتران الترتيب بالتحوُّل الثقافى لوعي الذات الشاعرة، وهي تنتقل من منيا القمح 1951، منية شبين، … الخ، حتى تتحول بالكامل من مجرد ذات تتلقى المعرفة وتنتجها في واقع ريفي، إلى ذات تقاوم سلطة إنتاج المعرفة ذاتها بآليات المدينة التي أصبحت جزءًا منها، وشاركت في أحداثها المركزية.

وهذا يدعو إلى التفكير في تلك التجارب المماثلة لما عُرف بقصيدة المدينة لدى جيل الخمسينيات، خصوصًا في شعر أحمد حجازى. وهي القصيدة التي اقترنت بالتعبير عن تحوُّل الذات الشاعرة من براءة الريف وطهارته الأولى، إلى تعقيد المدن وشهرتها بأضوائها، بما يشبه الصدمة الحضارية التي أثَّرت على وعي الشعراء آنذاك. وإن يكن هذا التحوُّل في الوقت عينه عبَّر عن تحوُّل المجتمع كله من زمن قديم؛ قرين إقطاع ما قبل ثورة 1952، إلى التحرُّر الثوري بعد ذلك التاريخ، بما فيه من تجارب مريرة عاناها أولئك الشعراء، حتى سقطت أحلام القومية العربية التي تبنوها في 1967[8].

فإلى أي مدى شابهت سيرة سلام هنا تلك التجارب الأولى لرواد الحداثة في خمسينيات القرن الماضي؟ وهل شابه مغزاها في التعبير عن التحوُّل ذلك المقصد الأول الذي توجَّه إلى التحرُّر الثوري والتعبير عن الصدمة الحضارية للانتقال من الريف إلى المدينة في الذات الشاعرة نفسها؟ !!

لابد أن نذكر أن قصيدة المدينة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، لدى رواد الحداثة، ارتكزت على إبراز الصدمة الحضارية على وعي الذات الشاعرة في انتقالها من الريف إلى المدينة. لكن التعبير عن هذه الصدمة اقترن بالتعبير عن تحول المجتمع كله في تجربته الثورية منتصف القرن العشرين. ومن ثم، فالوصف الذي اعتمده أولئك الشعراء في التعبير عن ذلك الانتقال، هو وصف عام، غابت عنه دقائق (الحالة) الريفية الأولى لأولئك الشعراء.

أما سلام في تجربته هذه، فهو يعيد تصنيع تفاصيل تلك الحالة الريفية الأولى، ومن ثم، يعيد تصنيع ذاكرته التي تحتفظ بتلك التفاصيل، في إطار سعيه إلى إعادة تصنيع التاريخ ذاته، على النحو الذي يعلنه في تصديره المشار إليه. وأمام هذا الهدف، تتحرك ذاكرته من نقطة وجوده المركزية في تلك الحالة؛ أي من لحظة طفولته الأولى، مقترنة بعلاقته القوية بأمه وبالنساء القريبات اللواتي مررن به في طفولته تلك.

ومن خلال هذه النقطة المركزية للطفولة الأولى، ينتقل بترتيب زمني مقصود إلى علاقته بالقرية من حوله، راصدًا نمو الذات الشاعرة نفسها، من طفولة إلى صبا، فمراهقة، قبل أن يتوقف عند مرحلة الشباب التي تمثِّل نقطة مركزية أخرى في رحلته الحياتية تلك. وهي المرحلة التي اقترنت بحياة المدينة، بكل ما فيها من أحداث، زمن حرب الاستنزاف، فأكتوبر 1973، وما بعدهما من أحداث سياسية، تركَّزت في مرحلتى السلام والانفتاح الاقتصادي.

وكأننا بذلك أمام لوحة بانورامية عامة للحدث المجتمعي في مصر، من منتصف القرن العشرين، إلى بداية حقبة الثمانينيات التي اتخذ فيها المسار الاجتماعي والسياسي صورة مختلفة في تكويناته وفي تأثيراته وتبعاته على الناس، عما كان عليه من قبل في المجتمع ذاته. على أن هذه الصورة البانورامية للمجتمع ليست مجرد انعكاس لتلك الأحداث على نفس الذات الشاعرة، فهي لا تجعل من نفسها مدوِّنة لذلك التاريخ الماضي، وإنما همُّها إعادة قراءة ذلك التاريخ وتفسير منحنياته، ومواجهة غوامضه، في ضوء حركة الذات الشاعرة نفسها في ذلك الحدث.

ومن ثم، فخلال كل هذه التحولات، تظل الذات الشاعرة مرتبطة بطفولتها الأولى، وتظل الأم هي الخيط الواصل بين كل تلك الأحداث التي تمر بها. وبالتالي، تمثِّل الأم – في هذه التجربة – نقطة الانفجار الأولى التي تعود إليها الذات الشاعرة في تأمل أحداث التكوين. وهذا الارتباط بالأم – في ذاته – يشير إلى إعادة الاعتبار للمصدر الأمومي في عملية الوجود الأولى للجنس البشري على ظهر الأرض، في مقابل الهيمنة الذكورية على ثقافة المجتمع وذاكرته.

وهذا في حقيقته، يجعل تجربة الديوان أشبه بالسيرة الذاتية، أو السيرة الشعرية التي تواجه فيها الذات الشاعرة نفسها، كما تواجه المجتمع، من خلال تأمُّل عناصر التكوين الأولى في تلك الرحلة الحياتية، وكذلك من خلال إعادة تفسير أو إعادة تصنيع تلك المكونات والأحداث ذاتها.

وهذا يعني أننا لسنا بإزاء مجموعة من القصائد، يعبر كل منها عن حالة من حالات الفيض الشعري التي يمر بها الشاعر نفسه، قبل أن يجمعها في ديوان أو كتاب واحد. وإنما نحن أمام ذاكرة شعرية للمجتمع، تعيد تفسير أحداثه وتسجل مكوِّناته وفقَ رؤية مخالفة للتدوين التاريخي المعلن في حياة المجتمع.

ومن خلال ذلك، تتعرَّف الذات الشاعرة على نفسها، أو بالأحرى، تعيد تعرُّفها على ذاتها، وتجعل من هذا كله الفكرة المركزية لبناء تجربتها الشعرية، التي هي إعادة معايشة، كما هي إعادة قراءة للحدث التاريخي، وللسياقات المجتمعية التي أنتجتها في الماضي، كما أنتجت لحظتها الحاضرة لحظةَ المعايشة (الثانية) نفسها.

ومن ثم، تأتي التجربة الشعرية في نهايتها، وعلى النحو الذي تتجسَّد به على صفحة الورقة البيضاء بوصفها انفجارًا معرفيًّا ودلاليًّا، يسعى الشاعر من خلاله، وطيلة الوقت، للعودة إلى أصوله الأولى، ليعرف منها الماضي، كما يعرف منها حدود الحاضر وملامح المستقبل. ولابد هنا من التأكيد على أن هذا الملمح، في تشكيل تجربة سلام، فارقٌ في التمييز بين تجربته وتجربة رفاقة من شعراء جيله؛ إذ يبني كل واحد منهم تجربته على تصوُّر مركزي مختلف في تكوين جوهره عن تصوُّر سلام لهذا الجوهر، على الرغم من الاشتراك بينهم جميعًا في التصوُّر العام عن مفهوم الانفجار الدلالي لبكارة القصيدة الأولى.

أما سلام، صاحب هذه التجربة، فهو يترجم مقصده وتصوُّره الدلالي والمعرفي في صناعة هذه القصائد من خلال مجموعة من الملامح التشكيلية الداخلية في بناء القصيدة ذاتها. وقد ذكرت منها، في إطار البناء الشكلي، المنافسة بين المتن والهامش بوصفه موقفًا أيديولوجيًّا، يعيد به تصنيع مفهوم القصيدة، في إطار مواجهته لقناعات المجتمع حول مفهوم الشعر ذاته.

وقد نضيف إلى ذلك، في إطار الشكل ذاته، فكرة التسلسل؛ أي ارتباط القصائد ببعضها البعض، بوصفها حلقات منفصلة / متصلة، ضمن حالة شعرية واحدة؛ إضافةً إلى ارتباط الدواوين كلها بوصفها حلقات شعرية أيضًا، ضمن تصوُّر كلي عن مفهوم إعادة تصنيع الذاكرة الشعرية، أو التاريخ الجمعي للعالم كله، وليس للمجتمع المحلي فحسب.

أما التكوين الداخلى لهذه القصائد، فيمكن أن نلاحظ فيه مجموعة من الملامح الأساسية المتكررة. وهي جزءٌ من الأدوات الفنية التي يعتمد عليها الشاعر في تجاربه كلها. وجماع هذه الملامح يدخل تحت ما يمكن أن نسميه: تفكيك الخطاب الشعري التقليدى. وتحته أيضًا ما يمكن تسميته: تفكيك الجملة الشعرية ذاتها. ومن ثم، وفي الحالين، إعادة بناء المفاهيم المتصلة بهذين المكونين الأساسيين من مكونات التجربة الشعرية في تصورها العام. فما ملامح هذا التشكيل؟ !

إعادة بناء مفهوم الشعر وتفكيك القصيدة:

وتنتشر ملامح هذا التفكيك لمفهوم القصيدة التقليدي، ومعه مفهوم الشعر نفسه، في كل قصائد هذا الديوان. ومن ذلك، على سبيل الإيجاز: اتكاء الجملة الشعرية على إعادة تصنيع مقولات تاريخية؛ منها الشعري، ومنها الديني، ومنها الثقافي العام. وهي مقولات – في مجموعها – تمثِّل القناعات الشائعة في الذاكرة الجمعية عن مواقف تاريخية بعينها، تتعلَّق بالهوية، كما تتعلَّق بنظرة المجتمع للآخر، ولقضايا الجماعة، في ضوء هذه المقولات الشائعة. ولذلك، فإن إعادة التصنيع المشار إليها تعتمد على الانحراف بتلك المقولات؛ إما في الصيغة المباشرة، أو في المنطوق الدلالي الشائع، لتصبح تلك المقولات – في صورتها المعاد إنتاجها – وجهًا مقابلًا للأصل التاريخي، في مستوييه الزمني والاجتماعي؛ ومن ثم تكشف عملية إعادة الإنتاج تلك عن موقف الذات الشاعرة من تلك المواقف التاريخية، كما تكشف عن عمقها الدلالي الذي يؤكد هيمنة السلطوي العُلوي على الطبيعي.

وهذا الوجه المقابل للتاريخي الزمني يتأكد بالأقواس التي تفتحها الذات الشاعرة في سياق تدفق السرد الشعرى، حيث تمثِّل هذه الأقواس تعليقات (زمنية) من وجهة نظر الحاضر والآني على التاريخي. ومن ثم، تتحول هذه الأقواس لتصبح انتقالًا خارج الشعري يفتح عينًا على الحاضر، أو لتكون بصيغتها ذات الطابع الاستثنائي (الاستثناء بالمعنى اللغوي) تعليقًا على المتن السردي. والأقواس من هذه الناحية تُضاف إلى الهامش الذي يتخذ شكل المقاطع الموجزة المقفاة في النص.

والأخيرة في ذاتها (المقاطع الموجزة المقفاة) تتجاوب – في بنيتها الشكلية الخارجية – مع البنية الداخلية للمقاطع السردية المطولة، بما في الأخيرة من تقطيع للجملة الشعرية وموازنات يستعيد طاقات السجع والجناس المعروف في البديع العربي، كما يتجاوب مع التكثيف اللغوى الذي يكشف طاقات الاستعارة.

وكل هذه البنيات اللغوية والصياغية تقف على طرف نقيض من البنية التقليدية في القصيدة العربية؛ فهي لا تنفيها، لكنها تؤكد – في كل خط منها – القدرة على استيعابها، واكتشاف نواح من التشكيل الفني لم تكن معروفة، أو لم تكن مألوفة في بنية القصيدة العربية. ومحصلة ذلك كله ما يُسمَّى بالتعبير القديم: طول النَّفس الشعري. وهو طول يظهر في طول القصائد التي يستغرق كل منها صفحات عدة، إضافة إلى طول الزمن الذي يستغرقه قراءة كل منها، نتيجة الحاجة الملحة إلى استيعاب دقائق الصور المبثوثة في ثنايا النص الواحد. وهي دقائق يأخذ بعضها برقاب بعض، ولا تستطيع المخيلة الاستغناء عن أي منها في عملية الاستيعاب الكلية للمشهد (المشاهد) الشعري الذي يصنعه النص الواحد.

وهذا الطول البادي في صناعة هذه القصائد له أسبابه التي أشرت إليها، ومنها اتصال القصائد في سلسلة من الدلالات المتجاوبة، بما يجعلها أيقونات بصرية ودلالية على خط المغامرة الإبداعية الواحدة في الديوان. وما يهمنا الآن، أن هذا الطول يردُّنا إلى القصائد الطوال أو المعلقات التي عدَّها الفن الشعري العربي آية كماله وإتقانه. فالطول في هذه القصائد لا ريب أنه يصنع منافسة بين الأصل العربى القديم، وهذا الإنتاج المعاصر الذي يعيد إنتاج سلفه الشعري على مثال جديد وصورة جديدة. والجدَّة هنا في اصطناع أدوات النص الشعري الأول ليخلق منه مثالًا جديدًا للقصيدة العربية، مثالًا يستحق أن يكون وحده معلقة جديدة في زمننا المعاصر.

ما أريد قوله، أن فكرة المنافسة لا تغيب عن هذه القصائد؛ فهي تنافس القديم من أسلافها الشعريين، منافسة التوقير والنفي في آن، وتنافس سلفها المعاصر في توقير ونفي أيضًا. لكنها تنافس نفسها كذلك، لتحقق هدفها الدلالي الذي وضعت نفسها تحت شعاره في مقدمة الديوان: “لِي أَن أختَرِعَ التَّارِيخ / وَلَهُ أَن يُذعِنَ لِي”.

وهذا ما يبرر المنافسة الضمنية القائمة بين المتن والهامش في هذه القصائد، سواء أكان المتن هو السلف الشعري الأول، أو كان الشكل الذي ارتضته هذه القصائد لتظهر في صورته؛ موقّعة مرّة، ومسرودة مرسلة مرة. ووراء هذه المنافسة أسئلة حديّة، تظهر في تدفق المتن، لتقطعه بأسئلتها المفاجئة، على نحو ما قطعته الأقواس من قبل، أو تظهر في ختام القصائد بصورتها الثقيلة المميزة بالبنط الأسود الكبير.

وكل هذه الملامح يمكن أن نرى أصداءها في القصيدة الافتتاحية من هذا الديوان (منية القمح 1951). وهي قصيدة بالغة التأثير في صناعة هذا الديوان؛ إذ فيها يظهر المقصد الأساسي لعملية تفكيك الحدث التاريخي، وتفريغ الذاكرة من تداعياته الأولى، في ظل إعادة قراءته بعين الحاضر / عين الذات الشاعرة نفسها.

وهذا في نفسه يظهر أحد الملامح (الدرامية) في هذا الديوان؛ إذ يعتمد فيه الشاعر على إعادة تأمل اللحظة الماضية بعين الحاضر. ومن ثم، يعيد تدوينها بهذه العين الحاضرة، في الوقت الذي تعود فيه هذه الذات إلى لحظة الماضي وتعيش منحنياته المختلفة بأدق تفاصيله (المدهشة). وهي مدهشة بسبب ما قد نشعر به حين نفكِّر في الكيفية التي استطاعت بها ذاكرة هذه الذات الشاعرة حفظ كل تلك التفصيلات، وإعادة معايشة نتوءاتها المتباينة.

وهذا يعني أن ثمة زمانين متعارضين في عملية تدوين السيرة (الشعرية) تلك، كما أن ثمة وعيين متنافسين في تلك السيرة. والمدهش أن كليهما يعمل في صياغة مساحة الذاكرة الأولى للشعر، ويعيد تصنيعها وفق وعيٍ محايث تمامًا للماضي وللحاضر معًا، فيتباعد عنها ويتخذ موقف المراقب لسيرورة أحداثهما (التاريخية)، في الوقت الذي يشاركهما في عملية الصياغة وإعادة التصنيع، يقول:

“لِي أن أقبِضَ قَبضَةً مِن طِينِ المُوَافِقِ 16 نُوفمبِر 1951، وَأنفُخَ فِيهَا مِن رُوحِي المُرَفرِفَةِ عَلَى شَفَا العَرَاء، فَتَستَوِي عَرشًا وَمَلَكُوتًا مِن ذَاكِرَةٍ يَطفُو عَلَى مَاء (صَولَجَانٌ، وَحَاشِيَةٌ، وَرَعَايَا غَابِرُون. اينَ الجَوَارِي وَالمَحظِيَّات؟ وَإذ يَنعَقِدُ الدِّيوَانُ فِي الإيوَانِ، أنفَجِرُ فِيهم: لِمَن المُلكُ اليَوم؟ فَيَخِرُّون.

فَمِي لاَ يَذكُرُ الثَّدي.

وَأمِّي اختِصَارُ سَبعَةِ آلافِ سَنَةٍ مِن أوبِئَةٍ وَطَوَاعِينَ وَمَجَاعَاتٍ وَفَاتِحِين. حقُولٌ مِن عَفَارِيتَ لَيلِيَّةٍ تُحَاذِي الذَّاكِرَةَ، وَبَيتٌ مِن رِيحٍ وَشَمسٍ. جمَلٌ وقَصَبٌ يَتَهَادَى، يَقُولُ لِي: هيتُ لَك. ويَقُولُ: لَستُ سَفِينَةً. ويَبكِي فِي حضنِي.

تَفتَحُ أبوَابَ الفُصُول.

تُرَبِّيهَا كَدَجَاجَاتٍ يَائِسَة.

وَتَصنَعُ الحُقُول. “(منيا القمح 1951، ص 13، 14)

وإذا ما تأملنا في هذه القصيدة، فقد يفاجئنا أن الذاتالشاعرة تتبَّعلحظاتٍ من ماضي الطفولة الأول، في قريةٍ ما، بكل طقوسها اليومية، وبمكوناتها الزمانية والمكانية، بأحلامها ومخاوفها، في زمن للحرب، منتصف القرن العشرين. وقد يفاجئنا في ذلك أيضًا أن المرجع الخارجي الذي يعيِّن الأحداث المُشار إليها في القصيدة يكاد يكون واضحًا ومباشرًا، حتى أنك تستطيع تحديد الحدث المقصود، وتحديد زمانه، دون حاجة إلى تأويل بعيد؛ على خلاف ما هو شائع عن غموض المراجع الدلالية في مثل هذه القصائد. وقد نلحظ هنا أيضًا أن وضوح المرجع الخارجي سمة غالبة على قصائد هذا الديوان، ربما لتناسب مقصده، أو أحد مقاصده الرئيسة، بوصفه سيرة شعرية.

والذات الشاعرة في كل ذلك، ترصد في تتبُّعها للحظات الطفولة تلك بساطة الحياة اليومية، وتأثيرها على مخيلة طفولتها، كما ترصد تأثير مجريات الأحداث على القرية ذاتها؛ مع ملاحظة أن التتبُّع المذكور ليس مجرد رصد لمجموعة من المشاهد والأحداث، وإنما هو قائم على أساس مساءلة تلك الذاكرة الطفلية. وهو ما تفعله الأقواس التي تدخل في سياق خطاب السرد الذي اعتمدته القصيدة في بناء وحدتيها الرئيسيتين.

وما يلفت النظر في عملية التتبع تلك أن الذات الشاعرة تنفِّذ إستراتيجيتها في عملية التتبع من خلال تحويل عناصر التكوين في تلك الصور المتتابعة إلى مشاهد أولية (أسطورية الطابع):

قَصَبٌ لِلشِّتَاءِ، وَسَطحٌ لِلقَصَب. قلتُ: لَيسَ سِوَى الجَمَل، فَأتَانِي ضَارِعًا إلَى سَطحٍ وَأبٍ وَطِفلٍ مُشمِسِين (جَمَلٌ بِجَنَاحَين هَائِلَين، وَذَيلٍ شَجَرَة. في الغُرُوبِ، يَمرُقُ فَوقَ حُقُولِ الذُّرَة). (منيا القمح، ص 14)

وهي مشاهد يجري فيها تعرية الحدث التاريخي من قشرته الخارجية التي تزيِّف الوعي، وتسوِّغ قبول عمليات الهيمنة في مجتمع يخضع فيه هامشه لمتنه صاحب السطوة والتحكُّم في مقدرات المجتمع. فإذا كان الحنين لجو الأسرة الريفيِّ، في ظل ذكريات الطفولة التي تستبعد كل ما يجرح إيمانها بسلامة البناء في تلك الذكريات القديمة، فإن تعرية الزيف في هذه الصورة الطفلية للقرية القديمة يكشف عن جانب المشقة فيها، خاصةً في زمن للحرب، يأتي على الأخضر واليابس في تلك القرى القديمة، فيتركها ولا شيء تقدمه للنيران في الغسق:

دُخَانٌ يَصَّاعَدُ فِي الغَسَق. لاَ نِيرَان.

نَاسٌ يَتَكَلَّمُون فِي صُندُوقٍ خَشَبٍ وَصَفِيحٍ صَغِير. يغَنُّون. ابكِي، وَأرجُمُهُم بِالطُّوبِ؛ لاَ يَخرُجُون، لاَ يَلتَفِتُونَ إلَيْ. (منيا القمح، ص 18)

ومخيلة الطفولة تظهر في هذا الوصف البسيط، حين تسمِّي الراديو: صندوق الخشب والصفيح. وهو وصف قد يشي بالفرح الطفولي بهذا الجو القديم للعائلة، وباكتشافات الطفولة التي تبرِّر لها قذف الأصوات داخل ذلك الصندوق بالحجارة، لكنه أيضًا يشي بالخوف المترصِّد في العيون، حين يتابع أصحابها أخبار الحرب البعيدة، ويترقبون – من خلال تلك الأصوات المعدنية – مدى اقتراب تلك الحرب من حقولهم وتأثيرها على حياتهم.

وقد يلحظ أيضًا أن مسالك الاستعارة التقليدية تغيب عن مثل هذه الأوصاف. فهي أشبه بالجمل التقريرية، لكنها التقرير الذي يصنع صوره الخاصة بطريقة أقرب إلى الكناية القديمة، على الرغم من أن التعريفات التقليدية للصورة البلاغية بالكاد تنطبق على إحداها، ولا تنطبق على الأخريات. ولو أننا تمسَّكنا بإجراء الاستعارة التقليدية، وتأولنا العبارات، لينطبق معناها على الصورة اللغوية للعبارة، لفقد المعنى كثيرًا من طاقاته التصويرية. وآية ذلك المقطع الذي أوردتُه، وهذا المقطع الذي يبدو أكثر قربًا من البناء التقليدي للصورة البلاغية، لكنه يظل محتفظًا بالميزة الأساسية في طبيعة تركيب العبارة اللغوية؛ أي القدرة على توليد الصورة (البصرية) دون حصر الصورة المتولَّدة في معناها المباشر؛ إذ تعمل الصور أيضًا في هيئة سلاسل متتابعة، فلا يمكن فهم دلالة إحداها دون إرجاعها لما يتعلق بها من صور قبلًا وبَعدًا، على نحو ما يقول:

وَأمِّي خَيمَةٌ فِي الظَّهِيرَة، سَبعَةَ آلاَفِ عَام.

تُشبِهُهَا الطِّيبَةُ، وَأشجَارُ التُّوتِ، وَالنِّعنَاع.

مِن يَدَيهَا، يَلقُطُ الزَّمَنُ حُبُوبَ الذُّرَةِ وَالشُّوفَان وَالنَّدَم.

إلَيهَا يَأوِي، وَيَهجُرُ جَريَ الوَحُوش. (منيا القمح، ص 18)

والمقطع في إجماله صورة مركَّزة للأم، تبدأ من الخيمة التي تعود بنا للصحراء الأولى في حياة الإنسان، وتضيف إليها الآلاف السبعة من التاريخ المصري، بما يجعل هذه الخيمة من السعة ما لا يحدها حصر أوتصوير. ويمر هذا كله بالطيبة وأشجار التوت والنعناع، والزمن الذي يلقط حبوب الذرة والشوفان والندم من يديها. وكلها صور تحتمل إجراءها على سبيل الاستعارة، لكنها أيضًا ترتد إلى فضاء الكناية الواسعة؛ الأمر الذي يصب في صالح تفسير الجملة الأخيرة من المقطع: “وَيَهجُرُ جَري الوُحُوش“. وهى جملة تستعيد عبارة المثل الشائع، وتعيد إنتاجها في ظل دلالة الصورة المركبة للأم؛ فيكون مسلك الذات الشاعرة في ذلك مسلك الرجل الذي يهجر المشقة، ويأوي إلى اطمئنان الأم وحدبها.

وهذا يقود إلى ملاحظة الإستراتيجية الرئيسة في بناء هذه القصائد؛ إذ تقوم على تقسيم خطابها الشعرى إلى قسمين متراوحين: سردي متصل؛ يخالف – بتكوينه وشكله الظاهري – التكوين المعتاد للقصيدة العربية، سواء منها العمودي، أو التفعيلي الذي يحتفظ بقدر من الانسجام الإيقاعي، يعمل على ضبط حجم السطر الشعري بما يجعله قريبًا من الأصل العمودي. اما القسم الثاني، فهو يعود إلى اختزال السطر التفعيلي؛ مبرزًا إيقاع القافية في سطوره، في تأكيد متصل لإستراتيجية المنافسة بين الهامش والمتن التي ذكرتها في تكوين هذه القصائد.

وتمثل العلاقة بين الشكلين المقطعيين لُب الجدل الشعري الذي يُنتج الدلالة في هذا الشكل. وفي كل الحالات، فإن السرد المتصل في هذا التكوين الكلي للقصيدة هو الأصل، أو الأرضية التي يقوم عليه البناء الشعري في هذه القصيدة / القصائد. ويضاف إلى ذلك ما تقوم به الأقواس التي تتخلَّل المقاطع السردية من انحراف بالدلالات العامة المفهومة من السرد الشعري، فتضيف الشرح أحيانًا والتحفُّظ في أحايين أخرى. ويُختتم ذلك كله بالتساؤل الحدي الذي يختم المقطع الشعري بتنويعيه (السردي والإيقاعي)، موضوعًا في صورة سطر شعرى يتوسط الصفحة البيضاء، ويعلن عن حديِّته وتحديه الدلالي ببنط الطباعة الأسود الممتد، والمؤكد بالحجم الضخم لأحرف جملته الخاصة.

وَجُحرِيَ مَفتُوحٌ لأبنَاءِ السَّبِيلِ وَالعَاهِرَاتِ، أُحَدِّثُهُنَّ عَن الفَضِيلَةِ وَالمَنفَلُوطِي. وأندَهِش. في اللَّيلِ، أُرَتِّل: “يَا مَن يَدُلُّ خُطوَتِي عَلَى طَرِيقِ الدَّمعَةِ البَرِيئَة، يَا مَن يَدُلُّ خُطوَتِي عَلَى طَرِيقِ الضِّحكَةِ البَرِيئَة“. وأبكِي.

أنتَظِرُ مَا لاَ أدرِي.

مَتَى يَجِيء؟ (1972، ص 58)

هذا هو الشكل العام لتكوين القصيدة / القصائد في هذا الديوان. لكنه أيضًا يستند إلى تكوين آخر خفي، يعتمد – كما ذكرت – على الربط الدلالي بين القصائد مجتمعة؛ فتأتي القصيدة الأولى من الديوان بوصفها القصيدة الجامعة، أو القصيدة الإطار؛ في حين تمثِّل القصائد التالية قصائد شارحة، أو فروعًا ممتدة من الأصل المرجعي في هذه القصيدة.

معارضة شهرزاد / الليالي الشعرية:

وهذا يدفع التحليل إلى ملاحظة التكوين الداخلي في بنية الدلالة لهذه القصيدة المفتاحية للديوان، أعني (منيا القمح 1951)؛ فهي – من وجهٍ ما – تمثِّل معارضة لشهرزاد الليالي، وتستعيد عصا التحكُّم من يدها. ومن ثم، تُعيد الاعتبار لدور الرجل في هذه الليالي المعاصرة. وبعبارة أخرى، كانت شهرزاد – في الليالي الأصلية – هي التي توجِّه مدار الحكي، وتتحكم في مساراته المختلفة. وبتحكُّمها في عملية الحكي، تستلب سلطة الرجل / شهريار، وتطيل مدى وجودها في حياته[9].

أما الحكي في هذه القصائد – بوصفها سيرة شعرية، على ما ذكرت – فإنه يأتي على لسان الذات الشاعرة بصيغة المذكر، بل وتستعير من الليالي ومن التراث الشرقي كله صوت الملك، لا صوت الرعية. وبهذا الصوت المدهش تفتتح القول الشعريَّ كله:

لِي أن أقبِضَ قَبضَةً مِن طِينِ المُوَافِقِ 16 نُوفمبِر 1951، وَأنفُخَ فِيهَا مِن رُوحِي المُرَفرِفَةِ عَلَى شَفَا العَرَاء، فَتَستَوِي عَرشًا وَمَلَكُوتًا مِن ذَاكِرَةٍ يَطفُو عَلَى مَاء (صَولَجَانٌ، وَحَاشِيَةٌ، وَرَعَايَا غَابِرُون. اينَ الجَوَارِي وَالمَحظِيَّات؟ وَإذ يَنعَقِدُ الدِّيوَانُ فِي الإيوَانِ، أنفَجِرُ فِيهم: لِمَن المُلكُ اليَوم؟ فَيَخِرُّون).

(منيا القمح، ص 13)

وهذا المقطع مدهش في قدرته على اختزال التمهيد الافتتاحي المماثل في الليالي، لينتقل منه إلى سلسلة الحكي التي تدور حول أصل هذه الذات الملكية، ونشأتها وتحولاتها، فيما بعد، إلى أن تصل إلى حالتها الحاضرة؛ الحالة التي يجسِّدها قوله “رُوحِي المُرَفرِفَةِ عَلَى شَفَا العَرَاء”؛ القول الذي يحمل في بؤرته الرؤية المركزية لأصحاب هذه التجربة عامة، ولسلام على وجه الخصوص. وكأنه بهذا القول يختصر مجمل رحلته الشعرية، مبررًا في الوقت عينه – بما سوف يأتي في تفاصيل الحكي / السرد الشعري وتضاعيفه – هذا الوضع النهائي الذي اختارته الذات الشاعرة لنفسها. والحكي على هذا النحو يخالف ما جاءت به الليالي، حيث اتخذت لنفسها من القيم الأخلاقية أساسًا لمساءلتها الفنية، وجعلت من هذه المساءلة سببًا لمعالجة نزق شهريار[10].

ومن هذا التحويل المبدئي في الرؤية المركزية لطبيعة الحكي وأهدافه (الذات الشاعرة / مذكر / التحوُّل)، تبدأ القصيدة في بسط رؤيتها المبدئية المركزة عن النشأة الأولى لهذه الذات. وإن تكن في ذلك تتفق مع الليالي الأصلية في تتبُّع عمليات التحول التي تحرِّك النفس الإنسانية. غير أن التحوُّل الذي تركِّز القصائد بؤرتها عليه هو تحوُّل المجتمع ذاته في زمن محدد، يبدأ من العام 1951 إلى نهاية العقد السابع من القرن العشرين؛ إضافةً إلى كون هذا التحول مؤطَّرًا بتحوُّل الذات الشاعرة نفسها، ومحكومًا بما تمر به من أحداث. وفوق ذلك، فإن عملية الرصد الشعري نفسها تظل محكومة كذلك بكونها (شعرًا) ورؤية (شعرية)، لا يتغيَّر فيها الأبطال ولا تتعدَّد الذوات، على ما هو الوضع في الليالي. ومن ثم، ومن هذا التحديد الأوَّل لطبيعة الرؤية الشعرية، تنطلق سلسلة الحكايا، مفتتحةً تيماتها بالأم التي تمثِّل الخيط المركزي الرابط بين كل الحكايا والجامع لكل المسارات، في تجلياتها المختلفة؛ أمًّا وحبيبةً ووطنًا: (فمِي لاَ يَذكُرُ الثَّدي).

ثم تتوالى المقاطع التي يمثِّل كل منها جزءًا أو مشهدًا من الحكاية، حاملًا في تكوينه الخصائص (الأسلوبية) التي ذكرتها في الوصف المبدئي لهذه القصيدة: (السردَ المتصل / المقطع ذي القافية / أقواسًا شارحة / أسئلة حدية قاطعة لتسلسل الحكي). ويُضاف إليها التيمات البينية التي تظهر في مسار الحكي المبدئي، كما لو كانت عنصرًا عابرًا؛ فإذا بها – في مواضع أخرى من الديوان – تستقل بقصيدة كاملة، كما تظهر في مواضع أخرى من قصائد الديوان الأخرى. وهذا ما يجعل العلاقة بينها أشبه بالعلاقة القرآنية الشارحة؛ حيث تشرح آيةٌ ما ورد في آيات أخرى من آي الذكر الحكيم.

ويمكن إيضاح هذا تمامًا بملاحظة تيمتين أساسيتين وردتا في القصيدة الأولى، القصيدة الإطار، ثم انفرد كل منهما بقصيدة مستقلة. والتيمة الأولى، هى الأم، والتيمة الثانية هي الجمل الذي يمثِّل وجهًا من وجوه الذات الشاعرة، على طريقة الشاعر العربى القديم حين شبه راحلته الجمل بالثور الوحشي مرة، والحمار الوحشي مرة. والعجيب هنا، وما يجب أن يلفت النظر، أن كل هذه العناصر القديمة وردت في قصائد الديوان؛ بما في ذلك الخيمة والريح والصحراء. وهو ما يشير إلى تأثير أنساق القصيدة العربية القديمة في التجربة الشعرية لهذا الديوان:

أصحُو، وَفِي جَسَدِي السَّنَابِك.

لِمَاذَا تُلَملِمُ أمِّي أسئِلَتِي مِن الأركَانِ وَالزَّوَايَا، وَتَضَعُهَا فِي عَرَبَة؟

إلَى أين؟

لِمَاذَا تَخَلَّى عَنِّي الجَمَلُ المُجَنَّح؟ أيَّتُهَا الشَّمسُ السَّودَاءُ: أينَ ذَهَبَ ظِلِّيَ الأبيَض؟ مَارِدٌ نَحِيلٌ يُقَهقِه، وَالبَيضَاءُ تَبكِي – مَحلُولَةً – بِلاَ حِيلَة.  (منيا القمح، ص 19)

فهذا المقطع الذي يشير بوضوح إلى الأم وإلى الجمل ينحل في قصيدتين تاليتين، هما “فاطمة” التي تمثِّل القصيدة الثانية من الديوان، و”الجمل” التي تمثِّل القصيدة الرابعة عشرة منه. اما فاطمة، فتجسِّد العلاقة الخاصة للذات الشاعرة بتلك الأم، كما تجسِّد صورتها الخاصة في مخيَّلة الذات الشاعرة:

لاَ تَعرِفُ النَّومَ، وَلاَ يَعرِفُهَا السَّهَر.

تَمشِي الفُصُولُ فِي أقدَامِهَا،

وَيُورِقُ الحَجَر.

مَرجُ زَعفَرَانٍ فِي امرَأةٍ،

وَامرَأةٌ مِن الصَّحوِ الجَمِيلِ المُنهَمِر.

أنسَلُّ مِنهَا إلَيهَا، بَينَنَا خَيطُ دَمٍ وَيَاسَمِينٍ لاَ يَعرِفُهُ الزَّمَنُ وَلاَ عَوَامِلُ التَّعرِيَةِ، أنَا الوَلَدُ الصَّغِيرُ لاَ أبلُغُ حَافَّتَهَا، جَنَاحَايَ بِلاَ رِيشٍ يُرَفرِفَانِ إلَيهَا، أيَّتُهَا البَاذِخَةُ لَم تُولَد مِن رَحِمٍ، سِربُ أسَاطِيرَ غَائِرَةٍ، غَيمَةٌ تَهطِلُ المَنَّ وَالسَّلوَى عَلَى الأقرَبِين، وَفِي يَدَيهَا شَغَفٌ بَائِنٌ يَنمُو فَتُطعِمَنَي فَيَنمُو، مِن أينَ جِئِتُ إلَيهَا؟ مِن حَدِيدٍ تَقطُرُ الحِنَّاءَ عَلَى وَجهِي كُلَّ صَبَاحٍ كأنَّنِي تَمِيمَتُهَا أو طَوطَمُهَا البَرِّيُّ، وَجهُهَا صَلاَةٌ قَائِمَةٌ لِغَيرِ مَا رَبٍّ آنَاءَ اللَّيلِ وَأطرَافَ النَّهَارِ، تَحرُسُ النَّومَ مِن طَعنَةِ الخِنجَرِ الآبِقِ أو سِربِ الكَوَابِيسِ السَّاهِرَة، أرعَى فِي حُقُولِهَا حَشَائِشَ النَّهَارِ وَأعشَابَ الطُّمَأنِينَة، (فاطمة، ص 21، 22)

وقد نلحظ في هذا المقطع المجتزأ من قصيدة “فاطمة” المذكورة أنه اعتمد على العلاقة بين المتن والهامش في صورة مقطع افتتاحي مُظلل بالخط الثقيل، يتخذ هيئة مقاطع التفعيلة المعروفة، ويعتمد على القافية الواضحة في نهاية سطوره. ويعقبه المقطع السردي الشارح الطويل الذي يمتد إلى نهاية القصيدة. وفي هذا الشرح يبيِّن الشاعر الأحوال المختلفة لتلك الأم الطبيعية التي ترتفع إلى مدار الأساطير، بما تقوم به من أعمال يومية، وبما تصفه به الذات الشاعرة نفسها في صورة استعارات أو كنايات كلية، تكشف المعنى الثاني وراء الدلالة المباشرة للجملة اللغوية، على ما في قوله: “أنسَلُّ مِنهَا إلَيهَا، بَينَنَا خَيطُ دَمٍ وَيَاسَمِينٍ لاَ يَعرِفُهُ الزَّمَنُ وَلاَ عَوَامِلُ التَّعرِيَةِ، أنَا الوَلَدُ الصَّغِيرُ لاَ أبلُغُ حَافَّتَهَا، جَنَاحَايَ بِلاَ رِيشٍ يُرَفرِفَانِ إلَيهَا، أيَّتُهَا البَاذِخَةُ لَم تُولَد مِن رَحِمٍ، سِربُ أسَاطِيرَ غَائِرَةٍ، غَيمَةٌ تَهطِلُ المَنَّ وَالسَّلوَى عَلَى الأقرَبِين، وَفِي يَدَيهَا شَغَفٌ بَائِنٌ يَنمُو فَتُطعِمَنَي فَيَنمُو، مِن أينَ جِئِتُ إلَيهَا؟ مِن حَدِيدٍ تَقطُرُ الحِنَّاءَ عَلَى وَجهِي كُلَّ صَبَاحٍ كأنَّنِي تَمِيمَتُهَا أو طَوطَمُهَا البَرِّيُّ، وَجهُهَا صَلاَةٌ قَائِمَةٌ لِغَيرِ مَا رَبٍّ آنَاءَ اللَّيلِ وَأطرَافَ النَّهَارِ، تَحرُسُ النَّومَ مِن طَعنَةِ الخِنجَرِ الآبِقِ أو سِربِ الكَوَابِيسِ السَّاهِرَة، أرعَى فِي حُقُولِهَا حَشَائِشَ النَّهَارِ وَأعشَابَ الطُّمَأنِينَة“.

وهو قول متصل الدلالات، يزدحم بدقائق تصوير تلك العلاقة الخاصة بين الأم والولد الذي يجمعهما “خَيطُ دَمٍ وَيَاسَمِينٍ لاَ يَعرِفُهُ الزَّمَنُ وَلاَ عَوَامِلُ التَّعرِيَة“. وهو قول على يسره، إلا أن شرح ما يحمله من احتمالات للمعنى لا تكفيه صفحات طويلة. وهذا في نفسه يبين طبيعة اللغة في هذا الديوان (وهي طبيعة اللغة في شعر سلام، وفي تجربته كلها)؛ فالتكثيف الشديد للدلالات، مع الإيجاز الواضح في بناء الجمل ذات القدرة الإشارية المتعددة، سمة مميزة لهذه التجربة.

وفوق ذلك، فإن هذه القدرة على الكثافة اللغوية لا تمنع من الفهم المباشر، أو الإحساس المباشر بمدلول القول الشعري. وسبب ذلك هو وضوح المرجع الدلالي، أي القدرة على ربط الدلالة الداخلية في بنية الجملة بمرجع خارجي، يعطينا الإحساس بإدراك المغزى الدلالي دون عناء.

ولعل من ذلك قوله في الوصف السابق “وعوامل التعرية“؛ فهي جملة على يسرها وإلف القارئ المعاصر بها، تجعل من اليسير فهم ما تعنيه في الدلالة المقصودة من بناء الجملة. وقد لا يكون من المناسب أن نقول: إن المقصود بذلك: لا يطرأ عليها التغيُّر. فالقول الشعري مهما ظننا أننا نفهم المقصود به يظل هو الوجه الوحيد الصالح لترجمة المقصود به. ولذلك فلعل من أبدع ما ذكره الشاعر في وصف العلاقة بين الأم والابن – في هذا السرد الطويل – قوله: “يَدِي امتِدَادُ جِلبَابِهَا القَرَوِيِّ“، القول الذي يقوم معنى التجريد فيه على صورة بصرية مبهرة، إلى جانب اندغامها في سيرورة الحياة اليومية بطبيعية، ودون اصطناع.

ومع هذه المباشرة البادية في تكوين الجمل، فإن القصيدة تحفل بأمثلة كثيرة لجمل متداولة، تعيد القصيدة استخدامها في سياق جديد، يؤدى إلى تفكيك دلالتها الأساسية، ويعطيها دلالة جديدة، ليس أقلها مواجهة السلطة الاجتماعية للتاريخ أو للمجتمع. وهذا ما نلمحه في مثل قوله وهو يصف الأم أيضًا: “وَجهُهَا صَلاَةٌ قَائِمَةٌ لِغَيرِ مَا رَبٍّ آنَاءَ اللَّيلِ وَأطرَافَ النَّهَار“. فرغم ما قد يوحي به استعمال الظرف “آناء الليل وأطراف النهار” من اختراق للمعتقد الديني، بحكم ارتباط التركيب بسياقات قرآنية مشهورة، فإنه يعيد توجيه التركيب مفيدًا من السياق القرآني نفسه في الدلالة على الديمومة، وإبراز معنى الجدية والإخلاص في العمل.

وهذا في نفسه أيضًا من السمات التي تميِّز تجربة سلام، حيث يعيد استخدام مثل هذه التراكيب اللغوية المشهورة، سواء منها ما يعود إلى السياق القرآني، أو عاد إلى سياقات الكتاب المقدس، أو الأمثال والأقوال المشهورة من الحكَم ونحوها. واستعماله – في كل الأحوال – لا يبلغ أن يكون تقليلًا أو عدم تقدير للأصل الذي يستعمله، وإنما هو إعادة اكتشاف لمحمولاته الدلالية المطموسة تحت ركام العادة والإلف اللغوي، في سياقه التاريخي الطويل.

رحلة الوعي والبناء الثقافي للذات:

نحن إذن بإزاء سمات لغوية وتركيبية مستقرة، تدل على صاحبها، وتؤكد خصوصية تجربته الشعرية. ولعل أبرز هذه السمات الجديدة ما تميز به هذا الديوان، خاصةً على ما ألمحت من قبل؛ أعنيما يشبه الترتيب الزمني للحدث التاريخي الذي تمر به الذات الشاعرة، ترتيبًا يُفصح عن رحلة موازية في بناء هذه التجربة، تتجاوز مجرد الوصف المادي للنشأة الزمنية التي مرَّت بها الذات الشاعرة – وهو ما يدل عليه ظاهر الديوان وتركيبه الخارجي – إلى رحلة عقلية وثقافية، تجعله يقرأ الزمن الحاضر بعينه الشاعرة، كما يقرأ الزمن الماضي بالعين نفسها.

وفي هذه القراءة، تطرح هذه الذات القضايا الثقافية التي مرَّت بها، كما تطرح القضايا الاجتماعية التي مرَّت بها المنطقة العربية، ومصر على وجه الخصوص. فالأمر ليس مجرد سرد لسيرة شعرية، وإنما وراء هذه السيرة تاريخ من الوعي، ومن بناء الذات الثقافية على نحو يجعلها تختلف عن الذوات التقليدية.

وهو الوعي الذي يظهر في نوعية اختيار الأحداث التي تحيل إليها المراجع الدلالية في القصيدة، لتعبر – بهذا الاختيار – عن نمو وعيها الخاص بما يدور حولها. لكنها أيضًا تعبر بهذا الاختيار عن تحول المجتمع من حولها، وتأثُّره بتلك الأحداث التي يجري من خلالها الوعي. فليس من المصادفة إذن أن تكون قصيدة (1967 /الديوان، ص 41) علامة على تحوُّل جيل بأكمله في ظل انهيار الوعى القومي التقليدي؛ وليس من المصادفة أيضًا أن تكون قصيدته (1977 /الديوان، ص 93) علامة أخرى على تحول المجتمع كله، في ظل التحول المجتمعي إلى ما عُرف بنظام الانفتاح الاقتصادي. ولكنه التاريخ عينه الذي تتخلَّى فيه الذات (مؤقتًا) عن حبلها السُّري بالأمومة، لتباشر مغامرة الوعي كاملة دون خوف، في الوقت الذي تقطع فيه صلتها بالأب المركزي، وتقطع بالتالي صلتها بالسلطات الثقافية المعتادة:

الأطلاَلُ بَاذِخَةٌ. نجمَتِي تَمرُقُ فِي البَصِيرَة. كيفَ أطُولُهَا؟ تَتَسَرَّبُ فِي دَمِي طَلَلًا طَلَلًا. ذاكِرَةٌ أخرَى تَبدَأ. والغُرُوبُ نَشِيجٌ فِي القَلب.

مُتَّسِعٌ، وَأشيَاءٌ غَامِضَةٌ تَثَّاءَبُ عِندَ اليَقَظَة.

كَم السَّاعَةُ الآن؟

ثَديُهَا فِي يَدِي. ثمَّ مَاذَا؟ مَن يَدُلُّنِي؟

أمشِي عَلَى مَاءٍ، وَالدَّروِيشُ يَنتَظِرُنِي عَلَى الشَّاطِئ.

وَالحُقُولُ لاَ تَقُولُ لِي كلمَةَ السِّر، وَلاَ المَنفَلُوطِي.

كَيفَ أتَخَطَّى العَتَبَة؟

هَكَذَا أطلَقَتنِي أمِّي، وَطَلَّقَتنِي.

وَالأبُ الأُسبُوعِيُّ يستَطِيعُ الضَّحِكَ، أحيَانًا. (1967، ص 48)

ولهذا فقد يكون من المفاجئ لنا أن تصف هذه الذات نفسها وصفًا يخالف توقعاتنا عن ذات معاصرة، فتسمي نفسها: “جملًا”. وهو الجمل الذي ظهر في القصائد الأولى من الديوان، أي أن وجوده ليس عارضًا ولا صدفة، حتى يظهر بوضوح وجلاء في القصيدة الرابعة عشرة من الديوان، ليقدِّم وصفًا طويلًا لتلك الذات ولرحلتها في مواجهة الزمن.

الجمـل المجنَّـح:

أَنَا الجَمَلُ الرَّملِيُّ لاَ سِنَامَ لِي، أَجِيءُ مِن رِيحٍ إِلَى مَاءٍ، عَبَاءَتِي غَيمَةٌ غُبَارٌ، قَافِلَتِي الَّتِي تَقتَفِينِي إِلَى الغَيبِ، وَخَيمَتِي سَمَاءٌ زَرقَاءُ أَحمِلُهَا بِجَيبِي، أَدُقُّ أَوتَادَهَا بِظِلِّ الجِدَارِ، مَفتُوحَةً لأَبنَاءِ السَّبِيلِ الضَّالِّينَ، طَعَامِي لَهُم عُشبُ الكَلاَمِ وَالشَّايِ، خَمرِيَ اللَّونُ، وَمَائِدَتِي وَرَقٌ جَمِيل. (جمل، ص 129)

يستحق الجمَل في هذا الشعر وقفة متأنية، فهو صورة غريبة لا نتوقَّعها في مثل الشعر الحديث، ولا يمكن أن نتوقَّعها في مثل ما نسميه شعر الحداثة خاصة. والأغرب هنا أن الشاعر ينمو بهذه الصورة بعد أن أشار إليها في القصيدة الأولى من الديوان؛ إشارة تصف هذا الجمل في هيئة أسطورية، تجعله مجنَّحا:

“قَصَبٌ لِلشِّتَاءِ، وَسَطحٌ لِلقَصَب. قلتُ: لَيسَ سِوَى الجَمَل، فَأتَانِي ضَارِعًا إلَى سَطحٍ وَأبٍ وَطِفلٍ مُشمِسِين (جَمَلٌ بِجَنَاحَين هَائِلَين، وَذَيلٍ شَجَرَة. في الغُرُوبِ، يَمرُقُ فَوقَ حُقُولِ الذُّرَة) “(منيا القمح 1951، الديوان، ص 14).

وقد تُلفتنا هذه الصورة الأولى، ونقول: إن الشاعر أراد بها تأكيد المنحى الأسطوري في شعره، وأنه أراد بذلك أن يقول: إن شعره لا يخلو من الأساطير، أو أن شعره يضرب في الأساطير بسهم وافر. وهذا دليل على شاعريَّته “الحداثية”. ولكننا لا بدأن نسأل: لماذا اختار الشاعر الجمَل في هذا الموقف؟ موقف الطفل الذي يتصوَّر الأشياء تصوُّرًا أسطوريًّا يناسب خيال الطفولة، ويلبي حاجاتها في بيئة ريفية بسيطة؛ خاصةً أنه بعد ذلك يربط بين هذا الجمل وعنصرين أساسيين في بناء تيمات هذا الشعر، فيأتي الجمل مقترنًا بالمرأة البيضاء وبالشمس السوداء، حيث يقول:

“أقُولُ إن انهَارَت السَّمَاءُ (لَابُدَّ لَهَا مِن أعمِدَةٍ خَفِيَّة)، فَسَتَهوِي عَلَى النَّخِيلِ والأشجَار، وَتَظَلُّ مُعَلَّقَةً فِي مُتَنَاوَلِ أيدِينَا، لاَ تَسقُطُ فَوقَنَا.

وَقتَهَا، يُمكِنُنِي أن أُطعِمَهَا وأسقِيَهَا وَألعَبَ مَعَهَا. يمكِنُنِي أن أقُولَ لَهَا اهبِطِي قَلِيلًا، دُونَ سُقُوط. وقتَهَا، سَأدعُو الجَمَلَ المُجَنَّحَ وَالعَصَافِيرَ وَالشَّمسَ السَّودَاءَ، نَلعَبُ وَنُغَنِّي حَتَّى مَطلَعِ الأحلاَم“(الديوان، ص 15 16).

وهنا يجب أن نسأل مرةً أخرى: إذا كان الجمل واحدًا من المكونات الطبيعية في هذه البيئة الريفية البسيطة، وهذه إجابة محتملة على السؤال الأول، فلابد أن نسأل: وما الذي جاء بالجمل إلى الشاعر وشعره؟ هل هو مجرد الحنين وتذكُّر المكونات الأولى في صباه؟ إذا صح هذا التفسير، فهو لا يجيب عن السبب في إصرار الشاعر على إفراده بقصيدة مستقلة، عنوانها المباشر الصريح: “جمل“. ومن ثم يجعل هذا الجمل عنوانًا لحنينه وتذكره، خاصةً مع جعله – بالتعبير القديم – معادلًا موضوعيًّا لذات الشاعر. فهو الشاعر ذاته، أو هو الذات الشاعرة بعد أن شبَّهت نفسها بذلك الجمل. وقد يكون من المناسب هنا أن نلحظ أن ظهور هذا الجمل مفردًا ومستقلًّا جاء بعد أن مرَّت هذه الذات على تواريخ وأحداث بتحولاتها الخاصة، جعلتها تغادر صباه بجمله وخياله الساذج البسيط. فما الذي ردَّه بعد شبابه ونضجه إلى جمله الأول؟ !

ويبدو أننا في حاجة إلى تذكُّر شيء من تاريخ هذا الجمل، لنفهم تداعياته وطبيعة وجوده فيهذا الشعر. ان الشعر القديم كله يحفل بهذا الوجود، ويجعله عنوانًا للتخلُّص من الأطلال القديمة. وآية ذلك أن الشاعر القديم خصَّص صورة طويلة مركَّبة لهذا الجمل، احتفل فيها بوصف خُلُقه وخِلْقَته. وأضاف إلى هذا الوصف عناصر كثيرة تبيِّن طبيعة هذا الجمل، منها حمار الوحش، ومنها الثور الوحشيّ، ومنها الظليم أو ذكر النعامة. وقد أخذ من كل عنصر من هذه العناصر شيئًا رفيعًا أضافه إلى جمله، وجعل الوصف النهائي لهذا الجمل مركَّبًا من كل تلك العناصر[11].

والخلاصة في ذلك أن هذا الجمل هو روح الشاعر وحياته، هو صراعه الدائم مع مطالب النمو والفهم في الحياة، وهو وسيلته إلى تحقيق وجوده. وقد يقول قائل: ولكن الشاعر القديم احتفل بالناقة لا الجمل، والناقة غير الجمل. الناقة أُم عظيمة انتهت إليها حاجات الخصب والرعاية. اما الجمل فقد كان رمزًا للضعف، حتى إن بعضهم عاب على الشاعر وصف ناقته بصفات الجمل (المذكَّر) في الكلمة المشهورة: “استنوق الجمل”[12].

هذا صحيح. لكننا يجب أن نتذكَّر أيضًا أننا – في حياتنا المعاصرة – لم نعد نفرِّق بين الناقة (الأنثى) والجمل (المذكَّر). فكلاهما في تصوُّرنا المعاصر بمعنى واحد، بعد أن باعدت المدنيَّة بيننا وبين الجمل والناقة، وحياتيهما في الصحراء. واللغة لا تأبى علينا ذلك ولا ترفضه. وأقرب الأمثلة لذلك أننا نتحدث عن الأولاد قاصدين المذكر والأنثى، دون تفريق. ولذلك، فجملنا المعاصر يجمع بين صفات الأنثى وصفات الذكر. فهو وإن كان يشير إلى الضعف المركب في ذكور الجمال، فهو أيضًا يشير إلى قوة (الطبيعة) المركَّبة في خِلْقة الناقة. ولا ننسى في ذلك أن الظليم (ذكر النعام) كان جزءًا أساسيًّا من التصوُّر القديم في تكوين هذه القوة الطبيعية. ومن ثم فجملنا المعاصر يجعل من نفسه ضدين متوازيين، يلبيان حاجات الضعف، كما يلبي حاجات القوة. ومعنى ذلك أنه يشير بوضوح إلى أنه يستغني عن (العالم)، كما يشير إلى تفرُّده.

وليس هذا بعيدًا عن دلالات الجمل، وشعره في هذه القصائد. فالشاعر – كما ذكرت أول هذه الكلمة – يبنى تصوُّره للعالم على أساس العودة إلى نقطة الصفر؛ نقطة الخلاء التي يطل منها على العالم قبل خلقه، ليصبح بذلك قادرًا على إعادة ترتيب مكوناته وصناعته من جديد:

“أَنَا الجَمَلُ الضَّلِيل

خَرَجتُ مِن قَبِيلَتِي إِلَى قَبِيلَتِي، انسَلَلتُ مِن ظِلِّي إِلَى أُرجُوحَتِي يُطَوِّحُهَا الهَواءُ أَينَمَا يَشَاءُ، قَابِضٌ عَلَيهَا بِقَبضَةٍ حَدِيدٍ، وَحِيدًا، وَاحِدًا، أَحَدًا، كَوَردَةِ البَازَلتِ فِي مَفرِقِ الأَرضِ، عَالِيًا فِي القَاعِ، مَشدُودٌ إِلَى غَامِضٍ رَمَادِيٍّ يَقُولُ لِي: مُصطَفَايَ أَنتَ مُرِيدِي، فَالزَمِ خُطَايَ صَامِتًا جَرِيئَا”

(جمل، ص 129 130)

ولابد هنا أن نلتفت إلى الوصف الذي وصف الجمل به نفسه، أو وصفته به الذات الشاعرة؛ فهو فيما يقول: “الجمل الضلّيل”. وهو الوصف الذي يردُّنا مباشرة إلى إمام الشعراء الأول، ويجعل من سيرته عنصرًا أساسيًّا في هذا الوصف. لقد كان امرؤ القيس – فيما يقول الشرَّاح – صاحب لهو وخمر، لكنه أيضًا صاحب فرادة في الشعر. وهو ما جعله رمزًا لكل شعر صافٍ. وتقول السيرة أيضًا: إن هذا الشاعر خرج من دياره طالبًا معونة الملوك ليسترد عرش أبيه، ولكن مَن قصدهم خانوه وكانوا سببًا في موته[13].

وأيًّا تكن حقيقة هذه الأقوال، فإن صاحبها يشير إلى موقف الانسلاخ من أعراض الحياة والبحث عن رؤية البصيرة، بدلًا من رؤية أعراض البصر. ولعلَّه لذلك سُمِّي الضلِّيل، بعد أن جمع في حياته بين الجد والتهتُّك؛ الإخلاص للذَّة والإخلاص للثأر.

وهذا يعنى أن الجمل – أو الضلِّيل – يحمل في نفسه قدرتي الهدم والبناء؛ومن ثم، يحق له أن يكون رمزًا للصبر وللقدرة على التحمُّل، كما هو رمز للقدرة على تجاوز الأعراض والزيف. والغريب في ذلك أن الجمل – في هذا التصوُّر – بما أن له سلفًا قديمًا في الشعر، يصبح رمزًا للتضحية بسبب اقترانه بصاحبه الضلِّيل، ذلك الذي قدمه من قبل قربانًا للهوه ولإرضاء عنيزة وصاحباتها[14]. كما يصبح رمزًا للعودة إلى الأصل الأول. فهو إذن رمز للقوة الأولى؛ للمركز الذي نبعت منه كل الجمال وكل النوق، إذا لزم الأمر:

“وَكُنتُ أَطفُو مُضِيئَا

فَتَطفُرَ السِّهَامُ مِن وَرَائِي عَاوِيَةً، فَأَطفُو إِلَى نَهرٍ أُمُومِيٍّ يَمُدُّ اليَدَين لِي، لاَ الخَرَائِطُ تَعرِفُه وَلاَ بَحرُ الرِّمَالِ، هَا هُنَا أَغرِسُ أَوتَادِي وَحُلمِي، أَسقِيهَا فِي المَسَاءِ بِمَاءِ البُكَاءِ، فَأَصحُو عَلَى وَاحَةٍ مُبَاحَةٍ لِلتَّائِهِينَ، لاَ سَرَابَ، أَقطُفُهَا يَانِعَةً أَلِيفَةً مِن جُوعٍ، لأَنثُرَهَا عَلَى السَّائِرِين”(جمل، ص 130)

ولابد أن نلحظ هنا اقتران هذه القوَّة بالأمومة. وهذا يعيدنا إلى ما ذكرته من قبل؛ إذ الأم هي الخيط الواصل بين كل التحولات التي مرَّت بها الذات الشاعرة. فهي المنبع الذي يعيد التوازن إلى الصراع الدائم بين الذكورة والأنوثة. والشاعر، أو الذات الشاعرة، يصرِّح مرارًا وتكرارًا أنه متعلِّق بهذه الأم، وأنها بالنسبة له الملجأ حين تشتد الويلات، والنور حين تحل الظلمة. ومن ثم، فلابد أن نتذكر هنا الأصل الأنثوي في هذا الجمل، و لا بد أن نتذكر الناقة الأم بقدرتها على بعث الخصوبة وحماية الحياة.

وهذ الخصوبة وحماية الحياة تلفتنا إلى مواضع أخرى في الديوان، أو بالأحرى تجليات أخرى للأمومة، ولتلك التيمات التي يجعلها الشاعر مرتكزًا لبناء عالمه في الديوان. وهي تجليات ظهرت من القصيدة الأولى أيضًا، واقترنت في حضورها بالجمل كذلك:

“أقُولُ إن انهَارَت السَّمَاءُ (لاَبُدَّ لَهَا مِن أعمِدَةٍ خَفِيَّة)، فَسَتَهوِي عَلَى النَّخِيلِ والأشجَار، وَتَظَلُّ مُعَلَّقَةً فِي مُتَنَاوَلِ أيدِينَا، لاَ تَسقُطُ فَوقَنَا.

وَقتَهَا، يُمكِنُنِي أن أُطعِمَهَا وأسقِيَهَا وَألعَبَ مَعَهَا. يمكِنُنِي أن أقُولَ لَهَا اهبِطِي قَلِيلًا، دُونَ سُقُوط. وقتَهَا، سَأدعُو الجَمَلَ المُجَنَّحَ وَالعَصَافِيرَ وَالشَّمسَ السَّودَاءَ، نَلعَبُ وَنُغَنِّي حَتَّى مَطلَعِ الأحلاَم.

مَرأةٌ بَيضَاءُ تَلعَبُ بِي، وَشَمسٌ سَودَاءُ صَغِيرَة.

الأُولَى لَهَا ثَديٌ مِن طَحِين، وَبَطنٌ مِن عَجِين. تضُمُّنِي، فَأنَامَ وَيَصحُو جُوعِي. والثَّانِيَةُ تُشِعُّ فِي النَّهَارِ ضَوءًا أسوَدَ لاَمِعًا، صَقِيلًا، انزَلَقتُ عَلَيه ذَاتَ غَسَقٍ، فَانكَسَرَت ذِرَاعِي. “(منيا القمح، ص 15 16)

ولنلحظ هنا أن خيال الطفولة وحَّد بين السماء والأرض، وجعل الانهيار وسيلة لإعادة البناء، بل وجعل هذه العودة سبيلًا لإعادة التعرُّف على المكونات الأولى لتاريخنا البعيد. وهي المكونات التي تحتفل بعناصر ثلاثة: الجمل والشمس السوداء والمرأة البيضاء. اما العصافير فهي عنصر طبيعي يظهر ويختفي، ضروري لكنه لا يُلح على وجوده في هذه المنظومة الثلاثية للخصب وحماية الحياة. اما المرأة البيضاء، فهى الأم التي نبع منها كل شيء.

وهي، كما قال في موضع سابق: “وَأمِّي اختِصَارُ سَبعَةِ آلافِ سَنَةٍ مِن أوبِئَةٍ وَطَوَاعِينَ وَمَجَاعَاتٍ وَفَاتِحِين. حقُولٌ مِن عَفَارِيتَ لَيلِيَّةٍ تُحَاذِي الذَّاكِرَةَ، وَبَيتٌ مِن رِيحٍ وَشَمسٍ. جمَلٌ وقَصَبٌ يَتَهَادَى، يَقُولُ لِي: هيتُ لَك. ويَقُولُ: لَستُ سَفِينَةً. ويَبكِي فِي حضنِي. ” (منيا القمح، ص 13). وهي أيضًا مصدر الغذاء والأمن والدعة: “ثَديٌ مِن طَحِين، وَبَطنٌ مِن عَجِين. تضُمُّنِي، فَأنَامَ وَيَصحُو جُوعِي“. اما الشمس السوداء، فهي المرأة المطلَقة، خيال الرجل في صباه ومراهقته وشبابه إلى كهولته. ولذلك، تصبح هذه المرأة في مواضع لاحقة “شفيقة، وبولاقية، وغريبة”. او بكلمة ثانية، تصبح هذه المرأة المطلَقة شهرزاد المشتهاة في أحوال مختلفة؛ يأوي إليها الرجل ليتخلص من توتره وليلتصق بحقيقته. وشهرزاد في ذلك تعطيه دون مقابل، وتقوده في عمائه إلى نور البصيرة المطلقة:

“وَالأُنثَى تَبدَأُ – اليَومَ – أُنُوثَتَهَا مِن دَمٍ، تَلُوبُ تَلُوبُ حَولِي، أينَ فَرَّت الكَلِمَاتُ؟ صَوتُ الصَّمتِ يَقطُرُ فِي يَدَينَا، إذَن؟ مَا الَّذِي نَفعَلُه بِهَذَا الصَّبَاحِ؟ أينَ الجُرحُ؟ لَم يَكُن خِنجَرًا، وَكَانَ البَابَ مَفتُوحًا بَلِيلًا، فَانزَلَقتُ، سَاحَةٌ مِن بخُورٍ وَابتِهَالاَتٍ، نَدًى طَفِيفٌ، مَوجَةٌ تَصعَدُ بِي فَأهبِطَ مُوغِلًا، آهَةٌ غَامِضَةٌ، مَن يُوصِدُ البَابَ خَلفِي؟ كَأنَّهُ النِّسيَانُ، أو هُوَ الأبَدُ المُرَاوِغُ، فَوقَهَا أطفُو، وَفِيهَا أغُوصُ، أينَ القَشَّةُ، لاَ أُرِيدُهَا، كَأنَّهَا انتِظَارِيَ دَهرًا مِن ظَلاَمٍ، أو كَأنَّنِي صَحوُهَا مِن غِيبُوبَةٍ مُزمِنَةٍ، جَرَّةٌ فخَّارٌ تَكسِرُهَا القَطرَةُ الأُولَى شَظَايَا وَأعضَاءَ، أُلَملِمُهَا بَضَّةً أُنثَى، وَكَانَ البَابُ مَنسِيًّا خَجُولًا، تَسَوَّلَنِي مِنَ الزَّمَنِ البَخِيلِ، بَكَى، فَمِلتُ، دَخَلتُ، هَل مِن غَيبُوبَةٍ أشهَى؟ مَا كَانَ خِنجَرًا، لَكِنَّهُ دَمٌ عَلَى الصَّبَاح

مَرأةٌ بَرَاح.

تَفتَحُ بِي وَقتَهَا، وَاشتِعَالَ الزَّعفَرَان.

تَقُولُ: خُذ دَمِي الهَبَاء.

وَاعطِنِي قَطرَةَ مَاء.

أُنثَى انتَظَرتُ أنُوثَتِي دَهرًا منَ الرَّملِ المُعَادِي.

فَاهطِل كَمَا تَبغِي عَلَى عَطَشِي

تَمرًا أو يَاسَمِينَا.

وَتُوغِلُنِي، فَأُوغِلُ طَلقَةً مِن أُقحُوَان. “(بولاقيَّة، ص 87، 88)

وقد يكون من اللافت هنا أن حضور المرأة بوجهيها: الأمومة والأنوثة المطلقة، يغيب معه حضور الرجل. فلا يظهر منه إلا صورة باهتة للأب في أول الديوان، مقرونًا بحضور الغرباء:

أبٌ مَارِدٌ وَسِكِّينٌ وَأعوَادٌ وَشَمسٌ أُمُومِيَّة. اجلِسُ عَلَى سَطحِ العَالَم. اتَلَقَّفُ مَا تَرمِيه لِي الأُبُوَّة. وكُلُّ رَميَةٍ رَحِيقٌ مُسكِرٌ وَدَهشَةٌ مُرتَجَلَة.

تَحتِي: البُوصُ وَالحَطَبُ، وَالعَصَافِيرُ المُرَفرِفَةُ فِي أحلاَمِهَا. تحتِي: الغُرَبَاءُ المَجهُولُون، وَغُرَفٌ لاَ تُرِيدُ المَجِيء. تحتِي: اهتِزَازَاتُ الصَّاعِدِين” (منيا القمح، ص 14)

ثم يختفى الأب، أو يكاد من الديوان، باستثناء إشارة دالة في قصيدة1967، حيث يعيد تمثيل المشاهد التي غلبت على الساحة الاجتماعية في ذلك الزمن بحدثه الفاجع:

“هَل نَفَدَت الطَّائِرَاتُ، أم؟ مِذيَاعٌ يَختَصِرُ العَالَمَ، وَالمِسَاحَةُ المُتَاحَةُ حَصِيرَة.

الصَّوتُ – فِي المِذيَاعِ – يَتَهَدَّلُ، يَتَنَحَّى.

مَن الَّذِي مَات؟

لِلأشيَاءِ نُكهَتُهَا الحَامِضَة.

وَالقَلبُ هَشِيمٌ، لاَ يَشتَعِل.

لاَ طَعمَ لِلقَيلُولَة. انسَلُّ أم أنزَلِق؟

لِمَ لاَ؟

هَل رَبٌّ، أم أب؟

لَم يَكُن – إذَن – إلَّا حَلٌّ وَاحِدٌ: أن يُغلِقَ القفلَ كَمَا كَان”(1967، ص 46)

وهذا يعنى أن حضور الأب في هذا الديوان قرين المنافسة الطبيعية بين الرجال في هذا العالم؛ فهو يؤدي وظائف محددة، تبدأ وتنتهي عند هدهدة الطفولة الأولى في بيئاتنا المختلفة. ثم ينسحب حضوره حين تنمو الذات، ويصبح لها حضورها المستقل عن هذا الحضور الأبويِّ الأول؛ خاصة أن حضور الأب في ذلك يختص نفسه بالحصول على كل متع شهرزاد المتاحة. وهو ما يجعل إحساس الحب المتولِّد في نفس الطفل مقرونًا بالخوف والمهابة والغيرة من هذه الإثرة الأبوية للذات:

“مَارِدٌ أسوَدُ نَحِيل (هَل كَانَت لَه عَينَان؟ )، يَنسَلُّ إلَى البَيتِ المُجَاوِرِ فِي المَرأةِ البَيضَاء؛ كُلَّ لَيلَةٍ يَنسَلُّ إلَينَا غِنَاءٌ مُثِيرٌ، وَتَنفَجِرُ الصَّرخَاتُ، كُلَّ لَيلَة.

آهِ يَا شَمسِيَ السَّودَاء. هَل يَشوِيهَا قَبلَ أن يَأكُلَهَا، أم يَأكُلُهَا نَيِّئَة؟ عِندَمَا تُشرِقُ فِي الصَّبَاح، سَتَقُولُ لِي كُلَّ شَيء.

ثَديُهَا يَتَفَجَّرُ بِالأسئِلَةِ اليَائِسَة. لاَ أبحَثُ عَن جَوَاب.

إلَى حُقُولِ الذُّرَة.

إلَى نجُومِ السَّمَاء.

إلَى الزِّيرِ المَبلُول.

لاَ أكثَر.

أحصِنَةٌ سَودَاءُ وَبَيضَاءُ وَحَمرَاءُ تُحَمحِم، تَمُدُّ أعنَاقَهَا لِي.

مِن أينَ جَاءَت؟ إلَى أين؟

انتَظِرِينِي، أيَّتُهَا الأحصِنَةُ، إلَى أن أكبُر.

غَابَةٌ مِن مَخَاوِفَ غَامِضَة. شمسٌ سَودَاءُ تَتبَعنِي خَفِيفَة. ظِلِّي أبيَض، وَالغُرَبَاءُ غُرَبَاء”(منيا القمح، ص 16، 17)

ونتيجة هذا، فإن ما يبقى في الذاكرة من حضور الأب هو ذكوريَّته المتوحدة، ورغبة الرجل في تأكيد حضوره الخاص. وإن يكن حضور الأب الأول يترك آثاره في تكوين الجمل المتوحِّد، الجمل الذي يبحث عن حضوره في آثار الزمن:

“شَهقَةَ الجُنُون

أَرتَقِيهَا – إِلَى انتِصَافِهَا – بِقَفزَةٍ وَاحِدَةٍ (كَيفَ انسَرَبَ المَلَلُ النَّملِيُّ إِلَيَّ؟ )، أَصعَدُ أَم أَهبِطُ؟ مَن يَأتِينِي – الآنَ – بِنَومِي مِن مَكمَنِهِ السِّرِّيِّ؟ المَاءُ، فَأَينَ المَاءُ؟ وَأَينَ الطِّفلَةُ، كَيفَ انفَلَتَت مِنِّي؟ وَضَفِيرَتُهَا رَفرَفَةٌ غَائِرَةٌ فِي القَلبِ، فَمَن يَأتِينِي – الآنَ – بِحِفنَةِ نَومٍ بَيضَاء

أَنَا الجَمَلُ الرَّملِيُّ، سَيِّدُ الهَبَاء.

لاَ أَمَامَ لِي، وَلاَ وَرَائِي وَرَاء.

سَيِّدٌ لِلعَرَاء. ” (جمل، ص 134)

فاطمة المقدَّسـة:

وليس حضور المرأة في هذا التصوُّر مجرد مقابلة بين رجل وامرأة، فما ينبغي أن نلتفت له أن هذا الحضور اقترن بلون من القداسة؛ دلت عليه تجليات هذا الحضور؛ بدايةً من السبعة آلاف عام التي ينسبها الشاعر لأمه؛ أي بدايةً من التاريخ الثقافي المتفق عليه في ذاكرتنا الجمعية لحضور الجانب المصري في هذا التصوُّر. ويؤكده الجانب الإسلامى العربى، بالتأكيد على رمز المُسمَّى “فاطمة” في قصيدة مستقلة بذاتها، المرأة / الأم التي يصفها في افتتاح القصيدة بقوله:

“لاَ تَعرِفُ النَّومَ، وَلاَ يَعرِفُهَا السَّهَر.

تَمشِي الفُصُولُ فِي أقدَامِهَا،

وَيُورِقُ الحَجَر.

مَرجُ زَعفَرَانٍ فِي امرَأةٍ،

وَامرَأةٌ مِن الصَّحوِ الجَمِيلِ المُنهَمِر” (فاطمة، ص 121)

وينبغى هنا أن نعطى لفاطمة حقها، لنتبيَّن وجه القداسة في حضورها، وحضور المرأة بوجه عام. صحيح أن فاطمة الاسم قد لا تكون أكثر من تسمية حقيقية للأم، والتصريح بها لون من الوفاء للأم الأولى في حياة الذات الشاعرة (هناك أم ثانية، سماها الشاعر: الشمس السوداء، كما مر). لكن الاسم – في ذاته، وفي ضوء التاريخ الثقافي الذي تحمله هذه الذات (ونحمله معها بالتأكيد) – أكثر الأسماء شهرة في الشعر القديم، الشعر الذي يعود إليه الجمل؛ فلا ننسى الأب الأول الذي ذكرها في شعره، حين قال:

أفاطم مهلًا بعض هذا التدلُّلِ.. وإن كُنتِ قد أزمعتِ صَرمًا فأجمِلي[15]

وقد زادت قداسة الاسم باقترانها بأشهر أسماء آل البيت الذين يجعلون لها من القداسة الشيء المعروف؛ حتى إنهم لا يذكرونها إلا بقولهم “فاطمة الزهراء”، بما في الاسم من معنى الإشراق والتنوير، وبما فيه من بُعد صوفي لايغيب عن العارفين. وقد نلحظ هنا أن فاطمة لم تقترن في تاريخنا الشعري بالغزل، وإن اقترنت بالدلال في قول امرئ القيس السابق، على خلاف الأسماء الأخرى، من قبيل: ليلى وعزَّة، اللواتي أصبحن علامة على الحب وعلى الغزل كليهما.

وهذا يعنى أن الأم – في هذا الشعر – ليست مجرد علامة على الخصوبة، أو رمزًا للحياة فحسب، فهي – في الحقيقة – رمزٌ مقدس لتلك الخصوبة ولحياتها، وإن بدت مجرد أم تحدب على أطفالها وتأخذهم تحت جناحيها. غير أن هذا الحدب وذلك الأخذ يردنا إلى الجمَل في صلته بذكر النعامة وبالناقة، حين تأخذ أطفالها تحت جناحيها، في صلة مباشرة بالذكورة، التي تظهر حينًا بعد حين؛ ملتجئة ومحتمية بالأم المقدسة. وهي في قداستها لا تبعد عن أن تكون شمسًا سوداء، أو شمسًا مقدسة في تصوُّر الأقدمين، حتى أن الشاعر القديم أيضًا حين بحث عن رمز مناسب يُظهر فيه قداسة الممدوح، لم يجد إلا تلك الأم الأولى، في مواجهة الذكورة المتعددة. وذلك قول النابغة الذبياني في مدح النعمان بن المنذر، على ما هو مشهور:

بأنّكَ شمسٌ والملوكُ كواكبٌ …. اذا طلَعَتْ لم يبْدُ منهنّ كوكَبُ[16]

آباء الشعر وآباء الثقافة، توقير الأب وقتله:

ولا تتوقف تجليات الجمَل في هذا الشعر عند هذه العلاقة الخفية بين الذكورة والأنوثة، فهو يلفت النظر إلى أمرين بارزين في هذا الشعر: الأول أن هذا الشعر بنى حياته ووجوده على الأصل الأول الصحيح لكل شعر. وآية ذلك أنه ردنا إلى مصادر متعددة في تاريخنا الثقافي، على ما ذكرت من قبل. والثانيأنه يتصل بهذا التاريخ البعيد اتصاله بالتاريخ القديم، المعروف فيما يمكن أن نسميه آباء الشعر المعاصر. وكل من هذين الأمرين يستحقان وقفة مستقلة.

أما عن بناء هذا الشعر على الأصل الأول الصحيح لكل شعر، فأعنى به ما يمكن أن نسميه التفكير الجمعي الذي يربط أول هذا الشعر بآخره، كما يربطه بتاريخه وبحياته المعاصرة. والشائع الآن أن كثيرًا من الشعراء لا يرون في الشعر إلا لونًا من الألعاب اللغوية والانحرافات التصويرية التي تترجم معاني ساذجة تمر في نفوسهم. اما هذا الشعر، فهو كما ذكرت، يبني حياته على أساس أن آخره يفسِّر أوله، وأن التصوير فيه سلسلة من التكوينات التي يأخذ بعضها برقاب بعض، فنشعر فيها بالكثافة، دون أن نفقد الصلة بمرجعها الخارجي.

وهذا عجيب في شعر ألفنا القول فيه أنه مغلق، وأن مراجعه الدلالية مفقودة. وآية ذلك الأم والجمل والشمس السوداء التي تبيَّنا انسرابها في كل قصائد الديوان. وقد يلفت النظر هنا أن بعض مقاطع القصائد ينحو إلى أن يكون تصويرًا مباشرًا؛ فيه معنى السذاجة، بمعنى حضور المُسمَّى حضورًا تصويريًّا واضحًا لا غرابة فيه. ومنه وصفه اللمبة الجاز التي يقول فيها:

نَسقِيهَا الجَازَ فِي الظَّلاَم، تَصبِحُ قَمَرًا سَاطِعًا يُعَرِّي الأركَانَ النَّائِمَة. قمَرٌ مَنزِلِيٌّ يُرَاوِدُ النَّومَ، لاَ يَنَام. “(منية شبين، ص 32)

غير أن هذا الوصف – أو هذه الصور الكلية – تأتي في سياق بناء مشاهد أوسع، على نحو ما جاءت هذه الصورة؛ فقد كانت جزءًا من تصوير حركة عامة للمجتمع في ظرف بعينه. وهي دالة في موضعها على ما أراد الشاعر. ولا أحسب أن بديلها المحتمل، كما لو أشار إليها بلفظ جامع، يمكن أن يقوم بما أدته من تصوير حركة الفكر والإحساس في مشهد بصري واضح لجزء من حياة الناس. وأعني بذلك الدلالة على طبيعة الوضع الاجتماعى وارتباطه بطبقة اجتماعية بعينها.

ولو أن التحليل الذي نحن بصدده نحا إلى تبني مقولات الطبقة ونحوها من مقولات التحليل الاجتماعي – في مقاربات الماركسية المعروفة – لقلنا إن مثل هذا الوصف يجسِّد فداحة الوضع الاجتماعي في الزمن الماضي. لكنني لا أحسب الفداحة شغلت بال الشاعر في وصفه ذاك، وإنما الصدق بمعناه الفني؛ أي تعرية الواقعة التاريخية من ظلال الدلالة المحتملة؛ أو بالتعبير القديم، تعرية الواقعة التاريخية من أدوات التحسين (في مقابل التقبيح) التي توهم بالرضا والسعادة عن تلك الواقعة الموصوفة. وبالتالي، تُفهم الدلالة على وجهها، أو لا يفهمها مترصِّد على غير وجهها.

وفي المقابل، فإن مقاطع أخرى، أو أكثر المقاطع في الحقيقة، والتكوين الغالب في صياغة قصائد الديوان، تنحو إلى كثافة تصويرية ظاهرة، حتى إن القارئ يلهث وراء فك شفراتها المتلاحقة. وما يُخفِّف من حدة هذه الملاحقة أن المقطع كله يلتف حول بؤرة مركزية للدلالة، ينوشها من كل جانب حتى يكشف عنها غطاءها الاجتماعي المحتمل.

وربما لذلك يتدخل الشاعر بصوته البارز، وبوعيه الآنيِّ، في صورة تعليقات استفهامية، ترتفع بحدة الوصف إلى درجة إبراز التناقض الدلالي الكامن في الموصوف. او بعبارة ثانية، يعمل هذا التدخل على إبراز المواجهة بين بنيتين في الوصف: كامنة، تمثِّل النسق الفاعل في بنية الثقافة، وظاهرة، تمثِّل المقولات الشائعة التي تقرِّرها تلك الأوصاف وتقرُّ بصحتها. وهذا كله ما يمكن أن نراه في مثل هذا المقطع من قصيدته (1977):

“سَيِّدَةُ المَدَائِنِ تُكَشِّرُ عَن أنيَابِهَا، الانكِشَارِيَّةُ يَهرُبُونَ إلَى الجُحُورِ، دُخَانٌ يُسَقِّفُ الفَضَاءَ، وَجَسَدٌ شَاسِعٌ يَنتَفِضُ، حَارَاتٌ تَخلَعُ جَلاَبِيبَهَا المُرَتَّقَةَ، تَخرُجُ عَارِيَةً، مَا الَّذِي يَبقَى؟ هَل نَصنَعُ مِنَ الأوهَامِ المُورِقَةِ رَغِيفًا مُورِقًا، أيُّهَا القَاتِلُون؟ هَاتُوا المَنجَنِيقَ وَالمَقَالِيعَ وَكُرَاتِ النَّفطِ المُشتَعِلَةَ، أيُّهَا الزُّجَاجُ المُلَوَّنُ الَّذِي يَشُدُّ الحَجَرَ مِن القَبضَةِ المُشرَعَةِ، أيَّتُهَا النِّفَايَاتُ الفَاتِنَةُ الَّتِي تُرَاوِدُ الحَرِيقَ، لَيسَ الرَّغِيفُ قَمَرًا، بَل كُرَةً مِن لَهَب، وَطَنٌ مِن ضِبَاعٍ، أم قُنبُلَةٌ مَوقُوتَة؟ بُرجُوَازِيَّةٌ بِيرُوقرَاطِيَّةٌ أم بُونَابَرتِيَّةٌ أم طُفَيلِيَّة؟ ثَعَالِبُ مِن وَرَقٍ، وَالمَلهَى يَرتَجِلُ رَقصَةَ الحَرِيقِ، تُرَابٌ يَحتَسِي الوِيسكِي، فَيَتَرَنَّحَ، يَرمِي وَرقَةَ التُّوتِ، لِمَن الوَطَن؟ ألفُ مِئذَنَةٍ تَصُمُّ آذانَهَا، ذِئَابٌ تَنهَشُ الأطفَالَ، بِالطُّوبِ وَالكِبرِيتِ تَرتَقِي سَيِّدَةُ المَدَائِنِ عَرشَهَا عَلَى تُرَابٍ، وَالحَرِيقُ إجَابَةٌ بِلاَ سُؤَالٍ، أيتَامٌ عَلَى مَأدُبَةِ اللِّئَامِ، فَليَنفَجِرإذَنكُلُّ شَيء، وَأبُو الهَولِ يَحرُسُ الصَّمتَ وَالفُرجَةَ الأبَدِيَّةَ، أيُّهَا المَمَالِيكُ، لَكُم مذبَحَةٌ قَادِمَةٌ بَعدَ حِينٍ، لَنَا الشَّوَارِعُ وَالمَيَادِينُ الَّتِي تَرتَوِي دَمَنَا، وَكَانَ عَرشُهَا عَلَى نِيلٍ، وَتَاجُهَا مِن قَصَبٍ وَسُنبُلاَتٍ، وَكَانَت الأرضُ خَرِبَةً أطلاَلًا، وَعَلَى وَجهِ الغَمرِ ظُلمَةٌ وَأعمِدَةُ نَارٍ

 (1977، ص 94، 95)

والعنوان هنا ذو دلالة. فالحدث المُضمَّن في تسمية القصيدة (1977) يفسِّر كثيرًا من الإشارات التي يبني عليها المقطع إحالاته، بدايةً من “سيدة المدائن التي تكشِّر عن أنيابها” وما يتلو ذلك من وصف يشير إلى حالة الثورة في أعقاب أحداث 1977 في القاهرة وغيرها من مدن مصر. ومرةً اخرى، لو أن هذا التحليل يتبنى مقولات التحليل الماركسي، لقلنا إن قوله في ختام المقطع “بَعدَ حِينٍ، لَنَا الشَّوَارِعُ وَالمَيَادِينُ الَّتِي تَرتَوِي دَمَنَا” هو نوع من التبشير بصعود طبقة البوليتاريا / العمال، وانتصار لثورة الطبقة العاملة، طبقة الفقراء في هذه المدينة وفي كل المدن.

ومثل هذا الوصف في ذاته يشير إلى طبيعة البنية الشعرية في هذا الديوان. فهي تتجاوز ظرفها الزمني والمكاني، وتصلح لأن تكون وصفًا لكل الأحداث المشابهة، حينًا بعد حين. او بعبارة أخرى، فإن الطاقة الإنسانية في هذه القصائد تجعلها قادرة على تجاوز كل الأعراض الحياتية، لتصبح وصفًا للإنسانية ذاتها.

وهذا ما يجعل هذه المقاطع / القصائد، وعلى الرغم من كثافتها، مكشوفة ولا تحتاج إلى تأويل؛ كما يجعلها حادة في إبراز الأزمة الإنسانية التي تنتقل من المقاطع إلى نفس قارئها، خاصة مع إغرائها المتوالى لذلك القارئ برفع الصوت في قراءتها، ليتجاوب مع طاقتها الإنشادية الكامنة، في شبه طقس صوفي، يستحضر صوت المنشد / الشاعر، وهو يتلو أوراده الشعرية على كامل صفحة الخليقة.

ومن ثم، فلابد أن يلفت نظرنا – داخل هذه الأوراد الشعرية، وفيمحتوى الوصف المباشر لأعراض البشر – إشارته إلى الرغيف المورق والرغيف القمر. كما يلفت أنظارنا إشارته إلى الإنكشارية، والقنبلة الموقوتة، والبرجوازية والبيروقراطية والطفيلية. وكلها عناصر تشي بحالة الثورة التي عاشها المجتمع في ذلك الوقت جرَّاء معاهدة السلام، وما جرَّته من حالة (الانفتاح الاقتصادي) التي خلقت طبقة الطفيليين في المجتمع. وأخيرًا يجب أن يلفت أنظارنا عبارته “وَعَلَى وَجهِ الغَمرِ ظُلمَةٌ وَأعمِدَةُ نَارٍ” بطابعها التوراتي الذي يعني نقطة العماء الأولى، في إشارة إلى حركة المجتمع الذي كان بصدد استعادة زمام السيطرة من يد السلطة الحاكمة، هادمًا أطلاله التي ما تلبث أن تعود للظهور، حينًا بعد حين.

وهذه كلها من علامات وعناصر التفكير الجمعي الذي يعيد لحياة العناصر الأولى فاعليتها، ويكشف عما فيها من فاعلية تنسرب في حياة الناس وحياة المجتمع، فترتفع فوق العنصر الفردي لرؤية الذات الشاعرة، وتربطها إنسانيًّا بما يكون قبلها، وما يكون بعدها. ولذلك فإن من علامات التفكير الجمعي البارزة أيضًا في هذا الشعر أنه يبني حياته على تصوُّر مركزي للذات الشاعرة، بوصفها ملكًا تتحرك في محيط مملكتها الخاصة. وهو التصوُّر الذي وضع الشاعر بذرته في المقطع الأول من القصيدة الأولى، مفتتحًا بها الديوان كله، فهو ملك، وهذا الشعر مملكته الخاصة:

لِي أن أقبِضَ قَبضَةً مِن طِينِ المُوَافِقِ 16 نُوفمبِر 1951، وَأنفُخَ فِيهَا مِن رُوحِي المُرَفرِفَةِ عَلَى شَفَا العَرَاء، فَتَستَوِي عَرشًا وَمَلَكُوتًا مِن ذَاكِرَةٍ يَطفُو عَلَى مَاء (صَولَجَانٌ، وَحَاشِيَةٌ، وَرَعَايَا غَابِرُون. اينَ الجَوَارِي وَالمَحظِيَّات؟ وَإذ يَنعَقِدُ الدِّيوَانُ فِي الإيوَانِ، أنفَجِرُ فِيهم: لِمَن المُلكُ اليَوم؟ فَيَخِرُّون).

(منيا القمح، ص 13)

وفكرة الملك، أو مفهوم التملُّك يشير بوضوح إلى موقف الذات الشاعرة من هذا العالم، فهو يرفعها فوق أعراضه وحوادثه الطبيعية، ويجعله متحكِّمًا في تفاعلاتها، ينفي منها ما يشاء، ويثبت منها ما يريد:

“لاَ قُضَاةَ لِي، أَيُّهَا السَّادَةُ، لاَ.

 أَنَا القَاضِي وَالجَلَّاد.

وَأَنتُم شَهَادَتِي وَاتِّهَامِي. ” (مملكة، ص 118)

والعجيب أن موقف التملُّك هذا لا يجعل الذات الشاعرة تأخذ موقفًا ضديًّا من العالم؛ فهي في نهاية لأمر تشعر بالتعاطف نحوه، كما لوكان عنصر الأمومة فيها يتغلَّب على نوازع النفور والإثرة، فتجعل من نفسها فداءً لهذا العالم ومخلصةً له من نوازع الشر؛ حتى وإن يكن هذا الفداء على حساب راحتها وأمنها:

“عَلَى الرَّصِيفِ أَدُقُّ أَوتَادِي، وَأَدعُو عَوَامِلَ التَّعرِيَة:

هَا كُم جَسَدِي، هَا كُم أَرَقِي.

وَالأَيَّامُ القَادِمَةُ أَعضَائِي وَغُصُونِي، تَنبُتُ فِي نَومِي.

أَمَّا لَيلَتِي الفَائِتَةُ، فَرَمَيتُهَا إِلَى الكِلاَب.

إِلَى الكِلاَب. ” (مملكة، ص 117)

*

ولا غضاضة ولا عسر في تفسير عبارات المقاطع السابقة على أساس تأكيدها لانفراد الذات الشاعرة بعالمها. وهي في هذا العالم تبحث عن حضورها الحقيقي، حضور الحطَّاب في غابة من الأعراض:

أرَقٌ مِن وَرَقٍ يَجِيءُ لِي بِالوُعُولِ وَالأيَائِلِ وَالأرَانِبِ البَرِّيَّة. انَا حَطَّابُ الغَابَاتِ المَنسِيَّة. لم تَعرِف الخَرَائِطُ وَجهِي، وَلاَ بَلطَتِي. فاذكُرُونِي بَعدَ ألفِ عَامٍ مِن خَشَب. قيلُولَةٌ قَلِيلَةٌ لاَ تَقِلُّ عَن مئةِ يَومٍ تَقرِضُ فِيهَا الكَائِنَاتُ اللَّيلِيَّةُ أشجَارِي، تُثَنِّي بِثِمَارِي، لأصحُو عَارِيًا (لاَ عَورَةَ فِيَّ) كَالصَّبَاح، عَلَى كُلِّ الجِهَات.

أنَا سَيِّدُ الغَابَات”. (متلا، ص 78)

وهذا الحطَّاب في الغابات المنسية يبحث عن الجذور التي تربطنا، وينفي عنها الخبث والزيف. وهذا هو اتصال هذا الشعر بتاريخنا القديم والمعاصر. وآية هذا الارتباط واضحةٌ في الإشارات المتكررة لهذا التاريخ، بدايةً من الجمل المقترن بالصحراء وبالخيمة البدوية، وانتهاءً بالآباء المعاصرين للثقافة العربية، سواء منهم الشعراء، أو المماليك الذين عُدُّوا – في هذا التاريخ – آخر مظاهر التخلف القديم في حياتنا العربية، وأحد أهم الأسباب في تخلُّفنا المعاصر.

ويلفت النظر في ذلك أن الإشارة إلى المماليك تقترن أيضًا بتصوُّر الذات الشاعرة عن نفسها وعن العالم، أي بوصفها ملكًا في مملكة. غير أن هذا الملك المتحكم في مصائر الخلق تحته، لا يعرف وجهته الحقيقية. ومن ثم يظل كسيزيف الإغريق مُعلَّقًا في الزمن، لا ينتمي إلى الماضي، ولا يجد نفسه في الحاضر. وهو ما يعبر عنه دال “السراب” في عنوان قصيدته:

“لِمَاذَا تَنَازَلتُ عَنِ العَرشِ، وَأَسلَمتُ القَلعَةَ دُونَ مَعرَكَةٍ وَخُطبَةٍ لِلتَّبرِير؟

أَيَّتُهَا الخِيَانَةُ، أَنتِ تَاجِيَ الذَّهَبِي.

أَيَّتُهَا الرَّحمَةُ، أَنتِ قَاتِلَتِي، وَغَرِيمِيَ المُترَعُ بِالغِل.

أَيُّهَا الوَقتُ: هَل تَتَّسِعُ لِي؟ ” (سراب، ص 136، 137)

فإذا كان الزمن هو أساس الحركة التي تنطلق منها الذات، وهو زمن مُعلَّق في نقطة عماء، فإن اتصال هذا الزمن بالأرض لا يجد له موطئ قدم صالح لتحديد زوايا الحركة؛ فكل ما هو متاح لها هو العماء أيضًا، أو ما تسميه الذات “البياض” الذي يشير إلى سكون العالم بعد خلاء جوانبه من كل أثر للحياة:

“أَرضٌ مُستَعَارَةٌ، وَوَقتٌ مُرِيب.

تَحتَ سَمَاءٍ أُخرَى، أَمشِي فِي مَدِينَةٍ بَيضَاءَ، وَاللَّيلُ أَبيَض.

تَنزِلُ التِّلاَلَ بَربَرِيَّةٌ، تَقُولُ: أَنَا صَيدُكَ الشَّبَقِيُّ، انتَظَرَتُكَ دَهرًا مِن رُقًى وَطَلاَسِم. قالَت لِيَ السُّلاَلاَتُ وَالوَدَعُ البَحرِي. قالَت لِيَ التِّلاَل. فانظُرنِي تَجِدنِي.

أَنَا الأَبيَضُ أَمشِي فِي بَيَاضِ اللَّيلِ. بربَرِيَّةٌ فِي جُعبَتِي نَائِمَةٌ، وَالمَدِينَةُ كَهَنَةٌ وَقُضبَانٌ بَيضَاء. فإِلَى أَين؟ = سَتَعرِفُنِي فِي الجَامِعِ المَلَكِي: صُنَجٌ وَدُفُوفٌ، رَاقِصَاتٌ وَخِصيَانٌ، حُرَّاسٌ وَقَوَّادُونَ وَسُقَاة. في المُنتَصَفِ، عَارِيَةٌ بَربَرِيَّتِي مِن وَرَقَةِ التُّوتِ، فَادِحَةً تَهطِلُ الرَّقصَ وَالحُمَّى. يتَرَنَّحُونَ إِلَى نُعَاسٍ = رَأَيتَنِي، مَا عَرَفتَنِي. اوَّلِي أَن تُغمِضَ العَينَين كَي تُبصِرَنِي، آخِرِي أَن تَرمِي البَصِيرَةَ كَي تَعرِفَنِي، فَأَعرِفَك. ” (سراب، ص 138، 139)

ولا يبقى من هذه المساحة الكلية للبياض إلا آثار إنسانية للآباء الأوائل، يمارسون فيها سلطة حضورهم الشبحي، بينما تقاوم الذات هذا الحضور، وتؤكد أنها لا ترتبط بأي منحى أيديولوجي، ولا تتحرك إرادتها إلا وفق الحس الإنساني المطلق:

“أَشبَاحُ مُونتِسكيُو وَفُولتِير وَمَاركِس تَجُوسُ فِي الغُرَفِ، تَتَفَقَّدُ الحَيَاةَ اليَومِيَّةَ، وَتُسَجِّلُ الانحِرَافَات: أَهلًا وَسَهلًا، مُجَرَّدُ شَاعِرٍ، يَا سَادَتِي الكِرَام. لاَ مِنَ اليَعَاقِبَةِ وَلاَ الجَبَل. لاَ مِنَ البَلاَشِفَةِ وَلاَ المَنَاشِفَة. برجُوَازِيٌّ بُرُولِيتَارِيٌّ تَوفِيقِيٌّ تَلفِيقِيٌّ تَبرِيرِيٌّ تَقَدُّمِيٌّ عَدَمِيٌّ رَجعِيٌّ لاَ غَير. ” (سراب، ص 140)

فعلى حب الذات الشاعرة لأولئك الآباء جميعًا، وتقديرها لآثارهم ولتأثيرهم في حياتها، إلا أنها تبقى محتفظة بحقها في الاختلاف معهم، فلا هي من اليعاقبة، ولا من البلاشفة. وإنما هي شاعر، مطلق في حركته وحريَّته. وثأره كما يقول مع الزمن (مرة أخرى مع الزمن / التاريخ)، وهو ما يعبر عنه في المقطع اللاحق:

أَنتَظِرُ كِسرَةَ شَمسٍ وَقِطعَةَ قَمَرٍ تَحتَ المَطَرِ، لاَ غَير.

يَقضُمُنِي الوَقتُ قَضمَةً قَضمَةً، فِي غَيبُوبَتِي، وَيَرتَشِفُ دَمِي.

كَأَنَّنِي صَيدُهُ الحَلاَل.

مَن انتَزَعَ مِنِّي ترسِي وَسِنَانِي؟

يَقُولُ: ثَأرِيَ أَنتَ، وَلِيمَتِي المَسمُومَة. كلُّ قَضمَةٍ هَزِيمَة. كلُّ رِشفَةٍ طَعنَةٌ كَلِيمَة.

وَأَنتَ – لِي – جَرِيمَة. (سراب، ص 140)

ولذلك يختم صراعه هذا بقصيدته الكاشفة عن وجه هذا الصراع “لماذا“، جاعلًا من عنوانها دليلًا على مقصدها، ومفتتحًا مقاطعها بالسؤال الحدِّي في هذا الصراع:

لِمَاذَا تُدمِنُنِي المُفتَرَقَات؟

كُلُّ الطُّرُقَاتِ مَفتُوحَةٌ عَلَيَّ، لِي،

وَظَهرِي إلَى كُلِّ الطُّرُقَات.

شُمُوسٌ كَثِيرَةٌ تَختَبِئُ فِي جَسَدِي،

وَطُيُورٌ زَرقَاءُ لاَ تُهَاجِرُنِي.

تُكَلِّمُنِي، وَتُغَنِّي لِي.

أنَامُ فِي غِنَائِهَا، وَلاَ تَنَام. (لماذا، ص 151)

والعجيب، أنه في اللحظة التي تصل فيها الذات الشاعرة إلى مفترق طرقها، كما تقول، فإنها تعود إلى ملتجئها الدائم: “الأم“. وهو اللجوء الذي يضع الإجابة واضحة أمام هذه الذات، ويقودها إلى الخلاص؛ إن يكن ثمة خلاص:

آه، يَا أُمِّي.

مُترَعٌ بِالرُّعبِ وَالرَّمَاد.

أمشِي عَلَى هَوَاءٍ مَرِحًا، فَخُورَا.

مَن يُشبِهُني؟

سَأعرِفُبَعدَ هَاوِيَةٍكَيفَ أختَرِعُ نَفسِي، وَأكتَشِفُ ضَلاَلاَتٍ مُلَوَّنَةً تَلِيقُ بِي. سأقُولُ لِنَفسِي: مَا فَاتَ مَات. اقُولُ لِلنِّسيَانِ: كُن، فَيَكُون.

وَأمشِيعَلَى بُكَاءٍمُتَوَّجًا بِالحِدَاد.

أيَّتُهَا التَّوَارِيخُ، اخرُجِي مِنِّي قَلِيلًا، لأتَّسِعَ لِي قَلِيلاَ.

ضَيِّقٌ كَثُقبِ إبرَةٍ عَلَى نَفسِي. لاَ أنفُذُ مِنِّي.

مَحشُورٌ فِيَّ بِلاَ ثُغرَةٍ طَيِّبَةٍ تَرأفُ بِي (مَا الَّذِي يَنتَظِرُنِي خَارِجِي؟ أهوَ جَدِيرٌ بِي؟ ).

(لماذا، ص 154)

والخلاص الذي تقترحه هذه الذات يكمن في إعادة اختراع النفس، لا مجرد اختراع التاريخ. اما التواريخ المعتادة فينبغي لها أن تخرج من الذات، لتفرغ الذاكرة من أوهامها التاريخية، ولتبقى هذه الذات وحيدة في مملكتها، تشرف على “خراب العالم”، وتتأمَّل في صورته قبل الخلق، وقبل وجود الوقت.

ثم مـاذا بعد؟

إن الصورة النهائية التي تجسِّدها لنا هذه المقاطع للذات الشاعرة تدور حول فكرة ومفهوم التملُّك، لكنها الملكية القلقة، المهددة بفعل الزمن. ولذلك فقد يكون من المناسب أن نقف عند بعض المواقف التي تقترحها هذه القصائد، فيما يتعلق بهذه الصورة الخاصة للذات في علاقتها بالزمن.

إذا كانت الذات الشاعرة – من بداية الديوان – وضعت نفسها موضع الملك المسيطر الذي يتصرف في شئون رعاياه كيف يشاء، فإن علينا أن نلاحظ أن هذا الملك، أو هذه الذات، وضعت نفسها في موقف مقابل، هو موقف الحطَّاب الذي يرعى غابات منسية. وربما أمكن لنا تأويل تلك الغابات بالذكريات المحفورة في ذاكرة الملك. ومن ثم، فصرخته المدوية في بداية الديوان حين تساءل: أين الجواري والمحظيات؟ إنما كانت بعثًا لتلك الذكريات.

والحطَّاب – في حقيقة الأمر – ليس رجلًا عاديًّا، بل هو اسثنائي في المجتمع، يجلب للناس مادة وقودهم وحياتهم. فإذا غاب عنهم غابت الحياة. ولذلك فإن علينا أن نوجِّه تأويل الذكريات التي يبعثها هذا الملك لتكون حقيقة الحياة نفسها، الحقيقة العارية، كما يسميها في بعض مواضع الديوان.

وهذا قد يؤدى بنا إلى فهم بعض المواقف الغامضة في هذه القصائد. فالملك في هذه الصورة الغالبة للذات يقترن طيلة الوقت بأمه، كما يقترن بالجمل في صراعه مع الزمن. اما الاقتران بالأم فهو يردنا إلى موقف شهير في التراث الإنساني، نذكر فيه الملك أوديب ومأساته مع أمه. فالملك أوديب – في أصله اليوناني – يفقأ عينيه تكفيرًا عن ذنبه الذي اقترفه تجاه أمه وأبيه (قتل الأب، وتزوج الأم)، الأمر الذي أدى إلى خراب مدينته. ولم يكن من وسيلة لعلاج هذا الأمر سوى أن يهيم على وجهه، ولا يصحبه في رحلة تيهه المختار ذاك في بعض الغابات، سوى ابنته التي تشاركه المأساة والمصير[17].

وإذا تأملنا في منطوق هذه القصائد لوجدنا أن ثمة علاقة بين هذا الموقف وموقف الذات الشاعرة. فهي طيلة الوقت تهيم على وجهها، وترعى – كما تقول – الغابات المنسية. وطيلة الوقت تحارب لنسيان تاريخها / مأساتها الشخصية، وتاريخ مدينتها أيضًا. ومأساتها في ذلك أن الذاكرة لا تموت، ولا تطاوعها في الوصول إلى ما تريد؛ بل إنها تعيش أحداث تلك الذاكرة مرةً بعد مرة، فيعاود تاريخها التجسُّد، مرةً بعد مرة.

من ناحية أخرى، فلقد نلحظ في ذلك أن هذه الذات اختارت من البداية الجمَل ليكون وسيلتها في هذه الرحلة الأخيرة. والجمل – على ما أشرت من قبل – يقترن بحياة الصحراء، وهو وسيلة الشاعر القديم لتجاوز صحرائه ومحنته. ولقد كانت أزمة الشاعر القديم هي الزمن، وكل ما كان يسعى إليه هو التغلب على إحساسه بزمنه وصحرائه.

وإذا ربطنا بين هذا الجمَل وذات التملُّك / الملك في هذه القصائد، وموقف أوديب الذي أشرت إليه، لأمكن لنا أن نرى علاقة واضحة بين الأطراف الثلاثة. الذات الشاعرة تشعر بمأساتها في هذا الوجود. ومأساتها هي الشعور بالوجود ذاته. ومن ثم تسعى للتخلص من هذا الإحساس، لتصل إلى لحظة أولى قبل الوجود، وقبل خلق الناس والأحداث التي تدل على وجود الزمن.

وهذا قد يدعونا إلى أن نفكر أن ثمة نسقًا إنسانيًّا يتحكم في رؤية هذه القصائد. سواء أعدنا بهذا النسق إلى تراث الشاعر العربى القديم، أو عدنا به إلى التراث اليوناني الأقدم. وهذا النسق في جوهره هو الذات الإنسانية نفسها، ومأساتها في الوجود. او بعبارة أخرى، تقول لنا هذه القصائد إن مأساة الإنسان تكمن في ارتباطه بحوادث زمنه، وأن لا خلاص ولا تطهير له من هذا المأزق الإنساني إلا بالارتفاع على تلك الحوادث. وما رحلة الذات الشاعرة، أو سيرتها الشعرية التي روتها لنا في صورة أحداث وتواريخ بارزة، تبدأ من لحظة الميلاد وتستمر إلى لحظة غير محددة في الحاضر، وربما المستقبل – ما هذه الرحلة إلا رحلة الإنسان نفسه، أكان قديمًا أو جديدًا. ومأزقه – في هذه الرحلة – يكمن في وعيه؛ فكلما ارتفعت حدة إحساسه بما يدور حوله، وكلما ارتفعت درجة رؤيته الصافية ببصيرته لحقيقة ما يدور، شعر بفداحة مأزقه الإنساني.

ولهذا، فقد نرى في تركيب هذه القصائد وترتيبها الزمنى ملمحًا طريفًا، يربطها بدراما السينما البصرية. فلو لحظنا أن المقطع الأول من القصيدة الأولى – على ما أشرت – يمثِّل مقطعًا افتتاحيًّا، يستحضر أجواء الليالي وسطوة شهريار الملك، تبدأ بعده الذكريات في التتالي من اللحظة الأولى؛ لحظة الميلاد، واقتران الطفل بثدي أمه، إلى نهاية القصة، أو نهاية الرحلة المخفورة بالتفاصيل الكاملة، ومعها السؤال الختامي الذي تمثله القصيدة الأخيرة، وهو بمعنى: ثم ماذا بعد؟ إذا لحظنا ذلك فإن لنا أن نتصوَّر أن المقطع الأول المذكور والقصيدة الختامية هما في حقيقتيهما قوسان كبيران، تفتح ما بينهما الذاكرة عين بصيرتها ووعيها، لتستحضر كل أحداث حاضرها.

وهذا يعنى أيضًا أن الديوان يستحضر نسقًا بصريًّا آخر، يرتفع بالوعى إلى درجة من الحدة تجعله يرى لحظات الزمن: الماضي والحاضر والمستقبل، كلها دفعة واحدة، وبطريقة متوازية ومتداخلة أحيانًا، وإن بدا السرد الشعري يعرضها مرتبة ترتيبًا منطقيا، يبدأ من الماضي إلى اللحظة الحاضرة.

وهذا يفسِّر – بطريقةٍ ما – استحضار روح الصحراء في كثير من مواقف التصوير في الديوان، بأدواتها ومسمياتها. فالصحراء هي العنوان الكبير للزمن المطلق، الزمن الذي لا يتميز فيه ماض من مستقبل. وكل ما فيها لحظة حاضرة، تمر بالنفس الإنسانية، فتتفاعل معها كيفما اتفق، وبحسب ما يتوفر لها من أدوات الحياة في لحظتها تلك. وهذا في مقابل استحضار روح المدينة، التي بدت في القصائد المتأخرة من الديوان خاصةً، هرمة وعشوائية، وتخلو من روح الحياة، على الرغم من احتفالها بالصخب المتوالي، ووقوعها تحت وطأة مرور أحدث الحياة في لحظات متعاقبة، نسميها ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا.

ويبقى من ذلك كله أن حركة الذات الشاعرة بين النقيضين (الصحراء والمدينة) في رحلتها تلك، هي حركة الوعي الذي يتحرك مدفوعًا بروح المغامرة في جانب، وروح “الرحَّالة” المستكشف، في الجانب الآخر. ومعنى الاستكشاف أساسي في هذه المغامرة، على ما ألمحت في أول هذه الكلمة. ولذلك، تبقى روح الاستكشاف والمغامرة هي الصوت الأخير الذي يبقى من هذه الرحلة، رحلة القارئ، ورحلة الذات الشاعرة في كلمتها الختامية، التي تختم بها الديوان، وهي تصرخ صرختها الأخيرة، كأنما تستحضر صوت الصارخ في البريَّة أيضًا:

أنَا مُفتَرَقُ الأوقَات.

لاَ وَقتَ لِي.

صَخرَةٌ فِي هَزِيعِ الفُصُول.

تَخزِنُ الرِّيَاحَ وَالشَّهَوَاتِ الغَامِضَة.

كَصَرخَةٍ صَامِتَةٍ فِي مَفرِقِ الذُّهُول.

صَخرَةٌ صَارِخَةٌ عَلَى صَمتِ الأُفُول.

فَلِمَاذَا تَضِيقُ العِبَارَةُ وَالوَقت.

لِمَاذَا يَضِيقُ عَنِّي الجَسَد؟

حَقلٌ خَصِيبٌ لاشتِجَارِ الشَّهَوَاتِ النَّافِرَة.

أرضٌ تُنبِتُ الرَّغَبَاتِ الجَائِرَة.

سَمَاءٌ مِن طُيُورِ الأرَق.

جَنَاحٌ بِلاَ رِيشٍ، وَفَضَاءٌ بِلاَ أجنِحَة.

فَمَن يَطلِقُ – مِن جَسَدِي – الصَّرخَاتِ النَّابِحَة؟ (لماذا، ص 152)

والإجابة الوحيدة التي يتلقاها هذا الصوت الفادح هى الصمت، لكنه الصمت الذي يعني السكون ورفرفة الروح على عماء أخير، يشهد خراب العالم، ليبدأ من جديد اختراع الأحداث والتواريخ، ولتبدأ معه رحلة الحياة مرةً أخرى، وربما مأساة أخرى للكائن الذي سوف يحل محل الإنسان في هذا العالم:

لاَ وَقتَ لِي. كصُدفَةٍ تَجرِي عَلَى قَضِيبَينِ حَدِيدٍ لاَ يلتَقِيَان. موعِدُنَا الحَاقَّةُ القَادِمَةُ (كَامِنَةٌ تَحتَ سَرِيرِ السَّهوِ، سَاهِيَةً أو مَيِّتَة)، وَذِرَاعَايَ جَنَاحَان مَنشُورَانِ مِن غَرَابَةٍ زَاهِيَةٍ، مُعَلَّقَان عَلَى فَضَاءٍ غَائِبٍ وَرِيحٍ نَائِمَة. كم صُدفَةً سَأحتَاجُ كَي أُشعِلَ أحطَابَ المَسَافَةِ الغَائِمَة؟ مَن يُوقِفُ الأُرجُوحَةَ المُرِيحَةَ تَحتَ ظِلِّي سَاعَةً أو دَهرَا؟ شَهقَةً أو حجَرَا؟ فَأُعِيدَ تَرتِيبَ التَّوَارِيخِ فِي جَسَدِي، وَأغفُو أبِدًا فِي الهَدِيل

سَيِّدَ الوَقتَ القَتِيل. (لماذا، ص 155)

……………………

المصادر والمراجع

1- ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط الرابعة، دار المعارف، بدون.

2- رفعت سلام: إلى النهار الماضي (شعر)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1998.

3 – سليمان العطار: “شهرزاد امرأة الليالي”، فصول، مج 12، ع الرابع، شتاء 1994.

4 – شكري عياد: المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب والغربيين، ط مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2016.

5 – صلاح فاروق العايدي: تحولات القصيدة العربية في النصف الثانى من القرن العشرين، كتابات نقدية 168، الهيئة العامة لقصور الثقافة 2007.

6 – شخصية شهرزاد في الرواية العربية، كتابات الجمعية المصرية للدراسات السردية، ع الحادى عشر (يناير فبراير مارس) 2014، ط الأولى، دار الوفاء للنشر.

7 – عبدالرحمن محمد القعود: الإبهام في شعر الحداثة: العوامل والمظاهر وآليات التأويل، عالم المعرفة 279، الكويت، مارس 2002.

8 – عبدالقادر القط: الاتجاه الوجداني في الشعر العربى المعاصر، مكتبة الشباب، القاهرة 1988.

9 – غالي شكري: النهضة والسقوط في الفكر المصرى الحديث، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1992.

10- ابن قتيبة: الشعر والشعراء، ج الأول، تحقيق أحمد محمد شاكر، ط الذخائر، الهيئة العامة لقصور الثقافة 2017.

11- قدامة بن جعفر: نقد الشعر، ط الأولى، مطبعة الجوائب، قسطنطينية 1302 هـ.

12- لويس عوض: نصوص النقد اليوناني، ط مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2016.

13- محمد أبو الأنوار: ظاهرة الغموض في التجربة الشعرية في العصر الحديث، مؤسسة يمانى الثقافية الخيرية جائزة الشاعر محمد حسن فقي، الدورة الثالثة، الحلقة الدراسية الثانية، 57 /5 /1997.

14- محمد عبدالمطلب: شعراء السبعينيات وفوضاهم الخلاقة، مكتبة الأسرة 2009.

 15 – محمد فكري الجزار: لسانيات الاختلاف، كتابات نقدية 43، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سبتمبر 1995.

16- مصطفى ناصف: قراءة ثانية لشعرنا القديم، دار الأندلس، بيروت، بدون.

17- ديوان النابغة الذبياني، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط الثانية، دار المعارف، بدون.

………..

[1]رفعت سلام: إلى النهار الماضي (شعر)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1998. ولكنني أعتمد، في الدراسة، على نسخة إلكترونية مصورة pdf من “ديوان رفعت سلام” (الأعمال الكاملة)، الجزء الثاني، الذي يشمل الديوان. وسوف أشير إلى المقاطع المأخوذة بذكر اسم القصيدة ورقم الصفحة أسفل المقطع، على هذا النحو: (منيا القمح، ص 15) مثالًا.

[2]انظر على سبيل المثال محمد عبدالمطلب: شعراء السبعينيات وفوضاهم الخلاقة، مكتبة الأسرة 2009، ص 19، 21، ومحمد فكري الجزار: لسانيات الاختلاف، كتابات نقدية 43، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سبتمبر 1995، ص 161 وما بعدها.

[3]الاستحالة والتناقض في المعاني، وقريب منها إيقاع الممتنع فيها حال وقوعه ويمكن كونه، ومخالفة العرف والإتيان بما ليس في العادة، وأن ينسب إلى الشيء ما ليس له، كلها من عيوب المعاني التي تعود إلى عدم التلاؤم بين طرفي الدلالة (المشبه والمشبه به). وإن يكن الشعر الحديث خرج على هذه القيود التى وضعها العرب، وفقًا لرؤيتهم لطبيعة العلاقة بين اللفظ والمعنى. انظر قدامة بن جعفر: نقد الشعر، ط الأولى، مطبعة الجوائب، قسطنطينية 1302 ه، ص 79 وما بعدها.

[4]يقصد بتراسل الحواس أن ينسب الشاعر إلى حاسة من الحواس (كالسمع مثلًا) ما يتلاءم مع صفات حاسة أخرى (كالبصر، والعكس بالعكس فى الحواس الخمس). ويلحظ أن هذا النوع من تأليف المعاني يعد فرعًا من فروع الاستحالة، والخروج على الإلف اللغوي الذي عابه العرب القدماء على الشعراء، وعدُّوه من قبيح الشعر. انظر عبدالقادر القط: الاتجاه الوجداني فى الشعر العربي المعاصر، مكتبة الشباب، القاهرة 1988، ص 415 وما بعدها.

[5]انظر في ذلك، على سبيل المثال: محمد أبو الأنوار: ظاهرة الغموض في التجربة الشعرية في العصر الحديث، مؤسسة يماني الثقافية الخيرية جائزة الشاعر محمد حسن فقي، الدورة الثالثة، الحلقة الدراسية الثانية، 57 /5 /1997، ص 35 وما بعدها؛ وعبدالرحمن محمد القعود: الإبهام في شعر الحداثة: العوامل والمظاهر وآليات التأويل، عالم المعرفة 279، الكويت، مارس 2002، مواضع مختلفة، ص 5، 8، 13، 24، إلخ.

[6]انظر كتابنا: تحولات القصيدة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، كتابات نقدية 168، الهيئة العامة لقصور الثقافة 2007، ص 54 وما بعدها.

[7]انظر تحولات القصيدة العربية، سابق، ص 143 وما بعدها.

[*]بعد صدور “حجر يطفو على الماء“، صدر “هكذا تكلم الكركدن” (2012)، و”أرعى الشياه على المياه” (2018) [ المحرر ].

[8]انظر شكري عياد: المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب والغربيين، ط مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2016، ص 44 وما بعدها؛ وغالي شكري: النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1992، ص 92 وما بعدها.

[9]انظر، على سبيل المثال، دراستنا: “شخصية شهرزاد في الرواية العربية”، كتابات الجمعية المصرية للدراسات السردية، ع الحادي عشر (يناير/ فبراير/ مارس 2014)، ط الأولي، دار الوفاء للنشر، ص 157 162.

[10]انظر سليمان العطار: “شهرزاد امرأة الليالي”، فصول، مج 12، ع الرابع، شتاء 1994، ص 166 وما بعدها.

 [11]انظر مصطفى ناصف: قراءة ثانية لشعرنا القديم، دار الأندلس، بيروت، بدون، ص 95 وما بعدها.

 [12]ورد في تاج العروس أنالمسيب بن علسمر بمجلس بني قيس بن ثعلبة، فاستنشدوه فأنشدهم، وطرفة بن العبد حاضر، وهو غلام. وعندما وصل إلى قوله: وقد أتناسى الهم عند احتضاره.. بناج عليه الصيعرية مكدم، قال طرفة كلمته المشهورة: استنوق الجمل، ذلك أنالصيعرية من صفات الناقة، فوصف بها الجمل، وهو عيب لا يجوز فى موضعه.

[13] انظر ابن قتيبة: الشعر والشعراء، ج الأول، تحقيق أحمد محمد شاكر، ط الذخائر، الهيئة العامة لقصور الثقافة 2017، ص 105 وما بعدها.

[14]السابق، ص 107.

[15] وهو بيت امرئ القيس المعروف فى معلقته. انظر ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط الرابعة، دار المعارف، بدون، ص 12.

[16]ديوان النابغة الذبياني، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط الثانية، دار المعارف، بدون، ص 74.

[17]انظر لويس عوض: نصوص النقد اليوناني، ط مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2016، ص 256: 259.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم