رغوة “ميسون صقر” الفائضة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

شعبان يوسف

هل تستطيع أى مختارات أن تجمِل رحلة المبدع؟، وهل تستطيع هذه المختارات أن تدل عليه بقوة؟، والإجابة: نعم، هذا ما فعلته الشاعرة ميسون صقر فى مختاراتها «رغوة القلب الفائضة»، الصادرة حديثا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وتعتبر هذه المختارات المنتقاة بعناية فائقة احتفال جيد ومبهج برحلة إبداع طويلة وعميقة وفاعلة، منذ ثلاثة عقود تقريبا، أى منذ صدور ديوانها الأول «هكذا أسمى الأشياء» عام 1983 عن مطبوعات إضاءة 77، حتى صدور ديوانها الجديد «جمالى فى الصور» الصادر عن دار العين، هذه الرحلة الإبداعية المتعددة الوجوه والأشكال، يقف الشعر منها بجدارة، إذ أن الشاعرة خاضت أنواعا أخرى من الإبداع مثل الفن التشكيلى وكتابة الرواية والإخراج السينمائى، ولكن تظل التجربة الشعرية عند ميسون صقر هى العمود الفقرى لمجمل تجربتها الإبداعية، ومن خلال الشعر قالت وباحت وعبرت ميسون عن رؤيتها وفلسفتها فى الحياة عموما، ويظل الشعر هو متنها وظلها الدائم الذى نعرفها جيدا منه، يظل هو غرفتها السرية والمعتمة التى تطلق فيها كل أسرارها، وكل ما تبوح به الروح التواقة والعاشقة للحياة بكل تفاصيلها.

تنقسم المختارات إلى ستة أقسام، القسم الأول منها قصائد حرة، والغالب أنها قصائد حديثة، ولم يتضمنها كتاب شعرى، أما الأقسام الخمسة الأخرى فهى مختارات من دواوين «جريان فى مادة الجسد، وتشكيل الأذى، ورجل مجنون لا يحبنى، وأرملة قاطع طريق، وجمالى فى الصور»، والجدير بالذكر أن الشاعرة استثنت دواوين أخرى من إدراجها فى المختارات، واكتفت بما ذكرناه من دواوين، ولكن المختارات بالفعل استطاعت أن تشير بدقة إلى محطات مهمة فى رحلة الشاعرة، وتكشف عن جوهر هذه الرحلة الشعرية بيسر وسلاسة، وتكثف الرؤية وتبسطها فى آن واحد، فالتجربة الشعرية الممتدة عند ميسون صقر لها ارتكازات فنية ولغوية أساسية، فالصورة ماثلة دوما فى القصائد، الصورة الملموسة والحادة والمتشكلة واضحة تماما، وبعد الصورة تأتى اللغة المعبرة والدالة عن مكنون الموقف ومضمونه، والصورة لا تتحرك فى فراغ أو سديم، إنها تتشكل عبر حياة مجربة، وعبر رؤية ملموسة، والشاعرة تقدم نفسها بطرق مختلفة، وعبر حوارات شاخصة دوما بين تقلبات الروح وتموجات الجسد، هذا الجسد المطروح طولا وعرضا وألما وفرحا وخوفا وتوجسا فى قصائد الديوان كافة، هذا الجسد الطبيعى، والذى خلقه الله ليحيا، وتكبله القوانين لدرجة أن يصبح ظلا وتابعا ومقيدا، الشعر يقول ذلك بدرجات مختلفة بين التلميح والتصريح، بين البسط والتكثيف، بين اللغة المركبة والصورة الحادة المحسوسة، فمرة تقول «أخجل من جسدى إذ يتكور، مكونا قبضة ستلتهمنى، وبانفجر لحظة القبض على تفاصيله، ظلى لا يستوعبنى، ولا يفهم جنونى»، ومرة أخرى تقول «أستطيع لأقوم بأى شىء مثلا، أن أفرد يدى فقط بجانب جسدى وأطير، يمكننى إذن ببعض ضئيل من معرفتى بهذا الجسد أن أكون قناصة جيدة» ومرة ثالثة تقول «كنت أحث هذا الجسد أن يحملنى، ويستجيب لتشكل يناسب هذه الروح التى أكونها لأجله لكنه يحول بيننا وبينه» وفى استطراد تكشف «يتبعنى كظل فى العراء، كأننى خساراتى، وأنا خسارة له»، وبالطبع لا تكف الإشارات إلى هذا الجسد الذى تكتنفه الأفراح والآلام والمآتم، هذا الجسد الذى يصير جثمانا أحيانا، ويصبح جثة فى موقع آخر، إنه رمز للحياة التى تتوزع عبر حركاته ومآلاته المختلفة والمتعددة عموما.

وفى بعض ثنايا ومتون القصائد تقدم الشاعرة نفسها فى أشكالها كافة عبر بطاقات شعرية مكثفة ومكتنزة، وتتسم هذه البطاقات الشعرية بجماليات السرد الشعرى، ومن خلال هذه البطاقات الشعرية يبرز الأب والأم والحبيب والأنا الشاخصة فى كل هؤلاء، ففى قصيدة «أبيض وأسود» نقرأ تفصيلا عن هؤلاء جميعا «كنا نتبادل الصور، صورة أمه مقابل صورة أمى، وصورة أبيه مقابل صورة أبى، وصورته إلى صورتى، أمه متشحة برداء بسيط وعلى رأسها.. لم تظهر الصورة سوى الجزء العلوى من الجسد، أما أمى فكانت تجلس معتدلة على كرسى عريض مذهب، يداها على المسندين كما يليق بأميرة، والصورة تظهرها كاملة»، وسيتضح من خلال هذا السرد الشعرى، الذى يلخّص مفردات لحبيبين من عالمين مختلفين تماما، أن الشاعرة تقدم نفسها ببساطة، وتقدم أمها الأميرة، وتبرز أباها الفارس الذى يئتزر سيفا، كل هذا التعقيد المرسل فى صورة بسيطة، ويصبح الحب جامعا، رغم تشتت العالمين، وربما تنافرهما كذلك، وفى قصيدة «الأيان التى تضيع» نلاحظ أن الأب يأتى بشموخ ليحل فى حياة الشاعرة فتتساءل «لماذا أعيش حياتك، أنت مجرد تراب، وأنا لحم يسير على الماضى» وتستطرد الشاعرة فى سرد أسئلة تبدو محض شخصية، لكننا لو مددنا هذه الأسئلة على استقامتها، ستنطبق على حيواتنا جميعا، وفى نهاية القصيدة تقرر وتجيب «أنسج من تجاربك أبا بديلا، وأحبه»، وبعيدا عن المنهج الفرويدى فى تحليل هذه الأفكار، فكل منا يكرر الماضى ويبحث عنه، ويختار منه مناطق مضيئة وناصعة، وربما يشكلها من جديد، حتى يستطيع أن يحبها وينتمى إليها، هى إذن عقيدة الانتماء التى تطاردنا فى صحونا ونومنا وشعرنا وبحثنا الدائم عن ماض ساطع ومضىء. هذه المختارات التى تحتاج إلى قراءة أعمق وأشمل، تضيف إلى الشاعرة ميسون صقر خطوة جديدة فى ميدان المحبة والإبداع والمغامرة والكشف عن مزيد من الجمال المهدر فى هذا العالم.

 

مقالات من نفس القسم