رحيل مؤجل وغياب مقيم.. مقطع من رواية “شجرة العنكبوت”

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سأرحل.. 
هل أصطحب طفلىَّ معى أم أتركهما؟ لم أعد أحتمل أن أتركهما.. تركتهما كثيرًا، لم أمت لأنى أبعدتهما عنى وهذه هذه المشكلة، ألا نعاقب على الخطأ فى التو واللحظة، فنعرف فيم أخطأنا، يظل الخطأ كامنًا فى باطن الأرض، ينمو كل يوم تغذيه التفاصيل الصغيرة، تُزيده الأيام قوة صلابة الخيانات، التواطؤ، الإهمال، الوعود الزائفة بالمقاومة وأنها ستكون آخر مرة، وأننا لن نتخاذل ثانية، وأن ابتعادنا عن المواجهة، سيجعل السفينة تمضى.

لدى من التعب والجروح ما يكفى، لن أتحمل مزيدًا من الخسائر.. كل مواجهة خسارة.. تعللت بالظروف.. لم أكن حتى قطة.. تدخل النار وتخرج بأولادها، ولكن القطة لم تكن لتجد قطًا روميًا يسخر من جهودها، أو قطة شيرازية تسخف من حروقها وطريقة مسكها لأبنائها من ظهرهم.. لم أكن يومًا قطة أو تمساحة أو غزالة.. كنت امرأته ولم أكن والدتهما، لكن الطبيعة عاندتنى فلم تصف له امرأته ولم تنجُ الوالدة.
منذ الليلة الأولى لميلاد شريف، أخذته أمى، نام فى حضنها، وأنا نمت بجواره فى سريره، كأن شيئًا لم يحدث. كأنى كنت أمثل، كأن شهور حملى لم تكن حقيقة، كأنى ذهبت للمستشفى، وعدت من قسم التجهيزات والهدايا بعروس بلاستيكية، وليس كائنًا حيًا، له متطلباته واحتياجاته.. كأنه سينمو بمفرده، دون أن أضحى حتى بليلة أنام فيها بعيدًا عن سريره، بعيدًا عنه، لم يطلب صراحة أن أترك الطفل لماما، لكنه قال: «أنتِ تعبانة اتركيه الليلة لماما علشان تعرفى تنامى وتستريحى»، وأنا ببراءة وثقة صدقته، كان مقنعًا وكلامه مرتبًا، لكنه لم يكن منطقيًا. ومنذ ليلة الميلاد الأول وضع القاعدة، أن أتخلى عن الطفل لأمى، لأختى، لأمه، المهم أن ينام دون أن يزعجه أحد

من أى عبء كنت أتخلص؟، لم أكن أتخلص من أى عبء، لم تكن الأمور واضحة لى، لم أفكر فى الأمر، روحى وعقلى كانا مساحة بيضاء، خالية من أى ظلال لشك أو خوف أو لهفة، مساحة ساكنة ليست لافحة حارة ولا باردة ثلجية، بيضاء وفقط ليس فيها ما يؤذى أو يجرح أو يفاجئ، دون معنى للأشياء، دون دلالات، دون حساب للخطوات والخطوات التالية، لم أتشبث به ولم يتشبث بى، لم يرضع الصغير منى، أنا التى تميزت بأنوثة متفجرة، وكان صدرى بشموخه تحت ملابسى مصدر فخر وجذب وحسد كثيرًا أو قليلًا، لم يستطع شريف أن يرضع لأن حلمة ثديى كانت غائرة، ولم أفهم هذا الموضوع أثناء الحمل لأننى كثيرًا ما كنت لأتغيب عن مواعيد المتابعة الدورية عند طبيب النساء والولادة، وربما لم يكن شكلى يوحى بوجود هذا العطب.. كان ثدياى جماليين لم يكونا وظيفيين لإطعام طفل.. حاولت أمى وأوصتنى أن أدعكهما حتى يستطيع الطفل أن يأكل ويكف عن الصراخ، لكنى كنت متعبة من العملية وتائهة من تأثير البنج والجرح يؤلمنى.. لم أسانده ولم يساندنى، نظرت للرضيع كشىء غريب.. لا حتى هذه النظرة أنا أفسرها الآن، لم يكن هناك غير البلادة والفتور والهمدان.. ليس اكتئاب ما بعد الولادة.. لكنها حالة من التوهان.

……………….
مقطع من رواية شجرة العنكبوت

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال