ديميس روسوس.. أساطير الناصرية وكافافيس

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

توفي قبل أيام المطرب اليوناني الشهير ( الإسكندراني المولد ) ديميس روسوس ، لكن الذكريات التي تلتصق بصوته ولحيته لم تمت وبقيت عالقة في حدائق أيامنا ، ممتنعٌ وردها عن الذبول ، ولم يزل حتى محطات قطارات المهجر يثير فينا ما كانت تفعلهُ قصائد يوناني آخر هو الشاعر ( قسطنطين كافافي ) حين يمازحنا الصوت الموسيقي القوي لروسوس في أغنيته الشهيرة ( FAR AWAY  ). فيكون الجمع بين كلمات أغنية وصوت مطربها وبين كلمات قصيدة وإحساس شاعرها ، كمن يجمع كوميديا دانتي برقة التفاؤل في صباحات فراشات بساتين جدي في ناحية أسديناوية.

كنا صبياناً في المدرسة المتوسطة نعيش حلم حياة الفقراء في مدينة جنوبية ـــ سومرية تدعى ( الناصرية ) عندما أتى مسجل الكاسيت الياباني ( السانيو ) الى عالمنا ، لنعيش رومانسية سماع أغنيات شامي كابور وراجيش كنا وفاجانتي مالا في الافلام الهندية ، لكن ديميس روسوس أتى كما البرق ليؤسس في بهجتنا الاصغائية نمطا مثيرا من حب هذا الايقاع السريع ، والصوت المتوتر ، ولنطرب مع الأغنية كحدث جديد وتقليعة في حياتنا حتى عندما كان بعضنا لا يفهم معنى كلماتها ، لكن الصوت اليوناني لروسوس والايقاع المتسارع مع نبض قلوبنا ، وخفايا شرق مدثر بإغريقية لذيذة حمل في طيات الذاكرة السر الغامض لانتشار هذه الاغنية في أوساط الشباب والصبيان.

لا أدري إن كان روسوس من قادني الى كافافيس وقراءته أم العكس ، لكني أعتقد أني سمعت المطرب قبل أن أقرأ الشاعر لأول مرة في كتاب ترجمهُ الشاعر العراقي سعدي يوسف بعنوان ( كافافي 100 قصيدة).

دهشة الصوت الذي تتخيله في عمق ما ورثت من موهبة الاحساس ، أنه صوت البحر ، صوت الأشياء اللامعة في متغيرات حياتكَ الجديدة بعد أن غادرت الهلع الطفولي الذي يسكنك وانتَ تسمع حكايات جدتكَ عن العفاريت والجن وعبد الشط والنسرة ، لتدخلكَ مكتبة المدرسة الابتدائية الى قصص محمد عطية الابراشي وحكايات مجتزأة من الف ليلة وليلة ، ثم تتطور قراءاتك الى الابعد في مراحل عمرية قادمة، حيث يفاجأك عالم السينما وروايات دوستوفيسكي وكولن وولسن والدون الهادئ ونجيب محفوظ .

تتذكر الصوت اليوناني بانفعاله السريع وخرخشته اللذيذة. فتعيش أحاسيس صباك المدثر بمراهقة مبكرة ، ويسكنكَ أحساس اللذة بمتعة الجديد الذي يسحركَ وتحاول معه أن تمتلك ما ليس لكَ قدرة على امتلاكه ، بسبب أنك تقع في قعر الحفرة الازلية التي يسمونها ( الفقر ).

تمزج الآن صوت ديميس روسوس بمفردة فقر ، فلا تحصل سوى على امنيات وحسرات وأحلام ، وفي المحصلة تنال من تلك الذكريات ربح أنكَ اصبحت شاعرا أو روائيا ، وأنك بفضل تلك النظرات الحزينة ومتعة العيش اللذيذ في اجواء أغنية (     FAR AWAY     ) تستطيع أن تتمنى وأن تحقق أمانيكَ تلك في المستقبل القادم.

يموت ديميس روسوس ، وقبله مات كافافيس ، وبعدهما ستموت أجيال ، ولكن صدى الجمال هو من يبقى خالدا ، تلك أزلية الوجود التي وصلت في مدن جلجامش وأقتنع فيها بعد رحلته الأسطورية للبحث عن الحياة الأبدية ، تعلمتها من دموع أبي ومن الحياة الجنوبية الهادئة والبسيطة والمسكينة لأهل مدينتي ، وفي المحصلة أكتشف في أول يوم لي وأنا أتأمل بعيون مشتهية وسعيدة شوارع العاصمة اليونانية أثينا ، أن تلك الاغنيات التي تحمل متعتها الغامضة حتى دون أن نفهم معناها كانت تمثل الرغبة في الولوج الى عالم الاكتشاف ، وعرفت ايضا في أول صباح لي في العاصمة اليونانية ، أن الالياذة وملحمة يولسيس وخواطر سقراط الفلسفية وغراميات ليل حصان طروادة أنما هي امتداد بعيد لطقوس الموت الجنائزي في أقبية مقبرة أور المقدسة ، وأناشيد مواسم الخصب والحصاد السومرية ، وأن صوت المطرب اليوناني ــ الإسكندراني له تفاعلات حيه وتاريخية مع قيثارة شبعاد أو حنجرة المطرب الريفي داخل حسن.

بين كافافيس وديميس روسوس والمدينة التي تعاشر الطين والمقاهي ونعوش شهداء الحروب ومتطوعي الحشد الشعبي ( الناصرية ) ، أرسم جدلاً أسطورياً لمراثيَّ موت الأشياء الجميلة .

يداهمني طيف الزمن البعيد ، فأخيط لذهن البهجة في التمتع بسحر شريط الكاسيت ، أخيط ثوبا من متعة تلك اللذة الهيلينية التي كان كافافيس يعيشها في غرفة بضوء خافت ، وحتما هو كان يستمع الى اناشيد جنود وربات عذريات ، وجنود خُنث يحملون المتعتين معا ، ( الأنوثة والذكورة ) وإيقاع سيف حرب اللذة التي يظن الشاعر أن اثينا والاسكندرية وحدهما من يصنعاها.

أسمع المطرب اليوناني الآن وأعيد في نفس الوقت قراءة قصائد الشاعر وبينهما أستعيد عطر مدينة بعيدة عني .فيسكنني هاجس التمني أن أحضر قداس وداعه الأخير ، متذكرا قناع وجه الشاعر الشمعي في الليلة المتوسطية التي رحل فيها ، وقد تحدث الروائي لورنس داريل صاحب ( رباعية الإسكندرية )” عن دهشة هذا الحزن الذي سكن ورافق اساطير عزلة الرجل الذي كتب ( البرابرة ، والمدينة ) وهما الذ قصيدتان في مسامع صباي ، وربما قصيدة المدينة بخرابها المبكر في خواطرنا قد جمعت بطيف من متعة نسج الاحلام تلك الموسيقى السريعة لأغنية روسوس فكان علينا أن نعيش ثقافتنا الجديدة بصورة اكثر اتساعا في جغرافية التمني ، فمن نراه في المقهى يحمل كتابا لقصائد كافافيس ومسجل كاسيت يبث اغنية روسوس نقول عنه : سيكون مصيره في النهاية الرحيل الى اثينا.

بين الناصرية وأثينا التي أجوب شوارعها الآن موسيقى مغن برأس كبير ولحية كثيفة وكيتار ينفعل مع انفعالات التيار الكهربائي الذي يمر بين اوتار الآلات وحنجرة المغني.

بينهما شاعر آثر العزلة والكتابة عن مجد يفترضه بلذته الحسية ، جمعٌ لذكورة مؤنثة ولكن بمجد حربي رائع ، لأضع تفاصيل مشاعر حزن اليوم الذي أسمع فيه نبأ رحيل المطرب الذي صنع لنا أمنيات عبور جدران الطين الى مدن الرخام والقمصان الشفافة لألف افروديت وفينوس تصادفكَ في الساعة الواحدة اثناء نزهتكَ الصباحية الاثنية الأولى.

مات المطرب الساحر . لكن اسطورة ال (FAR AWAY  ) بقيت ترسم لذتها الغامضة فوق سطوح بيوت نسائم الهواء الآتي عبر بساط الريح وأجنحة الآلهة الثملة من الجهة التي تقع فيها دمعة أبي الذي عشق الناصرية ولم يسمع في حياته مرة أن هناك حربٌ أسمها طروادة ومدينة تدعى أثينا………

 لقد كانت الناصرية بالنسبة لأبي كما المدينة عند كافافي :هي الخراب أينما حَللتْ……….!

 دوسلدورف

28 يناير 2015

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار