يستهل الكاتب روايته بجملة بسيطة: “كل شيء يحدث في الحمّام”، وبهذه الجملة نفسها يختتم الرواية. فيما بين هاتين الجملتين سيترك شخصياته على هواها، لتخبرنا عن أحلامها المجهضة، انكساراتها، وهزائمها، فيما تبقى مهمته محصورة في نقلنا من طاولة لأخرى في مقهاه الذي اختاره ليكون هو المكان الأوحد لأحداث روايته. “رجال وصبايا من كل فجّ عميق، اسمه مقهى “لمّة الأحباب”، تقول صاحبته إنها أسمته هكذا براحاً واسعاً وحفاوة بالجميع”. “المقهى في شارع جانبي متفرع من شارع المقاهي، الذي ينتفخ بنحو ستين مقهى آخر“.
يجمع “الطويلة” في روايته نماذج بشرية من كل العالم العربي، مما أغناها وجعلها رواية تتجاوز مكانها الضيق وتعبّر عن الإنسان المقهور في كل مكان وزمان. في مقهاه سنقرأ عن “مجيد” اللبناني الستينيّ الذي ينتظر أن يصبح سياسياً في بلاده، و”نعيمة” الجالسة دوماً على طاولة في منتصف المقهى، تستمع إلى حكايات الجميع لتطرد أو تنسى حكايتها بحكاياتهم، و”كسوف” الذي التصق به هذا الاسم بسبب حادثة طريفة، و”مهدي” الذي يريد أن يلتحق بالمارينز، ويعمل معهم. هناك أيضاً “باربي” الصحفية التي تختار كل يوم شاباً جديداً لتخرج معه، و”شادي” الذي لا نستطيع معرفة إن كان هذا اسمه الحقيقي أم واحداً من أسمائه العديدة التي التصقت به، والمغنية “حبيبة”، و”حلومة” المثلية الجنس التي لا تستطيع تمييزها عن الرجال حين تجلس إلى طاولتهم، و”ألفة” التي ذهبت إلى ألمانيا لكنها لم تحتمل أخلاق الألمان البيضاء، فعادت وفي جعبتها حكاية طويلة متعبة، و”غسان” السوريّ الهارب من بلاده أيام الانقلابات. بين هؤلاء جميعهم تتبختر “درة” صاحبة المقهى، الملكة التي تجلس على طاولتها “كطاووس بأبهى الألوان“.
يحشد الكاتب في روايته شخصيات كثيرة، ويسرد حكايات وجعها بلغة سلسة، بسيطة، راصداً التحولات التي تطرأ عليها، والتي أوصلتها لتصبح من رواد المقهى. هذا المقهى الذي أصبح يحتضن أسرار الجميع. “مقهى سرّه داخله، يطوي غرامه في أعمدته أو أثدائه المزروعة في كل مكان، شواهد حية، أو في سقفه الذي يدفن الحكايات في ثنايا تموجاته، منطو على نفسه، يكاد لحظة ينطق بكل الأسرار”. تلقي الرواية الضوء أيضاً على مأساة الفلسطينيين المقيمين في تونس، من خلال شخصيتي “أبو جعفر” و”أبو شندي”، وهما مناضلان فلسطينيان عتيقان، كافحا وحاربا طوال سنين، لينتهي بهما المطاف كلاجئين مقيمين، بعد أن منعهم الإسرائيليون من العودة كما الباقي إلى “رام الله” بذريعة أن أياديهم ملطخة بدماء الإسرائيليين: “فلسطينيون كأوتاد مخلوعة من أرض حرقت ونفق أصحابها، يعيشون تحت رحمة تجديد الإقامة السنوية لهم ولعائلاتهم، يحصلون عليها بعد أن تطلع أرواحهم، بعد أن تكون السنة قد قاربت على الانتهاء“.
تطرح الرواية كل القضايا الكبيرة والمسائل الشائكة، جنباً إلى جنب مع إيروتيكية راقية، تقارب الجسد وتدخل عوالمه دون أن تهبط إلى مستوى الابتذال أو السطحية، فيصبح المقهى مكاناً تصطاد فيه النساء الرجال أو العكس. كل هذا يجري تحت أنظار “درة” صاحبة المقهى التي تعرف أن سر انجذاب الزبائن إلى مقهاها هو تلك الفتيات والنسوة بائعات الحب. يُدخل الراوي القارئ في متاهات سرده، ليصبح شريكاً في صناعتها وجزءاً من عالمها، وذلك حين يوجّه خطابه إليه وكأنه يجالسه على أحد كراسي المقهى مشيراً إلى رواده واحداً واحداً، فينصحه مرة: “قلت لك أبو شندي يحكي حسب مزاجه، لا تنتظر منه شيئاً…”، ويسائله مرة أخرى: “هل رأيت امرأة تسيل الرغبات على جدرانها مثل حبات صغيرة مكتنزة؟”، ويعرّفه بأحد رواد المقهى في مرة ثالثة: “انظر، ها هو قادم… حلمه في المقدمة وهو خلفه، مهدي المسيحي الوحيد المعتمد في المدينة”. جلسة البوح الطويلة مع “وحيد الطويلة” في مقهاه التونسيّ وفي صحبة شخصياته، التي نمت الألفة بينها يوماً بعد يوم حتى أصبحوا وكأنهم عائلة واحدة، سوف تنتهي حين يصل الإحباط واليأس إلى حده الأعلى عند الجميع. هكذا سيعلن فصله الختاميّ، مهنئاً السيد الرئيس بعيد الخريف، ومبشراً بهبوب رياح التغيير.