“لا تمت قبل أن تحب”.. رواية التفاصيل الإنسانية

لا تمت قبل أن تحب
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. عفاف عبد المعطى

إنها رواية محمد الفخراني الصادرة عن دار العين عام 2022، حيث تبدأ بتصدير أحد شخوص الرواية وهى حورية البحر (التي تعمل في وظيفة أخصائية توحد) أن هناك نوعين من الغرق في هذا العالم ـ الغرق في الحب والغرق في أي شيء، أي أن الرواية تبدأ خطابها الروائي بأن الحب منقذ للجميع من السقوط في هاوية العالم، ويرد علي هذا التصدير تشوكا (أخو حورية البحر) الشخصية الثانية في الرواية بقوله: “العالم لايساوب شيئا بدون الخطأ الإنساني”.

وهكذا ترد الشخصية الثانية على الشخصية الأولى أن التجربة والوقوع في الخطأ هما الدافع للحياة “ولولا دفع الله الناس بعضهم البعض لفسدت الأرض”.

ـ استخدم الكاتب تقنية الراوي العليم في الرواية الذي يدور ويربط بين أبطال الرواية الثلاثة حورية البحر وتشوكا (المصور) الذي يجوب العالم والرومانسي الأهبل الذي يتمني أن يكون عمره 350 عاما علي الأقل الطبيب الجراح. ويحكي كل منهم عن نفسه وعن الآخرين فنحن أمام أربع أصوات في الرواية مما يثري العمل ويتدخل الراوي العليم بين كل فصل وآخر لعمل فاصل للربط في رواية تدور أحداثها في الإسكندرية وأماكن أخري كوزموبوليتان.

أولا تتحدث حورية البحر عن مفتاح شخصيتها بأنها البنت التي تقع في الحب بسهولة وقد أحبت شخصا أنقذها وصديقتها من الغرق من 22 سنة وكان عمرها وقتها 17 عاما، أي أن زمن الحكي وعمرها 39 عاما، تحب حورية هذا الشخص المنقذ وتعيش على أمل أن تلتقي به مع أنها لم تراه ولا تعرف ملامحه لأنها كانت في سكرة الخروج من حالة الغرق وتتساءل “هل يعرفها؟ هل يتذكرها ويتذكر ملامحها؟ المهم أنها أحبته لأن مفتاح شخصيتها أنها تقع في الحب بسهولة وعفوية وتختار الفعل الذي يريح قلبها وتعمل أخصائية توحد تعالج الأطفال المصابين بالتوحد وتخرج للتنزه مع أحدهم “سعد” بغرض العلاج وبالطبع تتعامل بلغتهم وتعيش الحياة مثلهم فترتاد الأماكن وتتظاهر بأنها صماء بكماء وتتسوق في مطعم وتشتري ملابس وزجاجة عطر وكأنها بصخب الحياة تواجه انتظار الموت.

حورية لها علاقة بالمحار والموسيقي وبالبحر وبأطفال التوحد.

يتأخر ظهور الشخصية الثانية (تشوكا أخو حورية) الذي يعمل مصورا حرا لأن أباه كان يعمل مصورا ولديه محل تصوير، هذا المصور الحر تشوكا يجوب العالم ويصور صورا يبيعها في الشارع ويكتب ورقه يعلقها في مكان ظاهر “اترك أي نقود وخذ أي صورة”، فينقل إلينا أول طاقة معرفية في الخطاب الروائي حين يرسل لأخته صورة فتاة النابالم التي التقطها المصور الصحفي نيك اوت جنوب فيتنام أثناء الحرب الفيتنامية لطفله عمرها تسع سنوات تجري هروبا من القنابل عارية  ويورد الكاتب الصورة في الرواية وكأنه يدين هذا الاستعمار الذي ينتهك كل شيء حتي الطفولة. ثم ينقل لنا أهم الصور التي أدانت جرائم الاستعمار ضد البشرية ومنها صورة فتاة النابالم وصورة الطفلة السودانية الجائعة أثناء مجاعة السودان في قرية ايود السودانية التي تزحف للوصول إلى مركز لتوزيع الطعام عارية أيضا وهي تزحف يقف خلفها النسر في وضع الانقضاض عليها كفريسة استعدادا لاقتناصها كذلك يورد صورة ألان كردي الطفل السوري الذي وجدوه غريقا في بحر ايجه لأنه كان مهاجرا غير شرعي مع والديه وغرق الوالدان والمركب والطفل وكأن هذه الصور جميعا إدانة لعهد البربرية والوضاعة الذي نعيشه.

ـ قبل تشوكا ظهر البطل الثاني “الطبيب المنقذ” الذى أنقذ حورية البحر، فيظهر بلا اسم سوي اسم  الرومانسي الأهبل الذي يدل علي مفتاح شخصيته، لا يتذكر سوى البنت التي نقأذها من الغرق وكان عمره 18 عاما وكان عمرها 17 عاما ويدرك أن تلك البنت وهو يحملها علي ظهره حال إنقاذها من الغرق هي أول من جعله يتشبث بالحياة.

يريد الرومانسي أن يعيش في حالة حب دائمة لعلاج الحالة الهستيرية التي تقابله في الحياة. يسير بسيارته إلى المستشفي ويتذكر الحلم الذي يحلم به ويتكرر يوميا تظهر في الحلم فتاة تقود دراجة برتقالية مما دفعه لشراء دراجة يتنزه بها ليلا ـ بعد انتهاء عمله ـ علي البحر والغريب أنه يقابل الفتاة ويراها تعلق يافطة جديدة علي دراجتها يراها وتراه ولايتعرفان.

من مفاتيح شخصية الرومانسي العزف على البيانو الذي علمته إياه الجدة راقية التي أعجبتها أصابعه كعازف وأعلنت قبولها له بقولها “هاتوله حمص وحلاوة”، فالموسيقي هي الفتنة المراوغة التي يحبها ويعشقها الرومانسي.

ـ هنا يتدخل الراوي العليم ليقول لهما معا (وربما للقارئ) أنتما لا تعرفان أنكما تعيشان في مدينة واحدة هي الإسكندرية، ويخاطب حورية وهي تقود دراجتها التي تضع عليها شعارات تغيرها وتبدلها من حين لآخر مثل “عصفور علي الشجرة خير من واحد في اليد” على عكس المثل الشعبي المعروف ومرة تضع شعار “يابخت من له أخت”.

تسير بالدراجة وتشاكس السيارات ومنها سيدة عجوز ترفع إصبعها لها بعلامة النصر وتبادلها عبارات التشجيع ثم تجلس في مطعم يجلس فيه الرومانسي علي بعد أمتار. وتسير الأحداث التي يرويها الراوي العليم  جنبا إلى جنب فيحكي عن حورية وفي ذات اللحظة يحكي ماذا يفعل الرومانسي بالتوازي فحورية تراقب النورس علي البحر والرومانسي يتناول طعامه ثم يكمل الراوي العليم حكايته عن أخ وأخته (حورية وتشوكا) فتشوكا اختار أن يكون مصورا حرا يجوب العالم وفي ذات الوقت تحافظ حورية علي الأستديو، ميراثهما من الأب فتفتحه كل خميس وتنظفه وتجلس أمامه وإذا جاء زبون تقول له “المصور مسافر ” تشاهد طلبة الجامعة يتسكعون أمام الأستديو ليأخذوا صورا سلفي مع الصورة المفضلة في فترينة العرض بالاستديو لأب في منتصف الثلاثين يحمل طفله في الثالثة “الصورة هي حورية وأبيها”  ثم يستطرد الراوي العليم في حب تشوكا لأخته “أنت جعلتني أحب كل أخت”.

ركائز النص

أولا: التصوير الذي يقوم به تشوكا لتصوير السقوط الإنساني في هاوية اللاآدمية.

ثانيا: الموسيقي فحورية والرومانسي يحبان الموسيقي ويحضران حفلا للبيانو مع الساكس معا دون أن يعرف بعضهما بعضا.

حورية تعلمت حب الساكس من أمها التي كانت تعزف الساكس وماتت منتحرة لأسباب غير معلومة لأن اسباب الوفاة كثيرة من بينها وجع الحياة.

ثالثا: أطفال التوحد الذين يجب أن نتعامل معهم كجزء من العالم والحياة دون تنمر أو ازدراء بل بحب وتعاطف وإدماج.

رابعا: الأمراض التي أصبحت تصيبنا وبخاصة الأمراض التي تصيب النساء بسبب وراثي أو بدون سبب معلوم مثل سرطان الثدي، فنساء عائلة حورية عاشقات لاتموت واحدة دون أن تحب، وفي سن الاربعين تصاب بمرض فيتم استئصال أحد ثدييها وتصاب حورية بنفس المرض في عمر الأربعين. 

رابعا: القضايا الفلسفية والنفسية حيث يقول الرومانسي إنه سيعيش 350 عاما ثم يناقش قضايا فلسفية ونفسية مثل أيهما أهم الحب من أول نظرة أم الحب حتي آخر نظرة.

وتحكي كل شخصية عن نفسها فيقول تشوكا إن الصورة أكثر شيء صامت يتكلم ثم يضيف الفضاء الروائي لعالمه الكوزموبوليتاني وأن المدن على البحر علي البحر لا تتشابه أبدا ويميل إلى النسخ القديمة من العواصم التي تميل إلى اختلاف الثقافات ويميل إلى المتجولين فهو المتجول الذي يسير بلا هدف ويرى العالم بعيني سائح محب للعالم إذ ينتصر تشوكا للحرية فيقول بماذا ينضج الإنسان وهو سؤال فلسفي  فيقول إن الخطأ الإنساني ينضج الإنسانـ فالخطأ مثل بدال الدراجة هو الذي يدفع الحياة إلى الامام وهناك من يتخلص منه وهناك من يبقي أسير الخطأ ويعذبه مدي حياته.

وتتكلم حورية البحر عن قضية الانتحار ويتكلم الرومانسي عن أن العالم يتنفس  القصص العابرة مثل نظرة علي رصيف قطار أو علي الجانب الآخر من الشارع أو ابتسامة عابرة  ثم يحكي عن أسلافه البسطاء الذين كانوا بائع قماش متجول ثم الجد بائع عسل أسود ثم الأب بائع الخلول، فكان طفلا فقيرا كان كل حلمه أن يشتري راديو ترانزستور ينام في حضنه ويسمع الموسيقي حتي يغلبه النعاس ويرى أن مهارة الاصابع تضارع المهارة العقلية وكأنه ينحاز للعمل اليدوي، لهذا فالرومانسي يري العالم رجلا أربعينيا مزيجا من متشرد وفنان يهوي العزف علي البيانو ويشترك الرومانسي مع حورية في حب المشي تحت المطر وأكل البطاطا الساخنة وحمص الشام.

يتدخل الراوي العليم ويحكي عنهم جميعا وعن الآخرين ثم ينتقل إلى قانون الصدفة، فقد حكم القدر علي حورية والرومانسي ألا يتعارفا حال مقابلتهما مصادفة ورغم مرورهما  في ذات الأماكن معا في ذات الوقت إذ يمر علي الاستديو ملك والدها قبل ست دقائق من خروجها أو يذهب لنفس المطعم بعد انصرافها حتي تأتي الحتمية التاريخية بأن يعتذر الطبيب الذي كان سيقوم بإجراء عملية استئصال الثدي  لحورية فيقوم الرومانسي بإجراء العملية بعد حوار دار بينهما بصفته الطبيب المعالج حوار متبادل ومنولوج داخلي فتخمن حورية أنه الفتي الذي أنقذها من الغرق ويخمن الرومانسي أنها نفس فتاة الدراجة ثم تأتي طلقة النور التي تنير لنا الرواية بأن البنت التي تقع في الحب بسهولة هي التي تقع في حب العالم وتفاصيله ولأن الإنسان لا يشرب من النهر مرتين فتتغير التفاصيل يوميا، ويستمر الحب ويتطور وقد رأت شريط حياتها في دقيقة الاستفاقة من الغرق ورأت أنها لابد أن تحب قبل أن تموت.

أما الرومانسي فيحب يوميا بأن يحلم بأن ينجب فتاة يسرح لها شعرها يوميا كل صباح، وفي الأخير يقابل تشوكا الروائي الذي يحلم بكتابة رواية لشخصين يحبان بعضهما ولا يلتقيان.

يعود بنا الفخراني إلى الرواية الإنسانية الرحبة، رومانسية القرن الواحد والعشرين وفق كل مقاييس علم الجمال الأدبي التي تحمل زخما من القيم الإنسانية والنبيلة ويتماس مع العالم بمشاكله ليقدم حلا فلسفيا بأن الحب شرط ابتداء وشرط انتهاء، فلابد أن تحب كي تعيش، لابد أن تحب قبل أن تموت، ويكمن الحب في حب تفاصيل الحياة بحلوها ومرها بصورها لضحايا الحروب وأمراض والمتوحدين بعالم نفسي مختلف لكل شخص من شخوص الرواية، فيغوص في العالم النفسي والفلسفي حتي الأفكار السوداء والبيضاء التي لابد أن يواجهها بحلم وهو أنه لابد أن يلتقي بحبيبه وأنه سوف يراه لهذا يختتم الرومانسي الرواية بأنه يحلم بأن ينجب فتاة يسرح لها شعرها يوميا كل صباح.

 

مقالات من نفس القسم