د. رضا صالح
أيامها كنت أبحث عن عمل بالخارج، لم أجد الفرصة المناسبة، تركت صورا من مؤهلاتى ورقم هاتفى في أكثر من مكتب لإلحاق العمالة، بعدها بسنوات تناسيت المسألة برمتها؛ بعد ثورة 2011 وفى يوم شديد الوطأة؛ سافرت إلى المستشفى عصرا؛ لم أذهب هذه المرة كطبيب؛ ولكنى ذهبت لزيارة أخى؛ كنت واهما نفسى بالتفاؤل بعد العملية التى أجريت له منذ يومين بالدماغ لتفريغ نزيف دموى ضاغط على المخ، تركته بالأمس في تحسن، يتكلم ويأكل ويتحرك قليلا ..حذّرنا الطبيب الاستشارى من أى خبطة حتى لا تفسد العملية؛ عندما رأيته لاحظت تدهورا سريعا في حالته؛ أصابنى رعب وأنا أرى أنبوب القسطرة البولية في نهايته كيس البول وقد تدلى من جانب السرير، دخلت احدى الممرضات الحجرة ودفعت الى فمه بعض أقراص؛ تساءلت عن أنبوب البول؛ لم يكن في حاجة اليه؟ ردت الممرضة أنه تم تركيبه في الظهيرة لأن المريض فقد القدرة على التبول الارادى! عندما همّت لتشلح ملابسه لتذرف محقنا في اليته شاهدت البامبرز! تسألت: والبامبرز؟ أجابت.. التبرز كمان … نظرت اليه مدعيا التبسم وقلت ها ازى الحال؟ رأيته فجأة وقد حاول أن يتكلم فلم تخرج من فمه كلمة؛ كأننى أهبط الى قاع سحيق؛ تماسكت قائلا:
وفقد القدرة على الكلام أيضا؟! رأيت أقراص العلاج التى كانت قد قذقتها في فمه منذ دقائق وقد خرجت من فمه مختلطة باللعاب، لم يستطع أن يبتلعها، كان ينظر فقط، قلت لها:
والبلع أيضا؟
حاولت أن تتهرب من السؤال وهى تمسح فمه بمنديل ورقى ولم ترد.. فجأة لاحظت جانب وجهه وقد انحرف الى الناحية اليمنى،بدأ يتشنج وتعلقت عيناه باللاشىء، وأنا أحاول أن أسترجع انتباهه جاذبا ذقنه ناحيتي، ولكن لا حياة لمن تنادى! في لحظات تلوى جسده وتشنج وهو يهبط لا إراديا من السرير بسرعة؛ بركت على الأرض لاستقبله حتى لا يرتطم رأسه بالبلاط،؛ رجوت الممرضة أن تستدعى الأخصائي، ساعتها رن الموبايل وأخى ينزلق من بين يدي والممرضة تحاول معى حمايته من الوقوع، لم أرد على التليفون، عاد الرن مرة أخرى؛ لم أرد، ثم أعاد ثالثة ورابعة.. كنت متخذا وضع القرفصاء على أرض الحجرة،ويداى ممدودتان تحت رأس أخى وجسده؛ بعد لحظات جعلنى حب الاستطلاع -لا اراديا- أمد يدى إلى الموبايل، وضعته بين أدنى وكتفي؛ ومازالت يدى تحت رأس أخى؛ فردتها كوسادة له وأنا ما زلت جالسا على البلاط.
نعم..
لو سمحت ممكن آخد من وقتك دقايق؟
أهلا.. اتفضلى.. خيرا؟
معك يا افندم مكتب تشغيل الدقى !
نعم؟
مكتب تشغيل العمالة بالخارج يافندم
نعم؟
فيه عرض لسيادتك ممكن أقول لك عليه؟
نعم؟؟ أيوه..
احنا محتاجين خبرتك يافندم !..خبرتك مطلوبة..
تذكرت في هذه اللحظة أننى مازلت طبيبا؛ لم أدر ما أقول لها، ولكنى تماديت معها في الاستماع؛ ربما تتحسن معنويانى وتركتها تتكلم ..
العرض في ليبيا؛ في بنى غازي، السكن عائلي مؤثث ،وتذاكر السفر مجانية، والمرتب وبدل السكن والعلاج المجانى و..
في هذا التوقيت كانت ليبيا ودول عربية أخرى تموج باضطرابات سياسية وكانت الإقامة فيها تشبه نوعا من الانتحار
قاطعتها.. أنا الآن في المستشفى
أيوه العمل في مستشفى ال ..
لا أنا أقول لحضرتك أنا الآن في المستشفى !
عطَلت حضرتك عن الشغل؟
لا أنا هنا مع أخى ..أجريت له عمليه خطيرة
سلامته يافندم
الله يسلمك
أتصل بحضرتك وقت تانى…؟
في نفس اللحظة حضر طاقم من الممرضين ومعهم تروللى وقاموا بنقل أخى؛ سألت الطبيب المعالج:
رايحين العناية المركزة؟ اومأ برأسه بالإيجاب .
سارعت بالخروج من الحجرة؛ كان البورتر يدفع التروللى أمامه؛ وحوله ثلة من الأطباء والمعاونين؛ عدوت وراءهم، ساعتها كان الركب قد هبط الى الدور تحت الأرضي؛ أمام باب قاعة العناية المركزة الذي فُتح، انقطع صوت الموبايل تدريجيا.. بينما دخل التروللى خلال الباب الضيق الذي يقف عليه موظف الأمن بجسده الضخم ومنكببه العريضين مادا ذراعه أمام وجوهنا ليكون حاجزا يمنع به دخول أهالي المرضى والمتطفلين المتسكعين خلف التروللى!