“كليلة ودمنة” درَّة الرمز والمقاومة

كليلة ودمنة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. نعيمة عبد الجواد

تعج الفنون والآداب باستخدام الرموز للتعبير عن أفكار ومعاني عميقة بأسلوب مستتر؛ بغرض إما تلافي الشبهات أو العقاب، أو لتعميق معنى العمل الأدبي أوالفني وإعطاؤه أبعاد متعددة، تختلف حسب وجهة نظر المتلقِّي وثقافته. وبما أن الشعر من أول نماذج الفنون في الحضارة العربية القديمة، صار استخدام الرمز حرفة يفخر بها فحول الشعراء؛ كدليل القدرة على تطويع اللفظ والمعنى. ومع تنامي الفتوحات الإسلامية وفتح الأمصار المختلفة، انطلق الأدب العربي في أفق رائدة جعلته يتفوق حتى على الأمم التي نهل من علومها.

ومن أفضل الحكايات الرمزية التي ظهرت في الحضارة العربية والتي أصبحت علامة بارزة في الأدب العالمي منذ العصور الغابرة وحتى وقتنا الحالي هي كتاب “كليلة ودمنة”. ويعد هذا الكتاب أحد الدرر الخالدة التي تعكس فكر راجح، سواء في المضمون أو في تقنيات السرد. من الصادم معرفة أن هذا الكتاب الموجَّه للأطفال، ويستمتع بحكاياته الكبار، هو عمل أدبي سياسي، يبِّن أسس العدل، ويعرض منهاج أخلاقي راقي يجب أن يتبعه الحاكم مع رعيته؛ لتحقيق الأمان والرخاء.

وكتاب “كليلة ودمنة” هو أحد روائع الكاتب العربي النابغة “عبد الله بن المقفَّع”، الذي أخرجه للعالم العربي خلال أولى حقب العصر العباسي، والتي تسمى بالعصر العباسي الذهبي؛ نظرًا لازدهار حركة العلوم والفنون. وترجم “ابن المقفَّع” هذا الكتاب من أصله الفارسي، وأبدع في ترجمته؛ حيث أعاد صياغة الحكايات بأسلوب أدبي شيِّق ورائع. وكثيرًا ما يُشاع أن “عبد الله بن المقفَّع” ذاته هو من قام بتأليف هذا الكتاب السياسي المغزى، لكنه أراد أن ينفي ذلك عنه بإحالته لأصل أجنبي حتى يفلت من بطش الخليفة “أبي جعفر المنصور” الذي ضاق به لنقده إيّاه.

ويعود ظهور هذا الكتاب إلى عام 200 قبل الميلاد في الهند، حيث ظهر باللغة السنسكريتية تحت اسم “بانتشاتانترا” Panchatantra ، وتعني “خمس رسائل”. وكما ورد في مقدمة الكتاب، تم التأليف من قبل الحكيم الهندي “بَيْدَبا” الذي أهداه للملك “دَبشليم”. وسبب التأليف ترجع لحقبة ما بعد غزو الاسكندر الأكبر للهند. فلقد ولى عليها حاكمًا من جيشه، لكن لم يتقبَّله أهل الهند. ومن ثمَّ، قام بتعيين حاكمًا هنديًا يدعى “دَبشليم”، والذي كان في مستهل فترة حكمه عادلًا، لكنه فيما بعد تحوَّل إلى طاغية. وعلى إثر ذلك، توجَّه له أكبر حكماء الهند، الحكيم “بَيْدَبا” ليوضح له ما ألمّ به من بطش ويسأله أن يؤوب لسابق عدله، إلا أن الملك غضب منه وأودعه بالسجن.

وبعد أن تَفَكَّر الملك فيما أفضى به الحكيم، أخرجه من السجن وطلب منه أن يعيد على سمعه ما حدَّثَه به سابقًا. وبعد اقتناعه، طلب من الحكيم تأليف كتابًا؛ ليكون نبراسًا في العدل. فطلب منه الحكيم أن يمهله حولًا كاملًا. وبعد إنقضاء العام، رجع للملك الحكيم “بَيْدَبا” بكتاب يفهمه العامة والخاصة، ويستظل بحكمته حتى الأطفال. ويحكى أن الملك بسبب الحكم الواردة بالكتاب آب للعدل، وعمَّ المملكة الرخاء بعد أن أمر الملك نشر حكايات الكتاب على العامة وتعليمهم حكمتها. وقيل أن الملك اعتبر الكتاب ثروة قومية، فأخفاه في خزائنه. لكن “آن شيروان” كسرى بلاد الفرس أرسل أحدهم للهند للحصول عليه. فذهب طبيبًا عالمًا بالسنسكريتية، واختلط بالعامة، وعلِم الحكايات، ثم ترجمها إلى الفارسية الفهلوية.

وأصل الكتاب – سواء السنسكريتي أو الفهلوي مفقود منذ القدم- وعلى هذا لجأت شعوب العالم إلى الترجمة العربية المعدَّلة التي ظهرت على يد “ابن المقفَّع”، بل وتم اعتمادها كأصل موثوق فيه.

وكتاب “كليلة ودمنة” هو مجموعة من القصص المتعاقبة المتداخلة مع بعضها البعض، تُروى على لسان الحيوانات، وتحكي عما يدور من صراعات ومفاسد وفتن في مملكة الحيوان للترهيب من عواقبها الوخيمة. والقائم على رواية القصص هو “كليلة” الحكيمة حصيفة البيان و”دمنة” سيئة الحظ التي تحيط بها المُشكلات، وكلاهما من فصيلة “بنات آوَى”، وهي حيوانات من عائلة الكلبيات، تشبه الثعلب، لكنها ذات ساق طويلة. بالإضافة إلى شخصية الأسد الذي يلعب دور الملك، وخادمه (أو بالأحرى وزيره) الثور “شِترِيه”.

ويقع الكتاب في خمسة عشرة بابًا شاملة بابًا أضافه “ابن المقفَّع” ذاته للحكايات الرئيسية وأسماه “الفحص عن أمر دمنة”، بالإضافة إلى أبواب أربعة  أخرى أضافها، ولم تكن بالنسخة الفارسية.

وتقنية السرد في “كليلة ودمنة” هي في حد ذاتها ثورية؛ حيث أنها تقع في قصة إطارية تضمَّ بداخلها العديد من القصص المُضمَّنة. وبوادر السرد الإطاري مستهلها في مقدمة الكتاب؛ حينما تروي شخصية “حسن بن الشاه” قصة غزو الاسكندر الأكبر الهند، ثم تعيين “دَبشليم”. وفيما بعد، تظهر القصة الإطارية في ثلاثة مستويات تتمثل في خطاب الملك “دَبشليم”، وخطاب الفيلسوف “بَيْدَبا”، والتماثل المتكافئ، حينما يتحدث “دَبشليم” مع “بَيْدَبا”، ويلي ذلك رواية حكايات الكتاب بتكنيك القصص المُضمَّنة؛ حيث يضمّ الكتاب 14 حكاية مُضمَّنة كبرى تتفرع منها 32 حكاية مُضمَّنة صغرى، بالإضافة إلى  حكايات جزئية متفرِّعة عن الصغرى، وأخيرًا حكاية فرعية متناسلة من الحكاية الجزئية الصغرى. مع ملاحظة أن الحكاية المضمَّنة لا تلغي دور الحكاية الإطار، والعكس صحيح؛ لأن كلاهما يُكْمِل دور الآخر، وإلا فُقِد المغزى السياسي الإصلاحي الذي صيغت من أجله تلك الحكايات.

ويقِّر الغرب بتأثُّرهم بالرمزية العربية المثمثلة في “كليلة ودمنة” الذي صار علامة في الأدب العالميّ. وفي العصر الحديث، ظهرت روايات عالمية، تنبثق من الفكر السياسي التقدُّمي الواضح في حكايات “كليلة ودمنة”. ومن أشهر الأعمال العالمية السياسية الحديثة المرتكزة على الرمزية التي تجعل العمل يبدو وكأنه قصص موجهة للأطفال، ولكنه في حقيقة الأمر عملًا ينتقد النظام السياسي في البلاد – هي رواية “مغامرات أليس في بلاد العجائب” Alice’s Adventures in Wonderland (1865) للكاتب الإنجليزي “لويس كارول” Lewis Carroll والتي ينتقد فيها حكم “الملكة فكتوريا” بطريقة غير مباشرة تجنبه الإطاحة به. وأما رواية “مزرعة الحيوانات” The Animal Farm (1945) للكاتب الإنجليزي جورج أوريل George Orwell فهي تنقد بقسوة النظام الشيوعي في روسيا من خلال قصة تتمحور حول حيوانات في مزرعة.

يعج الأدب العربي في عصوره الذهبية بنماذج مشرقة نهل منها العالم أجمع، فلقد تأثَّر به العالم نظرًا لاستحسانهم حرفيته. فلا عيب أو ضير في التأثَّر بتجارب الآخرين. لكن، كلَّ العيب هو حصر الذات الابداعية في التقليد دون ضخ دماء التجديد في المحتوى الأدبي والعلمي.

مقالات من نفس القسم