منذ أربعين عامًا أعاد مايكل هولرويد إحياء سيرة أغسطس جون، في سيرة ذاتية ساخرة متعاطفة من جزئين، كثيرًا ما رويت الأحداث فيها من وجهة نظر آيدا، وذلك بفضل حيوية وغزارة مراسلاتها، وقد تشارك هولريد مع حفيدتها في نشر تلك الرسائل، مقدمين لمحة خاطفة عن عصر البوهيمية المفقود الذي يثير تساؤلات استفزازية حول ما يعنيه العيش بحرية.
بدأ الزوجان جون حياتهما بسعادة، صنعا الكثيرمن أطباق الحساء، واقتنيا قطًا وببغاء علمه أغسطس كيف يسبّ بلغة الغجر، حملت آيدا، واستمتعت بحياكة ملابس للطفل القادم، بينما كان زوجها يحتفل بسر الخلق! لكنه علم أنه لن يستمر طويلاً في ممارسة تلك الأعمال، وخشى من ” خطورة استمرار الشعور بالراحة”، بعدها أقامت آيدا في الريف، وكان أغسطس يقضي معظم وقته في لندن، وهناك التقى فتاة جميلة لها ابتسامة موناليزا، صحيح أنه اجتذب دورليا ماكنيل إلى فراشه لكن ذلك لم يكن كافيًا، كان يريدها أن تعيش معه أيضًا.
كانت جوين جون ” شقيقة أغسطس” واقعة هي الأخرى في حب دورليا، فأخذتها معها في رحلة عبر القارة، لتتمشيا من تولوز إلى روما، لكن صبر آيدا نفد بسبب تقلبات مزاج زوجها، فكتبت إلى دورليا رسالة تطلب إليها فيها أن تأتي وتعيش معهما ” أتوق إلى أن تأتي إلى هنا” لم تكن آيدا ترغب فقط في إرضاء زوجها، بل كانت تشعر بسخف الحياة المنزلية التقليدية، ورأت أن قدوم دورليا سيضفي على حياتهم إثارة محببة، آملة أن يتمكنوا من العيش معًا وبحرية، لكن كما هو الحال الآن كان الاقتراح صعبًا.
على الرغم من أنها أخبرت أحد الأصدقاء ” بعيدًا عن فتور حبنا لبعضنا البعض” فإن الوضع الجديد قد زاده، واعترفت لصديق آخر أنها فقدت” كل إحساس بالتعقل أو الصواب” كما أنها عانت من الغيرة. لم يكن الزواج التقليدي مناسبًا لآيدا، ولا الوضع الجديد كذلك.
لم يبد أن شيئًا مما حدث كان تحقيقًا مبكرًا لحرية المرأة، عندما ركضن هي وصديقاتها، من بينهن جوين جون، عاريات تمامًا إلى البحر، أو عندما عاشت كفنانة في باريس لمدة عام ” أعتقد أن العيش مع صديقة، والحصول على عشيقات سيكون أمرًا مثاليًا”، بعد عامين من زواجها كتبت تتساءل بأسى” أيا كان ما نتمرن عليه، أيجب علينا أن نقولب أنفسنا ونطوعها لتناسب كل الأشياء في حياتنا؟”.
يبدو أن أسعد أوقات آيدا كانت اللحظة التي تخلت فيها عن الزواج ووجدت رفقة مستقرة مع صديقة، وبشكل غير متوقع كانت الصديقة التي أثبتت فكرتها هي دورليا، حدثت الأزمة في العلاقة الثلاثية عندما حملت دورليا، وقرر أغسطس أن الحل المناسب لثلاثتهم أن ينتقلوا للعيش في كارافان/ حافلة، في درتمور، وفور أن وصلا إلى هناك وضعت دورليا طفلها، ثم لحقت بهما آيدا بعد بضعة أيام. طبعًا هذا لا يصف حياة مستقرة مسترخية، لكنها كانت حياة ناجحة بشكل مدهش! تحولت آيدا إلى حب حياة البساطة في الهواء الطلق: تغسل ملابس أطفالها في جدول الماء، وتشاهدهم يكبرون في الهواء النقي، كانت سعيدة كذلك لأنه صار الآن مساواة بين المرأتين، وقد ركزت كلتاهما على الأعمال المنزلية، وعلى أغسطس أن يبحث عن الحرية في مكان آخر.
كل هذا منحها القوة، فطلبت إلى دورليا أن يعاودا السفر إلى باريس، استمتعت آيدا بتلك الخطوة، على وجه التحديد استمتعت بقدرتها على الصدمة، هذه المرة لم تكن تصدم أهلها فقط، بل زوجها، الذي شعر أن المرأتين تخليتا عنه” إنه طفلنا الفنان العظيم” كتبت آيدا في رفض مرح ” دعيه يعضعض لحيته”. تم الترتيب للأمر جيدًا، واستعادت آيدا إحساسها بإرادتها الحرة، لكنها كانت مقيدة بأمومتها، كانوا خمسة أطفال صغار، ولم تكن واثقة إن كانت قد أحبتهم بما فيه الكفاية، ذات مرة كتبت إلى صديق ” من الرائع كيف يبدو لي أنك والآخرين كم تحبون أولادكم! أنا فقط أحب زوجي. الأطفال شيء غريب، إنهم الشيء الأكثر غرابة في الحب”.
من الغريب أن تنجب امرأة مترددة بشأن الأمومة خمسة أطفال في نحو خمس سنوات، ربما هذا يرجع ببساطة إلى عدم كفاية وسائل منع الحمل، ادعت أنها أرادت عائلة كبيرة، لكنها عادت واعترفت أن ذلك كان فقط ” لأنه لم يكن هناك شيء آخر لتفعله، لم يعد في إمكاني أن أرسم، ويجب أن أخلق شيئًا”.
كان لآيدا أن تتجنب الكثير من التعاسة لو استمرت في ممارسة حقها، في الرسم، لماذا توقفت عن الرسم؟ كان لديهم ما يكفي من المال، وكانت تستطيع أن توفر لنفسها بضع ساعات كل يوم، وإن كان أغسطس يعتقد أنه لا يمكن لبيت واحد أن يحوي رسامين، فليست هي الشخصية التي تتقبل ذلك بسهولة.
ربما ببساطة اعتبرت نفسها فنانة من الدرجة الثانية، وهذا لا يساعد إطلاقًا ” ليس هناك ضرر أن تكون درجة ثانية، أكثر من أن تكون ساعي بريد”. لقد أعلنت بشكل قاطع أن المرأة الوحيدة من الدرجة الأولى هي جوين جون.
هذا كلام! لأن كلا من جوين وآيدا سعتا إلى الحرية بطريقة مختلفة عن الأخرى، كانت صيغة جوين لتكون حرة سلبية أساسًا أكثر منها إيجابية، وبينما سعى أخوها إلى الحرية لتحقيق كل رغباته على الفور، تخلت هي عن رغبتها في أن تكون حرة بالسليقة، وفي مذكراتها كتبت” اترك الجميع ودعهم يتركونك”، ساعتها فقط ” ستعيش بلا خوف”. لقد عرفت أن الحب يكلف الكثير، مثلما كان حالها مع دورليا ورودان، رودان الذي عرفته عندما عملت معه كموديل، ثم كعاشق في باريس، كان رودان خيارًا نموذجيا للحب عند جوين، لأنه لم يطلب قط أكثر مما يمكن أن تعطي، وهذا ما تركها حرة لترسم، وتصقل موهبتها، وهي الآن أكثر شهرة من أغسطس، وتحتفظ لآيدا بنوع من الأنا البديلة. وجودها في باريس، ذكّر آيدا أنه لم يكن كافيا ببساطة الانتقال إلى مدينة الفنانين، لأنها لم تملك قط استقلالية جوين ولا رؤيتها. ربما استطاعت آيدا بفضل موهبتها في تجديد نفسها ووعيها الذاتي أن تجد طريقتها لتكون حرة، لكنها لم تُمنح الفرصة، ماتت بحمى النفاس في عمر الثلاثين وهي تلد ابنها الخامس.
قبل عام من موتها تساءلت” كيف سينتهي الآمر، بالموت أو الهروب؟” وها هو أغسطس مثقلاً بالمسئوليات، وقد سمح لزوجته بمساحتها في الحرية، كانت روحها” تصنع رحلات تمهيدية إلى مناطق جميلة، بينما الهواء شحيح عندنا حتى الآن”.
“نُشر في الجارديان بتاريخ 2 يونيو2017”