جنية في قارورة

جنية في قارورة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

القسم الأول

- 1 -

قحبة؟! لا لست قحبة كما وصفتني نتالي في لحظة غضب، وكما نقلت لي بيرجيت عن بعض الثرثارات الكريهات اللائي لا يجدن سوى الغيرة العمياء الحقودة...

لكنني عشت حياتي طولاً وعرضاً. امتهنت جسدي، وألقيت بنفسي في حرائق النشوة وجنات المخدر، وحفلات المجون، دون أن أفكر إلا في اللحظة التي أعيشها، من حفل في منزل صديق إلى مرقص صاخب، ومن أحضان عشيق لآخر. أحياناً كنت أتردد على عشيقين في نفس الوقت دون أن يشعر أي منهما بذلك. بل وتقلبت عارية بين فريق من السكارى في حفلات جنس جماعي لا يمحو أثرها المنهك لأعصابي من شدة احتقاري لنفسي إلا حفل آخر أكثر مجوناً. لم أرغب في أن أعيش مع خيالاتي وآلامي وهواجس عقلي ولو للحظة واحدة، خوفاً من رغبة دفينة في الانتحار، بدأت تراودني بعد أيام قليلة من عودتي إلى باريس.

رحلتي للقاهرة لم تكن سهلة، وانتهاء الرحلة بموت أبي أفقدني صوابي، أعيش في هذا التيه اللانهائي وحدي باستثناء صوته الذي أسمع صداه أحياناً فأستيقظ متفجرة بالمفاجأة والفرحة. أنادي عليه فلا أسمع إلا صوتي، الذي يأخذ في الارتعاش والحشرجة تدريجياً، حتى أنهار بالبكاء، رد الفعل الذي أعبر به عن الألم الذي يمزقني، تحت إلحاح فكرة أنه أصبح ينتمي لزمن آخر لا أعرف عنه شيئاً. لسنوات طويلة عشت مع أعراض الوسواس القهري والخوف وصولاً حتى لأعراض التلعثم، لكن وجوده بجواري في كل المحن ساعدني على تجاوزها حتى أصبحت قوية، مبادرة، أحاول أن أبدو لنفسي وللآخرين أقوى كثيراً مما يظنون، لكني لم أصل قط إلى حدود الرغبة في الموت.

أبي الذي عشت لا أعرف غيره، صديقاً وأباً وأما، والملاذ الذي أعيش مطمئنة لوجوده في مكان ما من العالم، رغم أني لم أعش معه كثيراً بسبب الظروف، لم أفهم قط لماذا لم يقرر أن يأتي ليعيش معي هنا في باريس طالما أنه كان يرى استحالة ذهابي أنا إلى مصر أو المنصورة.

عدت من مصر ناقمة على كل شيء. أشعر أنني لا أنتمي لمكان أو دين أو عاطفة. على حافة الرغبة المروعة في الموت والخلاص من الألم قررت أني ما عدت ما كنته البتة، كأن روحاً أخرى استبدلت بجسدي، وحتى ديفيد ذهب إلى وطنه محطماً كل افكاري عنه وعن التسامح ووهم فروق الدين والعقيدة. هذا التافه الذي أوهمني أنه يحبني ولن يتركني مهما حدث… لا أكترث الآن به على أي حال.

كيف تمكنت مني تلك الرغبة الحارقة في المجون؟ أن أشعر أنني أعيش بنصف وعي، مخدرة، جسدي خفيف والنشوة تلعب بذهني بينما تستثار حواسي. كنت أشرب وحدي كثيراً حتى أتشوش في هذا الاستوديو وحيدة إلا من هواجس عقلي وخيالاتي وأنا سكرانة تماماً، عارية، أقاوم رغبتي في وجود ديفيد بجواري بجسده النحيل الفارع الطول. أستنشق رائحة جسده بينما تداعب انفي شعيرات صدره الواهنة الناعمة. استبدلته بصور آخرين على مضض، لكن رغبتي في الانتهاك جلعتني أعتاد استدعاء تلك الصور، والتوقف بالتحديد أمام الصورة التي كنت أظنها منفرة تماماً: صورة باتريك بنظرة عينيه الزرقاوين المستخفتين.

لم أكن أميل إليه بسبب فكرته عن نفسه كمغو للنساء: عاشق ترتمي النساء عند أقدامه بينما يلتقطهن هو مترفعاً ليمنحهن الحب، أو بالأدق فعل الحب الذي لا يمتلك غيره.. ألح طويلاً في دعوتي للعشاء لأنني أمثل صورة الخيال الجنسي الشبقي كما أكد لي أكثر من مرة. الصورة النمطية عن الشرقية السمراء الساخنة القادمة من عصر الحريم، التي تثير السيد الأبيض باستكانتها، ونظراتها التي تجمع السكينة بظلال من الذل والرغبة في انتهاكها من قبله لتشعر برقيها، وفي كونها موضوعاً لرغبته.

لا أعرف من الشرق سوى ملامح وجهي وذكرياتي الشاحبة عن أمي. زيارتي الأولى والأخيرة لمصر، وزيارتي الوحيدة لدبي بصحبة أبي، والتي قررت بعدها أن أعيش في باريس، إجادتي الرقص الشرقي بالفطرة، بالإضافة إلى ما كان يحكيه لي أبي عن مصر والعادات والتقاليد والحرارة والكرم والحياة العائلية الأسطورية والتي كانت المفارقة السخيفة سبباً لحرماني منها للأبد.

أحتفظ في أعماقي بهذا الإحساس الغامض بأني مصرية، بفضل ما رسخه أبي في ذهني يوماً بعد آخر، ومن قراءاتي المبكرة باللغة العربية التي حرص أبي أن يجعلني أتقنها مثل الفرنسية، وباستثناء ذلك فلا أعرف نفسي إلا فرنسية حتى النخاع.

كنت أشعر باحتقار حقيقي لباتريك، بنفس درجة احتقاري له عندما أصر على إغوائي، رغم معرفته بعلاقتي بديفيد. صحيح أنني كنت أتقبل تلميحات أخرى ترضي غروري، لكن أبطالها كانوا أصدقاء وزملاء عمل، خاصة فرانسوا، و«علي» الإيراني صاحب الملامح الحادة والشعر الأسود الثقيل، لكن هذا لم يكن له علاقة بديفيد أو محبتي له وكونه الشخص الذي تعني لي ممارسة الحب معه شيئاً لا يعوضه شيء آخر.

في هلاوس السكر كنت أتخيل باتريك بجواري عارياً، جسدي مستسلم له، ليس عن ضعف، وإنما عن عجز، بفعل السُكْر والخدر الذي يجعل من جسدي كياناً حياً ينبض بالشهوة والرغبة، لكن بلا أدنى حيوية أو قدرة على الفعل، بينما هو بجواري مثل جني يحشد طاقته السحرية للخروج من الزجاجة، محترقاً بشهوته، وباستكانتي الكسيرة التي تؤجج الصورة الفانتازية الايروتيكية في خياله.

تمكنت مني الفكرة حتى أنني حلمت به يوماً. استيقظت وأنا أشعر بالغضب، لإدراكي أن الأمر تمكن من وعيي، واستفزتني فكرة إقامة علاقة حب على أرضية الكراهية. ربما كلمة كراهية لا تناسب تماما ما أشعر به تجاهه، ربما الأنسب أن أقول إنها مشاعر متناقضة، علاقة من تلك التي لا تولد في الروح إلا النشوة المتبوعة بوخز الضمير، بالتأنيب، وإحساس الشخص بأنه ليس راضياً عن نفسه، وبدلاً من التوقف، فإنه يعاود ما يفعله على أمل أن تحدث معجزة توجد له الدواء من الداء، والمصير المحتوم في حالة كهذه هي الهاوية.

لم أرغب في التوقف عن التفكير فيه، لأن البديل مرارته لا تحتمل.. مرارة مغموسة بألم افتقادي أبي وأمي المسكينة، وأهلي الذين لا أعرف متى ستتاح لي فرصة رؤيتهم مرة أخرى. أعتقد أنني تنصلت من قبول فكرة زيارة عمتي نادية حتى لا يذكرني وجودها بالمأساة التي أحسست بضرورة الابتعاد عما يذكرني بها، والأهم من كل ذلك غياب ديفيد العبثي والسخيف والذي كان بإمكانه أن يغير حياتي كليا ويمررني من هذا البرزخ الخانق بنجاح.

قلت له انني بعد تجربة أمي وابي لا أكترث نهائياً بفكرة الدين، وأن كوني مسلمة وهو يهودي ليس إلا سخافة… وفوارق لا معنى لها، كيف استطاع أن يخفي عني تدينه على مدى عامين كاملين؟! أم أنني ساذجة إلى هذا الحد! لم ينتظر حتى عودتي من القاهرة، ليودعني. لو اراد أن نعيش في أي مكان في العالم لوافقت على الفور، اما تل ابيب فهذا ما لا اتصوره اطلاقاً. عشت عمري كله في تعاسة بسبب فوارق الدين والتمييز السخيف لأقع في حب شخص متدين حتى النخاع، جاء من بولندا إلى فرنسا مع أهله، وعاش هنا طوال عمره، والآن، فجأة، يريد أن يكمل دينه بالذهاب إلى أرض الميعاد كما يسميها. هذا كله عندي لا يعني شيئا. أبي نفسه ما كان ليتخيل حتى الفكرة. ربما كان من الممكن أن يوافق على فكرة أنه يهودي علماني، ولو على مضض، أو أن يرفضها حتى، دون أن يجبرني على عكسها، أما أكثر من هذا … فلا أعتقد.

– 2 –

الآن لست نادمة على أي شيء، فقط، أتمنى أن أتجاوز محنتي معه، ديفيد أيها الحقير! متى تختفي صورتك من خيالي؟ أحيانا أفكر بأنني لو تعرضت لحادث وفقدت الذاكرة سأعيش في حياة أقل تعاسة من هذه التي أحياها الآن، أو أن أتعاطى «إل إس دي» ويذهب عقلي مسافرا في رحلة مأساوية من تلك التي تعرض لها البعض (Bad Trip)، عندها ربما يمكن أن أصبح مثل فاليري التي تظن أنها كوب عصير ممتلئ حتى حافته، وتتحرك ببطء شديد خوفا من أن يسيل منها العصير.. هكذا فكرتْ عندما تمكن منها المخدر في تعاطيها الأول له قبل ثلاث سنوات، واستمرت الفكرة حتى الآن، بعد أن أتلف المخدر جزءا من وعيها..

هذه الفكرة التي سببت لي رعبا وخوفا غامضا تبدو لي الآن وجيهة ورائعة، لأنني إذا أصبت بنفس اليقين بأنني تحولت إلى كوب عصير أو نجمة في السماء، أو قداحة تستعصي على الاشتعال فلن يمكنني عندئذ أن أفكر في ديفيد، لأن خلايا عقلي التي ستتعرض للتلف ستختفي معها صورته للأبد.

إذا كانت لي فرصة للاختيار لتمنيت أن أصبح لحنا موسيقيا غامضا، أهيم في الأثير وأطرب الأرواح، لحنا خافتا من مقام عميق، أطلقته أوتار أرغول فرعوني قديم، بمداعبة أنامل عازفة كانت تفكر في عشيقها وهي تعزف بحب، وتجاوز لحنها حدود الزمن. كيف سأتصرف إذا قادني المخدر المرعب إلى هذا التصرف؟ سؤال عبثي لأن المخدر هو الذي يملي شروطه، وهو الذي يلعب لعبته الكبرى مع العقل، ومناطق الفانتازيا بما لا يمكن حتى تخمينه.

كانت صورة باتريك مثالية لهذا الغرض، أي أن تكون البديل لمفعول المخدر، لما توفره لي من استفزاز، ومن دس للسم في العسل. أحياناً أفيق لأؤكد لنفسي أنني مجنونة، حمقاء، فقدت القدرة على تقييم الأمور والحكم عليها، لكن الألم الذي يعاودني متراكماً كلما استعدت وعيي يحفزني لأن أفعل أي شيء لأنسى صور الوجوه التي تعذبني.. بلا رحمة، حتى لو كلفني ممارسة الجنس مع باتريك.

لم يكن الأمر صعباً على أي حال، لكنني لم أرغب في أن ألعب معه لعبة القناص والفريسة المبتذلة، وإنما على العكس، أردت أن أحافظ على صورتي بأن أرسم ابتسامة كسيرة حزينة، فهذه هي الصورة التي يمكن لها أن تعبر عما أشعر به بصدق، وهي في الوقت نفسه، الصورة التي لم يعتدها من الماجنات الباريسيات اللائي كن يتسابقن في الوصول إلى فراشه، تأمل كل منهن في أن يحكي عنها، وعن كفاءتها في الفراش، لأقرانه أو لغريماتها، اللائي لم أكن أرى فيهن إلا صور العاهرات. ولكن ماذا أصبحت أنا؟ ألست واحدة منهن الآن؟ لا بأس.. لم ينج أحد من مصيره، وهذا ما اخترت أن أفعله بكل تعمد وإصرار.

لماذا أكتب هذا كله وأستعيده بهذا الالحاح المرضي؟.. هل هي الرغبة في تعذيب النفس، أم أنها محاولة لاكتشاف المساحات الغامضة في تكويني النفسي لاستعادة التوازن؟ لا أعرف. أريد أن أكتب كل شيء. وأتأمل الإنسانة التي كنتها لأعرف ما أريد أن أكونه. لا أريد أن أكتب مذكرات ناعمة كالتي كتبها أبي. يبدو لي أنه كتبها بهذا الحس المثالي لأنه كان يعرف أنني سأقرأها، بدليل أن عمتي نادية أعطتني جزءاً منها لم يكن أحد يعرف عنه شيئاً سواها. تلك كانت مذكراته الغاضبة والشهوانية التي كتبها دون أي حس رقابي من أي نوع. هذا هو ما أريد أن أفعله أنا أيضاً.

«تبدين أكبر كثيراً من عمرك..»، هكذا قالت لي عمتي نادية كثيراً، وهو ما يردده الكثيرون من أصدقائي، وخاصة نتالي، رفيقة حياتي، التي عشت في بيت أهلها كل عمري. نعم أنا أكبر من عمري، ولا حيلة لي في ذلك.

كما أنني لست بيوريتانية، ولا متحفظة في مشاعري. عانيت الصعوبة في التحدث والثأثاة لفترة طويلة من صباي، لكن حياتي كان لها شكل مختلف، فلم أتردد مثلاً أن أخبر مدرس الفلسفة «مسيو ميشيل» عن حبي له ورغبتي في أن يفض بكارتي. صحيح أنه لم يفعل لأنه لم يتخيل أن يكون هو أول تجربة جنسية لطالبة في السادسة عشرة، لكنه أصبح صديقي الحقيقي والذي أعطاني نصائحه عندما بدأت أولى علاقاتي الجنسية مع الفتى الأمريكي المدلل بيتر، لم يكن يحب الفرنسيين، رغم أن أمه فرنسية، وكان رياضياً بسيطا محباً للحياة لا يتوقف عن الضحك، يتحدث الفرنسية بلكنة غريبة تبدو ريفية رغم أنه حضر إلى فرنسا مع أمه وأبيه وعمره لا يتجاوز العامين، لكن لكنة أبيه الأمريكية أثرت على نطقه للفرنسية.

لم نكن صديقين، إذ كنت أنتمي لمجموعة أخرى. شاهدته في الكثير من الحفلات في المدرسة وخارجها. بصراحة، بدأت أهتم به بعد انتهاء علاقته مع سيمون، زميلة دراستي في نفس الفصل، كانت تحكي تفاصيل علاقتهما بدقة. النكات التي يقولها والأماكن التي يمارسان فيها الحب، مطعمهما المفضل، والأفلام التي شاهداها معاً. كنت أشعر أنه رومانسي جدا رغم أنه يحاول دائماً إظهار عكس ذلك، ثم لفتت هي انتباهي، وهي تضحك، أن عضوه ليس أبيض اللون، فضحكت بأعلى صوتي دون أن أفهم، فأوضحت لي أنها في أولى تجاربها صادقت فتى من ذوي البشرة السمراء، وكان عضوه داكنا مثل لون بشرته، وكانت تظن أن بيض البشرة سيكون عضوهم بنفس اللون.

هذه الملاحظة سيطرت على ذهني لفترة، وطال فضولي ذروته عندما اصطحبني إلى «الموتيل» الذي قضينا به ليلتنا الأولى. لم أتحدث مع سيلفي في الأمر على أي حال، لكن أكثر ما أسعدني في تلك الليلة أني تأكدت من رومانسيته، في الطريقة التي كان يسألني بها عن مدى إحساسي بالألم، وعن تكرار الاطمئنان على حالتي كل فترة.

لم أشعر بشيء تقريباً، أو لعل هذا ما أحس به الآن عند محاولة استعادة التجربة، فقد كنت شربت الكثير من النبيذ حتى لا أبدو متوترة، ولكي يخف إحساسي بالألم، وكنت مشغولة أيضاً بمقارنة إحساسي بملمسه المغطى بالواقي الذكري مقارنة به لو كان عارياً، لكن لم يكن لدي أدنى رغبة في التأكد من ذلك الشعور لأني أنا التي اشتريت «الكوندوم»، فلست على استعداد لأن أدفع ثمن علاقاته التي لم أكن أعرف الكثير منها.

كنت سعيدة بأنه الشخص الذي أزال بكارتي بتفهمه، وخبرته. صحيح أنني الآن أعرف أنه ليس مثالياً في الفراش، لكنه كان مناسباً للمرحلة، يكفي أنه رغم ولعه بالأغنيات الأمريكية كان مريضاً مثلي بحب شارل أزنافور وبأفلام وودي آلان، وتروفو، وبأغنيات خوليو اجلاسيس، وقصص هنري جيمس، وكارتون أستريكس.

لكن هل أحببته؟… الحقيقة أنني تقريباً لا أعرف الحب، ليس لأنني شخصية أنانية، بالعكس، لكنني لم أشعر بالحب قبل ديفيد، وهو بذل جهداً كبيراً ليجعلني أقع في غرامه.

لم تستهوني قصص الغرام في مراهقتي. كنت مشغولة أكثر بالمشاعر الحسية، وبشكل عام كنت أستثار سريعاً من مشهد قبلة في فيلم، أو لقطة عاطفية ساخنة. لاحظت أنني أستثار من رؤية نهدي نتالي حينما كنا نخلع ثيابنا قبل النوم، ولفترة كنت أظن أن لدي ميولاً سحاقية.

كنت أشعر بحبي لمدام بياتريس، ويبدو أنها أدركت ذلك بسرعة، فبدأت تتعامل معي بشكل أقل عاطفية، بعدها كان خيالي يطير بعيداً، أتخيل نفسي عارية في أحضانها، ثم وسعت الدائرة لتشمل نتالي، بل إنني تحت ضغط عاطفة حارة لم أستطع مقاومتها تركت فراشي وذهبت لأدس نفسي بجوارها. وجدتها عارية، كما هي عادتها، وشعرت باحتقان وجهي.

احتضنتها بهيام، واستيقظت هي وضمتني إليها برقة، ثم سرعان ما راحت في النوم، وتركتني مذهولة بمشاعري، التي كانت خليطاً حاراً من المشاعر العاطفية والحسية.

في اليوم التالي كنا نتحدث طوال الليل عن قبلاتنا الأولى، وكانت تبدو لنا ساذجة، اقترحت نتالي أن نتدرب جيداً على القبل الساخنة قبل أن نبدأ المضاجعة، كانت تقصد التدرب على تقبيل الفتيات لأننا كنا قررنا أن نفقد عذورتنا، كنا نكذب لان قبلاتنا الأولى بدأت قبل ذلك بكثير.

لم أتردد في أن أقترب منها وألمس شفتيها بشفتي. تعرينا وألقينا بأنفسنا إلى الفراش، تقبل كل منا الأخرى بحرارة. لم أقاوم رغبتي في تقبيل نهديها، بينما كانت هي تتأوه من النشوة. نمت في تلك الليلة سعيدة كما لم أعرف السعادة، لكن بعد أسبوع واحد جاءت نتالي وأخبرتني أنها لم تعد عذراء.

شعرت بالغيرة والألم ومشاعر متناقضة لا يمكن لي أن أعرب عنها بوضوح. كنت سعيدة بتجربتها، لكني كنت أظن أنني التي سأسبقها في ممارسة الحب مع فتى لأول مرة، كما شعرت بأنها أغلقت الباب أمام المشاعر التي اكتشفناها أخيراً، وهذا سبب لي نوعاً من الإحراج، ولا أريد أن أتزيد وأقول إنني كنت أصف ما فعلته بالخيانة، لكن هذا ما شعرت به آنذاك. بعد سنوات، وأثناء ممارستي الجنس مع ديفيد شعرت بسطحية وسذاجة هذه التجربة، وتألمت لأن نتالي أدركت ذلك خلال أسبوع واحد فقط! الأسبوع اللاحق قضيته كله في مسرح الأوديون قرب حديقة لوكسمبور لمشاهدة أسبوع لأفلام تروفو، واستكملت قراءة سيمون دي بوفوار، ثم في مشاهدة مسرحية للكوميدي فرانسيز، وترددت على قاعات للعروض الراقصة وحدي لأنسى ما فعلته سيلفي، ولكي أستعيد توازني وأبدأ بالتفكير في مسيو ميشيل كعشيق.

أتأمل حكاياتي فتبدو لي مثيرة أحياناً، ومملة في أكثر الأحيان، أشعر أنني أثرثر بلا شيء، كلمات لا معنى لها، خالية من الجمال، والابتكار والخلق والعمق، ثرثرة تافهة سودت الصفحات ملايين الكلمات المشابهة، ليست لها في النهاية قوة إثارة الماركيز دو ساد، لكن بها، مع ذلك، ما يغريني بالالتفات إلى جانب فني بها.

من أين يأتي هذا الفن: من اللغة أم من السرد والحكي؟ هل ما حكيته عن سيلفي له أي جمال من أي نوع، أم أنه سيكون أجمل لو أدرت الكرسي الذي أجلس إليه الآن؟ فوجدتها خلفي تمد يدها لي، تفتح الستار الخلفي لخشبة عرض مسرحي.

هل يمكن لنا في هذه الحالة أن نكرر ما فعلناه معاً أمام الجمهور؟

هل أستطيع أن أتعرى أمام كل هذه العيون وأمنحها حق مشاركة نتالي في رؤية جسدي عارية، ربما سيكون حالي في العرض الثاني أو الثالث أفضل كثيراً، لكن هل أستطيع مواجهتهم بعملية السحاق، سيتلصصون على أردافي الممنوحة لهم، لكنهم لن يعرفوا عبق أو ملمس جسد سيلفي.

لن يفهموا مشاعري ولذتي ومحاولتي لإخفاء وجهي بين فخذيها هرباً من عيونهم المتلصصة.

كيف سيكون أدائي لهذا العرض الآن وأنا أدرك سذاجة تلك المشاعر، وبين أداء نفس المشهد في وقت حدوثه الحقيقي. وكيف ستكون طبيعة الجمهور في الحالتين؟ ما هي أعمارهم؟ هل هم أولئك المحبطون الذين شهدوا الحرية في ذروة تألقها في الستينيات ومارسوها ملء أرواحهم وأجسادهم، ثورة سياسية وروحية وجنسية بلغت حدود الفوضى والمجون، وباتوا الآن في خريف اعمارهم مكبلين بالإحباط واليأس، أم سيكونون جمهوراً من الشباب التافه الذي يتردد على المسرح الإيروتيكي الخفيف بلا هدف؟

كم شخصاً منهم سيتمنى مضاجعتي؟ وكم شخصاً سيفضل نتالي؟ ربما سيكون هناك عدد أقل يرغب في مضاجعتنا معاً. ولو امتلك أحدهم الجرأة الكافية وترك مقعده ليصعد إلى خشبة العرض وتعرى هو أيضاً هل سيرتبك العرض أم أننا سنرتجل ونشتبك مع وجوده الموتر بأداء لا يكشف ارتباكنا؟

ربما تجد فيه نتالي نموذجاً جيداً للرجل الذي تمنت أن تفقد بكارتها معه، لكن هل سيطاوعها قلبها أن تفعل ذلك أمامي؟ ومع من سيتضامن الجمهور: معها أم معي؟ هل سيتعاطف مع علاقاتنا الخاصة، ويجد متعته في متابعة اللقاء الأول بين عشيقتين اكتشفت كل منهما حبها للأخرى فجأة أم سيكون الاحتمال الدرامي بوجود صراع امرأتين على رجل أكثر إثارة لهم؟ أريد أن أختم أولى يومياتي بهذا السؤال الفني.

– 3 –

خشبة المسرح المستديرة المصقول سطحها اللامع لم تكن تحمل سوى أريكة وثيرة حمراء تجاورها منضدة ذات قرص رخامي اسود مستدير محمولة على قوائم ثلاثية من «الفيرفورجيه»، وعلى الركنين المجاورين لمسندي الأريكة مخدتان مغطاتان بقماش أسود به زركشات ذهبية رقيقة.

الاضاءة مركزة فقط على الأريكة، وهو ما يتسبب في التهاب اللون الأحمر بالحرارة. نستكمل أنا ونتالي الاحساس الإيروتيكي المسيطر على المكان أولاً بظهورنا من أحد جوانب الأريكة ونقف في مواجهة الجمهور لدقائق دون حركة.

يتأمل الجمهور جسد نتالي الفارع النحيف المكسو ببشرتها الحليبية، تقف ممشوقة القوام ترفع نهديها المتماسكين في وجه الجمهور. ليس صعباً على الجمهور الباريسي أن يعرف أن قياس نهديها هو المتوسط الشائع هنا (مقاس 80) وسيقارنون فورا هذا الحجم بقياس صدري الذي يزيد قليلاً، وسيلاحظون أيضاً أن حلمتي نهدي اكبر واكثر قتامة من حلمتي نتالي الورديتين الصغيرتين.

عندما نجلس متجاورتين سيبدأ الجزء التالي من الجو الحسي الذي يشعه ملمح فيتيشي يتخلق من تجاور جسدينا بلونين متناقضين، هما لون الحليب كما يبدو جسد سيلفي، ثم بلون القهوة بالحليب الذي تشعه بشرتي، وهو إحساس يتأكد من تناقض لون شعرها الأشقر وزرقة عينيها مع لون شعري القصير الأسود وعيني السوداوين.

للاستعراض زهوته، لكن التشوش بين لذة الاستعراض المصحوبة بصدمة التعري أمام الجمهور والاستثارة التي سببها وجود سيلفي هذه المساحة الحميمة أربكتني تماماً. احتجت إلى جهد مضاعف للتركيز في إحساسي بنتالي، الاستمتاع بلمس جسدها وتضمين لمساتي إشاراتي العاطفية الخاصة، دون أن أفقد السيطرة على جسدي الذي يفترض أنه يؤدي دوراً استعراضياً لذاته، لجماله الخاص. في كل حركة تلين لها عضلات وتشد أخرى، بينما الصورة لا تعكس شيئاً من هذا، وإنما تنقل إشارات تمارس سلطة مستمدة من الجسد على خيالات المتلقين، كل يستقبلها بطريقته.

من بين هؤلاء جميعا يظهر شخص ستكون الإشارة أقوى من احتماله، وسيمارس جسدانا سلطتهما كاملة لاستدعائه متهدج الأنفاس، فيما يخفي  استثارته بابتسامة مرتبكة، ثم يخلع ثيابه دون أن يرفع عينيه عنا، بينما سيعطينا إحساسنا بوجوده الفرصة لنستغرق في لذة حسية حميمة، أشعر فيها بأنني مع امرأتي، أشعر بأنني في أحضان هذا الكائن الرقيق نتالي التي لا يستثيرني شيء مثل مشهد نهديها، والتي تعرف عني كل شيء بما فيها أنني لم أحب أحداً قبلها، لكنني تبادلت القبلات مع الكثير من الفتيات، دون أن يبدو لي ذلك مثيراً كما توحي إليّ صديقاتي عادة، وبينهن نتالي، يكفيني النوم عارية هكذا معها، لكن العرض ومشاعري الحسية تدفعانني لتقبيل جسدها كله، والتوقف عند مواضع لذتها واستقبال لمساتها بحب كامل.

ربما يكون لمشهد نومنا متجاورتين، مستلقيتين على بطنينا، بعد ممارسة الحب تأثير أفضل، نثرثر بينما سيقاننا تتلاعب بخفة، يداعبنا إحساس خفي بالنشوة، ويدغدغ مشاعرنا.

لكن ماذا يمكنني أن أفعل لأتلقى ضربة الزمن؟ فهذا هو شأني أبدا، أتلقى ضربات متلاحقة من الزمن، فتغيب أمي بلا سبب أو معنى إلا لتعذيبي ولأعيش هذه الحياة التي رغم كل ما فيها من تفاصيل تبدو لي كثيراً بلا معنى.

ربما تأتي ضربة الزمن على هيئة حزمة من الأشعة الضوئية تنتظر ابتعادي قليلاً عن نتالي، لأتأمل ملامح الفتى الوسيم كثيف الشعر متناسق الجسد إلى حد الإثارة، عندئذ يقترب الفتى من نتالي مبتسماً لأفاجأ بالشعاع الزمني يقصيني في ظلام حالك وفضاء أطير فيه، في كل اتجاه بلا سيطرة. وتصبح قاعة العرض مسرحاً لعرض إيروتيكي تلعب بطولته نتالي بمشاركة الفتى الوسيم، أما جسدي بالنسبة للجمهور فسيصبح طيف ذكرى غائمة.

ربما يكون تأثيره الحسي على ذاكرتهم قوياً لدرجة استفزاز البعض لرغبتهم في استبدال الجسد الأوروبي المتاح أمامهم بجسدي البرونزي بكل إحالاته، لكن اختيار الفتى لنتالي هو الذي يقود المسألة كلها على هذا النحو، تماما كما هو منطق الإغواء الذي لا يستطيع أحد أن يفهم معناه الحقيقي تماماً، كما لا يمكن تفسير أن رجلاً يرى في امرأة ما قمة الإثارة، ويراها غيره باردة أو العكس، بينما في هذا التيه الزماني يصبح جسدي بلا مظهر أو معنى أو قيمة حسية من أي نوع فأي عبث؟!

****

كان هذا المشهد يلح على ذهني طويلاً، وأعيد فيه بالحذف والإضافة دون وصول لمواطن الجمال فيه، تماما كما كتب أبي في الجزء الذي لم يعطني إياه من مذكراته عن صديق من أصدقائه المسيحيين الذي وقع في غرام فتاة مسلمة سمراء. قرأته بعد وفاته عندما أعطتني إياه عمتي نادية.

كان يعيد حكي قصة الحب التي جمعت بينهما بطرق مختلفة، تتغير الطريقة التي تبدأ العلاقة فيها بينهما من مرة لأخرى، فمرة يلتقيان في قطار الإسكندرية مصادفة، ومرة أخرى يلتقيان في حفل إكليل لفتاة تربطها بالفتى صلة قرابة، بينما هي الصديقة المقربة للفتاة السمراء التي لم يذكر أبي اسمها قط. ومرة ثالثة يلتقيان مصادفة على أحد الشواطئ، كأنه يختبر ما يسميه ألعاب الزمن والمصادفة عبر هذه الحكاية.

في مرة من المرات يصف مشهداً جنسياً بينهما، ومرة أخرى يكتب أن العذورة كانت ثالثتهما، رغم أنهما مارسا علاقة جنسية، لكنه أخيراً يؤكد أنها ليست عذراء، اما النهاية فكانت واحدة، في كل هذه المحاولات المختلفة والظروف المتباينة للعلاقة، إذ تضربهما ضربة الزمن دائماً لتجعل من اقترابهما مستحيلاً.

يقول أبي في النهاية إنها أجرت عملية ترقيع لتتزوج من زوج تقدم لها عن طريق الصالونات. كان الفتى في صراع لم يحسم وهو أن يغير ديانته ويتحول من المسيحية إلى الإسلام، ولو حتى ورقياً، لكي يتزوج الفتاة، لكن أم الفتاة أجبرتها على إنهاء العلاقة، وعندما عرفت أنها فقدت عذورتها أجبرتها على إجراء عملية ترقيع، وزوجتها كهلاً ثرياً مثالياً.

اشعر أن أبي كان يكن عاطفة ما لتلك السيدة، ربما أنه أغرم بها في توقيت مقارب لعلاقته بأمي، وربما أن هذا ما دفعه لتمزيق هذه الأوراق من مذكراته التي أعطتني إياها عمتي نادية، ليخفيها عني. لا أستطيع أن أعرف ذلك على وجه الدقة.

هل كان أبي خائفا من أن يذكر حقيقة المشاعر التي كان يكنها لتلك الفتاة؟ أم أنه تردد في أن يخبرها عن مشاعره تجاهها، ولم يعطه الآخر الفرصة. اذ بادر بإعلان حبه لها رغم أنه من دين آخر؟! أم أن أبي كان يعاني ضيق الأفق الذي يصيب المتطرفين المسلمين والمسيحيين على السواء، لا يريد أن يقول إن مسيحياً أحب مسلمة ونام معها.

لا أستطيع أن أصدق أن أبي كان يحمل جرثومة التعصب الحقيرة هذه رغم ما مر به. هل كان أبي لا يتخيل أن ينام مسيحي مع مسلمة؟ هل كان يشك، مثل الكثيرين من العوام أن دم المسيحي ودم المسلم هو نفس الدم، وأن التركيب الجيني لهما متماثل، وأن كل منهما يحب بنفس الطريقة ويعرف نفس المشاعر، وأن تركيب العقل، وطريقة تكون كل منهما، ومعهما البوذي والهندوسي، من نطفة هي نفس الطريقة التي يتكون بها كل البشر الذين يضللون بعد أن يصلوا إلى سن النضج فيظن كل منهم انه، بدينه ومذهبه، هو الجنس الأكثر نقاء؟!

هل يمكن أن أكون قد تعرضت للتضليل وظننت أن أبي مثالياً ومتسامحاً لأنه أحب أمي وتزوجها على ديانتها، بينما هو يحتفظ في أعماقه بنموذج المتعصب المتخلف؟

لا اريد أن أصدق ذلك، لأنه أكد لي أكثر من مرة أن عمي عماد، صديقه الذي مات قبل ميلادي كان يحب عمتي نادية، وأنه لم يكن يمانع، لكني عمتي هي التي لم تشعر بتجاذب معه، وربما أنها لم تشعر بجديته، لأنه تردد في إعلان مشاعره تجاهها.

هو أيضاً أخبرني أنه كان في طفولته يحب المسيحيين ويتمنى أن يكون مسيحياً لأنه كان يحب صورة السيد المسيح، وكان شغوفاً بالذهاب للكنيسة معهم إذا سمحت له الظروف، ومرتبطاً بطقوسهم وبأجراس الكنيسة أينما قرعت.

لماذا إذن حاول إخفاء العلاقة بتلك الفتاة، ولماذا لم يذكر اسمها واسم صديقها المسيحي الذي أحبته، روحا وجسدا؟ أم أنها مجرد الغيرة الشرقية التي يبدو أن أبي كان أحد ضحاياها مثل غيره من رجال هذا المجتمع الشرقي؟

لا أعرف فعلاً كيف أجيب على هذه الأسئلة، لكن السؤال الذي أهتم به فعلاً هو ألا يستطيع هذا العالم الخانق أن يفهم لغة الحب والعواطف الإنسانية التي لا تمنعها البتة فوارق الدين أو الجنسية أو الملة؟ لماذا لا يريد أحد أن يفهم؟!!

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون