محمد الفخراني
“لكن الروبوت ليست له روح”، قالت له.
ردّ الروبو: “بعض الروبوت كتبوا نصوصًا أدبية، وربما يستطيعون كتابة روايات.. أقصد روايات عظيمة”.
“أعتقد أنها كتابة ستنقصها الروح، الكتابة ليست مُجرَّد كلمات تنتظم مع بعضها بعضًا، ليست حكاية وحَبْكَة وشخصيات، الكاتب يُشَكِّل روحًا، بطريقة ما”، أضافت: “حتى كِتابتنا نحن البشر، بعضها تنقصها الروح، وإنْ لم تكن الروح موجودة فلا شيء يمكن أن يكون موجودًا.. ولا أقصد هنا أن أكون فَظَّة معك”.
“أريد أن أسمعكِ”، قال الروبو.
تابعَتْ: “ما أقصده أن الروبوت يمكنه أن يكتب بمساعدة برامج، وأشياء مثل هذه”، مشَتْ أمام النافذة المستطيلة عَبْرَ نور الشمس: “لكن برأيي، الكتابة تحتاج مساعدة من الروح، الكاتب يعطيها من روحه، وتعطيه هي من روحها، هذا أهم شيء”، توقفَتْ عند حدود النافذة.
أومأ الروبو: “هذا ما أفكر فيه.. الروح”.
تأمَّلَتْه لحظة: “لكن ليس لديّ مشكلة أن يخوض الروبوت تجربة الكتابة كاملة، ولنرى ما يكون، لديَّ فضول لأرى ما يمكن أن يحدث”، سألَتْه: “هل تفكر في كتابة رواية؟”.
“أنا أفكر في الروح”، أجاب الروبو، وابتسم كأنما يفكر في حلمه الشخصي.
***
كتَبَتْ في روايتها 453 كلمة.
نهضَتْ عن مكتبها في غرفتها، خرجَتْ إلى الصالة، الروبو يقف عند رفِّ الكتب وبيده روايتها الأولى يقرأ منها، اتجهَتْ إليه، توقفَتْ أمامه، ابتسمَ لها، نظرَتْ إلى الرواية لحظة، قالت: “بخصوص ما حدث في المطبخ ليلة أمس”، حرَّكَتْ يديها في الهواء: “أقصد وأنت خلفي تمسك يديّ، شعرْتُ بأنفاسك على أذني، وسمعْتُ دقات قلبك”، نظرَتْ في عينيه: “هل هذا حقيقي أم أني أتخيَّل؟ أنت تتنفّس؟ ولديك قلب؟”.
“قلب؟”، قال الروبو كأنما يسأل نفسه: “نعم، بداخلي قلب، لكنه ليس مثل قلبك رغم أنه ينبض بطريقة ما، وأتنفّس؟ نعم، لكن ليس مثلما تتنفّسين”، صمَتَ لحظة: “لكني متأكد أنّ لديكِ شيء ليس لديّ بديل عنه”.
“الروح..”، قالت بنبرة أقرب إلى الهمس.
أومأ الروبو: “لو أنّ لي روحًا لاختلف كل شيء بالنسبة لي”، أضاف: “أنا أشعر بمعنى الأشياء، لكني لا أدرك حقيقتها، جوهرها”، نقلَ عينيه في زوايا البيت: “يمكنني أن أُحدِّثك عن رائحة شيء ما، لكني لا أعرف روح هذه الرائحة، لا أعرف حقيقة حاسة الشمّ، يمكنني أن أعرف طعم التفاح، لكني لا أدرك حقيقة التذوُّق، سأقول لكِ إن حضنكِ دافئ، لكني لا أدرك حقيقة الدفء، أو حقيقة الشعور به”، صمَتَ لحظة: “تعرفين ما أقصد، صحيح؟ الأشياء بالنسبة لي أقرب إلى فكرة، محاكاة، أنا أُدرك هذا عن نفسي، وأعرف السبب.. ليس لي روح”، قال جملته الأخيرة بإيقاع تفصيلي، أضاف بسخرية: “يُمكنكِ أن تعرفي عني أكثر لو قرأتِ الكاتالوج الخاص بي”.
ابتسمَتْ: “ما رأيك أن أعرف منكَ شخصيًّا، بدون كاتالوج تافه؟”.
“لم أُقرِّر إنْ كنتُ سأبقى هنا في بيتك أم لا”، قال متصنِّعًا التمَنُّع.
“حاولْتُ أن أكون لطيفة معك ولو مرة”، مشَتْ بخطوات قوية تجاه الردهة، قال لها باعتذار ضِمْني: “أنتِ لم تختاري لي اسمًا حتى الآن مثلما اتفقنا”.
“لستُ مهتمة”، قالت وهي تشيح بيدها فوق كتفها.
“الروبوت يتحدث ويتصرف بغباء أحيانًا مثل البشر”، قال الروبو بنبرة بها لوم لنفسه ولها، كأنه نادم على تَصَنُّعه.
توقفَتْ عند مَدْخَل الردهة، استدارت إليه، فكَّرَتْ لحظة: “أوكي، سأختار لك اسمًا”، رفعَتْ سبَّابتها: “لكن هذا لا يعني شيئًا”.
“أبدًا، لا يعني أيّ شيء”، رفع يده بروايتها: “وهذه الرواية، ذكيَّة وحسَّاسة”.
“لا تتملَّقني، روبو”.
“سأتابع القراءة، بشريَّة”.
***
خرجَتْ للتمشية اليوميّة.
مبكرة عن موعدها المعتاد، يطلب مزاجها اليوم شمسًا فضيَّة تميل إلى السخونة.
مشَتْ في الشوارع حتى امتلأتْ بالشمس.
عادت إلى البيت بعد 47 دقيقة.
وجدَتْ الروبو جالسًا في زاوية الفوتيه بالصالة، مستغرقًا في قراءة روايتها، توقفَتْ على بُعْد خطوات منه، تأخَّرَ في رفع عينيه ثوانٍ كي يُكمِل جملة يقرؤها، قال لها: “تبقَّتْ لي الصفحة الأخيرة”.
أومأتْ ومشَتْ باتجاه الردهة، ناداها بالاسم الذي اختاره لها: “روح”، توقفت بمكانها ثوانٍ قبل أن تستدير إليه، وجدَتْه يبتسم لها: “هل تُحبّين كيك البرتقال؟”، لم تردّ وهي تفكر في اسمها الذي اختاره، قال: “جهَّزْتُ المقادير في المطبخ، يمكننا أن نُعِدَّ الكيك، بطريقتنا”، “اممم، أوكي، بعد دُشّ سريع”، جاءه ردُّها متأخّرًا ثانيتين أو ثلاث.
عاد للرواية، تأمَّلَتْه “روح” لحظات، قالت ولم تقصد أنْ يسمعها: “منظركَ لطيف وأنت تقرأ”، انتَبَه بعد ثانيتَيْن، التفَتَ إليها وسألها: “قُلتِ شيئًا؟”، تركَتْ مكانها في اللحظة نفسها، لكنه لَمَحَ منها شبح ابتسامة صغيرة.
أنهَىَ الروبو قراءة الرواية، نظر من مكانه عَبْرَ زجاج النافذة المُربَّعة للحظات، عاد إلى الرواية، أعاد قراءة سطورها الأخيرة، أغلقَها، مرَّرَ عينيه ببطء على حروف اسم الكاتبة، ابتسمَ، وضَعَ الرواية على الفوتيه، ربَتَ غلافها، ودخل المطبخ.
وقف خلف مستطيل الرخام، أمامه مكونات كيك البرتقال، بعد دقيقتين ظهرَتْ “روح” في المَدْخَل، شعرها نصف مبلول، ترتدي چاكيت بيچامة نصف كُمّ صفراء، مرسوم فيها آلات موسيقية، وشورت أخضر، قالت: “أنا مستعدة”، قال: “وأنا أحب شعركِ نصف مبلول”، “لستُ مهتمة”، ابتسمَ وتراجعَ خطوتين عن الرخام، أشار بيده إلى الفراغ الذي تركه: “تَفَضَّلي، الكاتبة الأولى في حياتي”، مرَّرَتْ جسدها ووقفَتْ أمامه، يداها إلى جنبَيْها، اقتربَ منها: “سألمسكِ”، “لا أتفاعل مع الروبو”، شعرَتْ بأنفاسه قريبة من شعرها، يداه تَرْكَبَان يديها برفق، تمسكان بهما، ترتفعان جانبًا، ثم إلى الأمام، “سنبدأ..”، غمَسَ أطراف أصابعها في طبق به زيت زيتون، دَهَنَ به قاع صينية متوسطة الحجم، قرَّبَ فمه من أذنها: “كتابتكِ سهلة، حسَّاسة، بها غَرابة مألوفة، وأُلفة غريبة”، التقطَ بيديها حفنات صغيرة من الدقيق، رشَّها في الصينية، “مزيج من كتابة الخيال والواقع، تخلقين عوالمَ جديدة”، وضَعَ في يدها ملعقة وحرَّكَها بسرعة في البيض والسكر، خفَقَهما معًا، وذراعها كله يرتعش مع حركة يده، “اهتمامكِ بكل شيء، لغتكِ سَلِسَة، بسيطة، هشَّة، وقوية، وحرة”، أضاف عصير البرتقال، وقِشْرَه، والزيت، والڤانيليا، خفَقَهم، في الوقت نفسه كان يُضيف الدقيق بالتدريج، يداها تفعلان هذ كله وهما داخل يديه، “لو أنَّ لي روحًا لقُلْتُ إنّ كتابتك تمسُّ الروح، ورغم ذلك، يا للعجب، لمَسَتْ روحي، لا أعرف كيف”، أدارها إليه، صارت في حضنه، أصابعها ملوَّنة بالدقيق وعصير البرتقال، وبها رائحة الڤانيليا، نظر في عينيها، قال: “أنا أُحب كتابتك”.
وضَعَ الكيك داخل الفرن، عاد إليها حيث كانت واقفة ويداها مُعَلَّقتَيْن في الهواء، قال: “الآن، نغسل أيدينا”، أحاط بها من الخلف، أَمسكَ يديها، مشى بها إلى الحوض، تأمَّلَتْ أصابعه وهو يغسل أصابعها واحدًا بعد آخر، ظهرها في صدره، الجانب الأيسر من وجهه يلامس الجانب الأيمن من وجهها، رائحة ڤانيليا، ومزيج من ماء ونور بين الأصفر والبرتقالي يترقرق من أيديهما، هل ضبَطَتْ نفْسَها وهي تتمنَّى أن تستمر هذه اللحظة لأطول وقت ممكن؟ عرفَتْ أنها لن تنسى هذا المشهد، وستكتبه.
جلسا متقابلَيْن حول طاولة الطعام.
قالت: “أعجبني ما قُلتُه عن كتابتي”.
“وأنا أحببتُ ما كتَبْتِه”.
“لكن، كيف يمكنك أن تعرف عن الكتابة، وتتحدث بهذه الطريقة؟ يمكنني أن أُخمِّن، لكن..”، أرادت أن تسمع منه.
ابتسم الروبو: “هذا غريب أيضًا بالنسبة لي، لأن روايتكِ هي أول رواية أقرؤها”.
لمعَتْ عيناها.
قال: “يمكنكِ أن تُخمِّني أنهم في الشركة وضعوا بداخلي قراءات، أو ما يجعلني أتفاعل مع ما أقرؤه، هذا مُتَوقَّع، لكن تظَلُّ روايتك أول رواية أقرؤها بنفسي، بإرادة مني”، صمَتَ لحظة: “ولا أعرف إنْ كنتِ ستصدِّقيني لو قلتُ لكِ إنها لمسَتْني.. لمسَتْ ما يمكن أن يكون روحي.. لا أعرف”.
رأى في عينيها شيئًا مائيًّا لطيفًا.
ابتسم: “هل ستبكين الآن، أو شيء ما؟”.
ابتسَمَتْ، وهزَّتْ كتفيها.
“البكاء لا يليق بكِ، أيتها الفظَّة”، قال الروبو.
ضحكَتْ.
مرَّتْ ثلاث ثوان.
قالت: “يمكنني أن أشكرك لكلامك عن كتابتي، لكن لا أعرف شيئًا أقوله مقابل أن تكون روايتي أول رواية تقرؤها، هذا.. لطيف جدًّا”.
“ولا تنسي أنكِ أول امرأة أتحدث إليها، أقصد أول شخص أتحدث إليه في حوار حقيقي، بيتك أول بيت أدخله، وأنت أول شخص أُعِدُّ له طعامًا”، ابتسمَتْ، تأمَّلَها لحظة، نظر إلى الكيك في الفرن: “وأنتِ أول شخص أصنع له كيك”.
قالت: “صنعناه معًا”.
“هل أتوقَّع أن نصنع معًا أشياء أخرى.. للمرة الأولى؟”، قالها مثل أمنية.
“لا ترفع سقف طموحاتك، روبو”.
“وهل يمكنكِ أن تدخلي حوارًا دون أن تكوني فظَّة”، لم يكن سؤالًا ولا أمنية.
اعتبَرَتْه أمنية، وردّت: “قلتُ لك لا ترفع سقف طموحاتك”.
***
قالت له: “سأعطيكَ جزءًا من روحي”، كانت حاسمة ورومانسيَّة.
ظلَّ صامتًا، يحاول أن يفهم، أو ينتظر أن تشرح له.
“سأعطيكَ جزءًا من روحي، فيكون لديك روح أنت أيضًا، هذا ما تتمناه”.
انتظرَتْ ردَّه.
“روح؟”، تساءلَ معها ومع نفسه.
“نعم، روح، روحي”.
“تعطيني من روحك؟ كيف؟”.
“أستطيع، يمكنني أن أفعل هذا”.
“كيف؟”.
“الكتابة، أستطيع بالكتابة أن أفعل أيّ شيء”.
“ما زِلْتُ لا أفهم، كيف ستفعلين هذا؟”.
“حتى الآن لا أعرف، لكني أعرف أني سأتوصَّل إلى طريقة ما بالكتابة”، ربَتَتْ خَدّه بأطراف أصابعها: “هذا صحيح روبو، سأعطيك جزءًا من روحي”.
التقطَ نفَسَه كأنما تجاوزَ صدمة المفاجأة، مشىَ خطوات بعيدًا عنها، قال: “حتى لو استطعْتِ ذلك، لو توصَّلْتِ لطريقتكِ، ولا أعرف كيف يكون هذا ممكنًا، فأنا لا أوافق”.
“لأنك تخشى أن أموت؟”.
استدار إليها، مشَتْ إليه، توقفَتْ أمامه: “لن أموت، الكتابة لن تؤذيني”.
“كيف تعطينني جزءًا من روحك؟ لا أحد يستطيع أن يتبرَّع بروحه، أو.. أنت مجنونة”.
“أنا أحبك”، قالتها له.
تأمَّل رعشة عينيها: “تقولين أحبك لأول مرة”.
“أحبك، وأعرف أني أستطيع أن أعطيك جزءًا من روحي، أنا أريد أن أفعل هذا”، مرَّرَتْ يدها على جانب وجهه: “أنا أحبك كما أنت، لكنك تتمنَّى روحًا، وأنا أحب أن يكون جزء من روحي بداخلك، معك، سأُحب هذا”.
“أنتِ بداخلي فعلًا بشكل حقيقي.. تذْكُرين الفراشة التي طاردناها معًا وقلتِ إنها روحك، ودخلَتْ صدري، أنا أعتبرها روحك”.
“سأعطيكَ بنفسي جزءًا من روحي.. روحي الحقيقية”.
حرَّكَ رأسه يمينًا ويسارًا: “لن أسمح أن تتعرَّضي للخطر أو..”.
ابتسمَتْ وقالت: “الكتابة ستدلّني على الطريقة، أعرف أنها ستفعل، أنا أثق بها”.
………………………………………
*مقطع من رواية