“العالم المعروف” .. مناطق رمادية فى نفوس سوداء

"العالم المعروف" .. مناطق رمادية فى نفوس سوداء
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

تكشف قراءة الترجمة العربية للرواية الأمريكية الشهيرة "العالم المعروف" لمؤلفها إدوارد بى جونز عن عمل بمذاق الأعمال الكلاسيكية الكبرى، يمتلك مؤلفه حرفة عالية فى عالم كتابة الرواية، رغم أنه كان عمله الروائى الأول، كما أنه بذل جهدا هائلا فى فحص الكثير من الوثائق المسجلة قبل أن ينسج روايته بعالمها الغريب والملتبس. استحق جونز حقاً الفوز بجائزة البوليتزر عن " العالم المعروف"، واستحق أيضاً أن توصف روايته بأنها مؤثرة ومذهلة، وبأن "فيها لمحات من عوالم فوكنر وجابرييل جارسيا ماركيز وتونى وموريسون".الرواية بترجمة ناصرة السعدون، والصادرة عن هيئة أبو ظبى للثقافة التراث (كلمة)،  تفتح عالماً مغلقاً أو مسكوت عنه، مع أنه من حقائق التاريخ  الأمريكى المؤلمة، فمن يصدق أنه كان يوجد، قبل الحرب الأهلية الأمريكية، سادة من السود اشتروا حريتهم، ثم قاموا بامتلاك عبيداً من السود؟!! من يتخيل أن معاملة السادة السود لعبيدهم لم تكن تختلف فى قليل أو كثير عن معاملة البيض للعبيد؟!

اختار جونز مقاطعة مانشيستر فى ولاية فيرجينيا، ليتابع حياة هنرى ناونسند، المالك الأسود لأكثر من ثلاثين عبداً أسود (رجالا ونساء وأطفالا)، هنرى نفسه كان عبدا لدى سيد أبيض، اعتبره مثل ابنائه، ولكن والد هنرى وأمه ظلا سنوات من العبيد، وقاما بتحرير نفسيهما بالمال، ثم قاما بتحريره، سيظل الأب ساخطاً على ابنه لأنه امتلك عبيداً، وستكون حجة الابن هنرى أنه سيعامل العبيد معاملة حسنة، ولكن ذلك لن يحدث أبداً، عندما يموت هنرى، وترث زوجته السوداء كالدونيا المزرعة بعبيدها، يطمح رئيس العمال موسى فى الحرية، يعتقد أن عشق سيدته له سيحل مشاكله، ينسى أن هناك خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه رغم اللون الواحد، وحتى عندما يهرب يقبض عليه، نسى أنه لا يعرف العالم الخارجى، عالمه المعروف هو المزرعة وحدها، إذا تركها هاربا تاه وضاع وسقط بسهولة فى أيدى دوريات مطاردة العبيد، وبين نجاح هنرى فى أن يكون مالكا للأرض والعبيد، وفشل موسى فى أن يكرر التجربة، ينتقل جونز باقتدار فى الزمان والمكان كيفما شاء، ويمزج الأحداث مثل قطع الفسيفساء الملونة، ويرسم ملامح عددا هائلاً من الشخصيات البيضاء والسوداء، ينهار العالم المعروف للعبيد مع الحرب الأهلية الأمريكية ( أربع سنوات طاحنة مات فيها 600ألف شخص وجرح فيها 500ألف شخص)، ولكن الرواية (330 صفحة) احتفظت بهذا العالم العجيب الذى كان من الجريمة فيه أن يُسمح بتعليم العبيد، ومن الجنون أن يتم تحريرهم بدون مقابل، ومن الضرورى دوماً أن يحمل كل منهم تصريحا موقعا من سيده إذا أرسله الى مكان بعيد، وإلا تم القبض عليه.

يتجاوز إدوارد بى جونز لون البشرة فيقدم المنطقة الرمادية فى نفوس البيض والسود على حد سواء، تبدو الرواية بهذا المعنى محاكمة أخلاقية للإنسان نفسه مهما كان لون بشرته، واختباراً عسيرا للقيم الدينية عندما تصطدم بالواقع، وكأن “العالم المعروف” لا تتعامل مع ألوان البشرة بقدر تعاملها مع ألوان الروح وطبائع النفوس، هذه مثلا لوحة رسمها جونز لعلاقة الطفل الأسود هنرى مع سيده روبنز الذى تبناه تقريبا، فلما تحرر هنرى الأسود أصبح بدوره مالكا للعبيد، وكأنه يقدم تنويعة جديدة على نغمة الإمتلاك وقهر الآخر:” بعد انعتاقه من العبودية، طلب روبنز أن يعود الصبى مرة بعد أخرى ليصنع الأحذية له ولزواره من الذكور، من المؤكد أن هنرى لم يكن مسموحاً له بلمس امرأة بيضاء، لكن باستخدام بعض العبيد من الإناث لقياس أقدامهن، صنع بعض الأحذية لزوجة روبنز أثيل، وابنته بيشنس، ولأية امرأة زائرة فى المزرعة، لم تكن القياسات التى تقوم بها النساء من العبيد دقيقة كما يرغب، وسرعان ما تعلم كيفية أخذ مقاساتهن بالنظر الى أقدام النساء ليصل الى المقاس الدقيق، وقد أثنى روبنز على عمل هنرى أينما حل، وبفضل مدحه هذا، وبفضل إطراء الضيوف العائدين الى ديارهم، صار هنرى معروفا بمهارته فى صنع ما أسماه أحد الضيوف من لينتشبرج “الأحذية التى أرادها الرب للأقدام”، بدأ هنرى بجمع المال، بالإضافة الى الأملاك التى حصل عليها من روبنز، فكانت الأساس فيما صار إليه، وما كان يملكه فى الليلة التى توفى فيها، كان روبنز هو من علّمه قيمة المال وقيمة عمله، وأن لايرمش له جفن عندما يذكر سعر ما ينتجه”.

بمعنى ما يكاد هنرى يصبح النسخة السوداء من روبنز، أما موسى فلم يستطع أبدا أن يخترق عالم الضيق المعروف :” واصل موسى السير نحو كوخه، كان موسى أول عبد اشتراه هنرى تاونسند بمبلغ 325 دولارا من ويليام روبنز، وهو رجل أبيض، لم يدرك موسى أنه صار عبدا لرجل اسود إلا بعد مرور أكثر من أسبوعين، حين تأكد أن الأمر لم يكن بمثابة مزحة من القدر، وأنه صار بالفعل عبدا لرجل أسود، بل أشد منه سوادا، رقد موسى الى جوار هنرى فى الأسابيع الأولى، تصوّر من الغرابة أن يكون عبدا لرجل أبيض، ولكن الرب يغيّر أحوال العالم على الدوام حتى جعل السود أنفسهم يستعبدون من يماثلهم، وتساءل: هل ما زال الرب فى عليائه يؤدى مهامه؟”

فشل موسى فى أن يستخدم علاقته مع كالدوينا، أرملة سيده الاسود هنرى، لكى يتحرر، وظل نموذجا للدوران فى  المكان حتى النهاية:” فى تلك الأمسية سمحت كالدونيا لموسى بأن يمارس الحب معها للمرة الأولى منذ فقدان العبيد الثلاثة، أراد أن يمضى الليلة معها فى سريرها وأخبرها بذلك، لكنها اكتفت بالتمدد على الأرض بين ذراعيه بعدها، ولم تقل شيئا، سألها: متى سوف تعتقيننى ؟ “ماذا؟”، “أقول متى سوف تعتقيننى ؟” سحبت نفسها مبتعدة عنه ووقفت “.

تنتهى الرواية بصورة أقرب الى التفاؤل القسرى، ورغم لحظات المستقبل التى تتصارع طوال الوقت مع لقطات العودة الى الماضى، إلا أن “العالم المعروف” رواية مؤلمة للغاية ، لأنها تكاد تعلق المأساة على الطبيعة الإنسانية الهشة، التى سرعان ما تتفتت مثل تربة المزرعة، مع أول اختبار أخلاقى، بصرف النظر عن العرق أو اللون، ولعل ذلك ما يجعلها أهم بكثير من مجرد رواية عن السود والبيض، إنها شهادة قوية وصادقة عن الإنسان الذى يستعصى على الفهم، وتصلح بالتأكيد لتكون فيلما هوليووديا عظيما، لأنها أكثر ثراء وعمقا من كتاب “12 عاما من العبودية”، التى تحولت أخيرا الى فيلم يحصد الجوائز والتقدير .

 

مقالات من نفس القسم