روايات السير الذاتية.. وتأريخ المرأة الكاتبة للمجتمع

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 70
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ياسمين مجدي

لماذا ننفي الكتابة النسوية عن أنفسنا كأنها تهمة، هل المجتمع لاحقنا إلى هذا الحد، حتى عندما نتحرر منه ونلجأ إلى أفكارنا لنصبح كاتبات، فإننا نجاهد لكي ننفي ذواتنا، أو نعتبر مسمى  “نسوي” هو تصنيف للتقليل.

ربما هشاشة بعض النصوص النسوية هي ما دعمت هذه النظرة. رغم أن عالم المرأة تفصيلي ومختبر لمشاعر إنسانية حقيقية مختلفة.

وهل في المقابل سيوافق الرجل على تصنيف عدد من كتاباته على إنها كتابات ذكورية. اعتراف في مقابل اعتراف، إنها مساومة لتحرير الكتابة من سعي مؤلفيها لإخفاء أنفسهم، أو مقايضة لتخليص عقلنا الباطن من كل ما ترسب فيه حول التصنيفات والمسميات والتحرر منها.

المحاولة البديلة أن نُسقط كل المسميات، ليعلو النص وحده ويعرف طريقه إلى قارئه الذي يحبه، وأظن أن هذا هو رهان المستقبل، الذي تتطور الأفكار فيه وتتداخل وينتج عنها أشكالاً أدبية جديدة سيأتي بها المستقبل ولن تخضع للتصنيف بسهولة.

وكمثال على اندماج الأنواع وذوبان التصنيفات ما حدث منذ التسعينيات باندماج الرواية وأدب السيرة الذاتية في عدد من الأعمال، مثل تجربة مي التلمساني التي تذكر ذلك بوضوح عن روايتيها: ““دنيازاد” و“هليوبوليس” روايات سيرة ذاتية”. 

تحكي مي التلمساني بحس امرأة في روايتها “دنيا زاد”عن امرأة فقدت جنينها وهو في بطنها. وتداعيات ذلك على حالتها النفسية والخواء العميق المحيط.. وهي تجربة تخص مشاعر امرأة عايشت حياة أوشكت على الحضور ثم اختفت، ولم يبقى لها سوي مجموعة أشياء تتخيل مصيرها، فالألعاب والملابس وحتى المكان في السرير فارغ حيث كان على المولود البقاء واللعب.  تستعمل الكاتبة في هذا العمل دفقة مختلطة من الحياة والموت.

هكذا تنقب التلمساني في الماضي قبل أن يمكنها تجاوزه، وهو ما فعلته بوضوح أكثر في روايتها التالية  “هوليوبوليس”والتي نقشت فيها الماضي على لوحة ورقية مشابهة تمامًا للموجودة في الذاكرة، وبحكايتها تشجع القارئ على استدعاء عائلته وبيوته القديمة، بحيث لا يصبح المكان والزمان مجردين، إنما مكون أساسي لشخوص الرحلة ومخزون نعيش عليه: “نمتلك الخرائط ونبتكر مسارات تخصنا، نتوقف عند محطات معروفة ونتجاهل محطات أخرى برزت من باطن الأرض فجأة… معنى تشكيل الخرائط بأقدامنا”.

تنمو الروايتان “دنيازاد” و”هليوبوليس” في كنف العائلة، تلك العائلة المفقودة لدى البطلة في العملين، ففي العمل الأول يموت طفل متوقع وأحد أفراد العائلة القادمين، وفي الرواية الثانية تنتهي العائلة فردًا وراء آخر بسبب مرور الزمن، بحيث يتم فقدهم ثم فقد أشيائهم وممتلكاتهم بتوزيعها: “عاد فراش “شوكت هانم” إلى العزبة، أنهى حياته هناك بعدما اضطر صاحبه الجديد لتغليفه بألواح من الخشب الموسكي محاولاً إخفاء البثور التي ورثها الفراش عن تقيحات جسد الجدة المريضة”. وهذه المحاولة للإمساك بالعائلة واقتناصها وتثبيتها على الورق ربما تكون اعترافًا ضمنيًا بأن الماضي الذي نحاول مقاومته نحبه للغاية ويصعب محاكمته أو الانفصال عنه. 

يظل مسار الأحداث بطيئًا ولا يوجد تشويق لمعرفة القادم في “هليوبوليس” لأن الأحداث مجرد ذكريات للشخوص، وكل المروي عنه قديم ومستقر. ومع ذلك تبدو رواية مثلها مفيدة في المسار النفسي للقارئ فيمد يده ليمسك بفسيفساء الماضي وشخوصه ويدرك تشكيل الجسر بين الماضي والمستقبل، ذلك الجسر الذي يمثله هو نفسه.

تمسك المؤلفة بالتفاصيل الكثيرة على مدار الرواية كمن يسعد بالاحتفاظ بماضيه على الورق لأنه غير  موجود في الواقع. تأخذنا في جولة مع قطع الأثاث وهي تتغير، ألوان الستائر، إطارات الصور المعلقة لأفراد العائلة، الأكواب، الطاولات، ألعاب الأطفال، وأنواع الشغالات المقيمات والجدات والعمات اللاتي يسيطرن على مسار الحياة وحركتها، ثم ينتهي كل شيء، لكنه لا يزول، ذلك لامتلاك النساء قدرات لا يملكها غيرهن: “سنحافظ على إرثنا نحن نساء العائلة سنتحول إلى قطع مرصوصة في صندوق هائل بلا جدران لنصبح ظلالاً للأشياء التي تناوبنا رعايتها وحفظها”

لا تكتفي المؤلفة في “هليوبوليس” برصد الماضي إنما تحاول التغلب والانقلاب عليه وهي محاولة صعبة، وعلى الناحية الأخرى يكون الاستمرار في أسر الماضي محاولة صعبة هي الأخرى، فبطلة الراوية فتاة تصف نفسها أنها عروسة ماريونيت، تتحرك بالخيوط، يربطها ما مضي للغاية، رغم أنها تحاول التمرد عليه في محاولات أخرى، فـ”كل شيء يبدو مثل مرثية مجد قديم ومتواضع رغم ادعاء الرخاء والرفاهية”.

تمتلك النساء بذلك ذاكرة الحياة لدى المؤلفة، لكنها تخشي في صراع خفي عبر الرواية أن تصبح المرأة مجرد صندوق لتلك الحياة، فيفقدن ذواتهن  ويبكين على “موتنا المتوقع”، “ونكرر أنفسنا”. وتبدو هذه هي  مغامرة المرأة في الرواية أن تحمل الحياة بداخلها لكي تسير الحياة، دون أن تفقد نفسها ودون أن تتحول لعروسة ماريونيت كامرأة رواية “هليوبوليس” التي تعيش على أمجاد مصر الجديدة في أيامها السابقة وتسعى في الوقت نفسه إلى تنسيق وربط وقطع بعض الخيوط التي تعلقها كعروسة ماريونيت.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم