عزلة

سارة عبد النبي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سارة عبد النبي

في نقطة ما من خيالي المستفيض في رسم تفاصيل الحكايات، كان صباح متوترا، حزينا للحد الذي تشعر فيه بالألم يسحق أمعاءك، بقلبك يتهاوى منك لأسفل، لبؤرة معتمة باردة بداخلك، تحيطه كل المخاوف التي كنت قد توهمت أنك انتهيت منها للأبد. أهو الوداع، هل آن لذلك الخيال أن ينتهي؟.

أخذت تجمع زهور الياسمين المتناثرة فوق سور أسمنتي قصير، وتشبكها معا، فصارت طوقا جميلا. اشتهيته، مددت يدي لك، فرددتها بقسوة. وضعته فوق رأس فتاة تُحبها، ومحوتني تمامًا من ذاكرتك.

وجدتني وحدي في اللا مكان، فرحلت بعيدا حيث طفولتي، التي لم أدرك حينها أنها كانت شديدة البهجة، شيء تعيس أن ندرك جمال اللحظة بعد انقضائها بزمان، فتغدو كأضغاث أحلام، وتبدو الذكرى ناقصة شيئا جوهريًا ضاع في غفلة الطفولة، نظل نطارده  في الكبر كالسراب.

أتعثر بين الحنين وخطوات أبي الهادئة، على نفس الأرض التي أخطو عليها الآن، ألوذ بظله الذي كان، بصمته الطويل المريح، كم كنا نجلس أنا وهو طويلا لا يزعج أحدا صمت الآخر، أما الآن فتحاولت لثرثارة، حتى أكون الصورة الأفضل التي يتقبلها الناس، فهم يعتبرون الأنطوائين الصامتين مصدر إزعاج أو مادة للسخرية على أقل تقدير، وما زلت غير سعيدة، وغير متأكدة أني أجدت ما أفعل. هذه الكلمات، هذه الأحاديث التي أتشاركها مع الآخرين لا تشبهني مطلقا، لا تخرج بسلاسة الحكي المريح التلقائي، أعاني وأنا أخترعها، وأرتبها لتبدو جيدة، أعاني وأن أنطقها، أعاني بشدة عندما أسمعها تتردد في الأرجاء..

صمت أبي وملامحه الجادة كانت تخفي خلفها كوميديانا ساخرا ورجلا شديد الحنان واللطف. يقف أمامي بشعيرات ذقنه السمراء، وسنوات عمره الخمسين التي غادرنا بها، وعالمه الذي انطوى بعيدا خلف الزمن والسنين، وانطوت معه فترة مرحة من حياتي.

كان أبي منهمكا نشيطا كعادته، عصفورا رشيقا يغني بفيض من مشاعره المرهفة، وعيونك الصيف وعيوني الشتا، ملقانا يا حبيبي خلف الصيف وخلف الشتا، ينهمر اللحن بداخلي الآن، نهرا من الدموع، كم هى حزينة أغاني فيروز، حزنها كان فرحا غازل القلب ولم يكتمل، حلما اقتطع من أحلامي بك يا سلام، وسكبته تلك المرأة في عينيها وحنجرتها، ليخرج غناءا بساطته في التعبير عن الأمل أو اليأس تجعله موجعا في كل أحواله.

أخذ أبي يسقي الأشجار كالأيام التي كانت، يهذبها، ينثر الظل، و ضوء الشمس الذي أخفاه خلف ردائه الأبيض الفضفاض ورحل به بعيدًا حيث ذهب..

يعتني بالأزهار كأطفال صغار، يدللهم، براعم تبدو أكثر نضارة وخضرة  بين يديه، يلامس الأغضان والأوراق بخفة وحنان غير عادي، عاودت الاستنشاق من جديد، روائح الليمون، الورد البلدي، الريحان، القرنفل، امتزجت في صدري كالنسيم الرطب، فشفيت، وانتعش العمر الصدىء للحظات..

عاتبته كثيرا على زراعة تلك الزهور البيضاء الصغيرة عديمة الفائدة التي فرقت بيني وبينك، كانت تتسلق جدار حديقتنا القصير، مندفعة منه خارج البيت، تغري الصغار، فيقطفونها بأيادي متسخة، ويصنعون منها أطواقا، يضعونها فوق رؤسهم وحول أعناقهم. شعرت بالشماتة عندما تذكرت أنها كانت أطواق هشة جدا، تسقط منهم سريعا في فراغ شارعنا الضيق، الملوث دائمًا بمياة زرقاء رائحتها بشعة.

ماتت جميع أشجار الياسمين في ذاكرتي، أحرقتها، فطالت نيراني  أشجار حديقة أبي، غدت أرضها فارغة حتى في خيالي، جرداء مثل القلب الخالي من حكايات الحب، ما زلنا نسميها الحديقة، ولكنها خالية من كل معاني الاسم وبهجته، كم هي صورة حزينة ومفزعة..

سلام ألا تخجل وقد خلقتك، ومنحتك اسما وكيانا ورسما، وتفاصيل كثيرة، غزت صورتك أفكاري، ولان لك قلبي على غير عادته، ألا تخجل وقد اتنزعتني من الماضي لأحيا من جديد، من عتمة الوحدة. ألا تخجل وأنت هنا بين أصابعي، بين نقطتي ضوء على جدار في غرفتي، صنعت أنت من هذا الوهم ساحة للحب، تتبادلان فيها القبلات والهمس، وبدايات الغرام الجميلة الدافئة التى اشتقت إليها معك، كل ذلك على مرأى مني. وصوت أم كلثوم لم يفارق حتى الصباح، صالحت بيك أيامي، سامحت بيك الزمن، نستني بيك آلامي، ونسيت معاك الشجن..

ثم مشيت معها فوق الرمال، تسندها إن تعثرت، تذوبان معا في موجات البحر، ترتفعان وتهبطتان بخفة، كالطيور في الأعالي. حتى الشِجار والهجران بينكما كان مشهدا حميميا تمنيته. كل ذلك الانسجام ملأ قلبي بالغضب، بالآسى، شعور تعيس أن تملىء الأشياء الجميلة الملهمة نفسك بالآسى، بالضياع، تشعر أنك مجرد حشرة متطفلة على عالم سعيد، عالم لا مكان لك فيه، تنظره فقط من الخارج، ومن مسافة بعيدة تدور حوله، عارا عليك لو اقتربت، لو اشتهيت لأنه ليس عالمك، عالمك في أعماقك يتدفق كلهب البركان المشتعل، تجاهد في اخفاءه عن أقرب الناس إليك، لأنك ببساطة لا تستطيع أن تشير إلي  هذا الجنون لأحد.

حاولت تشتيتك عن ما تصورت أنه يبعدك عني، حاولت تشتيتك عن هذا المكان الذي يأخذك من أفكاري وتصوراتي، عن هذا الوجه الأسمر الذي يشبهك أكثر مني، كأنه تؤامك، وتسعدك رؤيته وسماع صوته أكثر من وجهي. هذا الوجه الذي تفتقده الآن وتشتاق إليه بشده، وتسهر الليالي تعذبك الألحان من أجله. أنا أشعر تمامًا بك، من يعرفك مثلي، ومن تدمي أحزانك قلبه أكثر من قلبي. ولكنها حكاية قصيرة يا سلام، ضمن ألآف حكايات الغرام فلا تبتئس.

أتذكر في المرة الأخيرة، وكانت قاسية، حين عدت للمنزل وجدتك تجلس مع أمي في صالون منزلنا العتيق، تمضغ الكيك وتشرب الشاي سريعا لتمضي، لاحظت أنك تتهكم على أحاديثها العجوز عن الجيران وذكريات الصبا، فكها الفارغ من الأسنان، حركتها المرتبكة أمام الغرباء. قلت لك يا سلام هذه أمي، لا تسخر منها، ألك أم، أتحب أن يسخر منها عزيز لديك.

قرأت عليك فصلاً من روايتي عن الأحلام العنيدة والحب، عن عجلة الخيبات التي ندور فيها بلا توقف ولا انسحاب، بمنطق غير مفهوم. عن الفنون التي يسحق جمالها عشاقها المقهورون، المرهفي الحس، تقتلهم بوداعة، قطعة قطعة منهم تذوب وتختفي، تنصهر من فرط سطوة اللذة عليهم، من فرط التناقض الحزين بين الانسحاق في عالمها الأثير، والرضا بهذا الواقع الضبابي. أي فخ هذا الذي تنصبه، نتصورها وهم نهرب من كل شيء إليه، ثم في لحظة ما ندرك جيدا كم جعلتنا نكتشف ما يدور حولنا بدقة أكثر من ذي قبل، ندرك كم هو مؤلم وحزين وغير محتمل.

أقرأ عليك كل فقرة بتأني فيظهر على ملامحك الضجر، صارحتني أنها مملة، فارغة من أي مضمون حقيقي، وهذا مصير كل ما قرأت عليك وما سأقرأ، ناصبتني العداء فجاءة، هاجمتني في كل كلمة أقولها، دارت بيننا أحاديث أرهقتني. قلت لا تملكين شيئًا، تقومين برص الكلمات والجمل لتبدو جميلة مبهرة، فقط لتثير مشاعر التافهين، والغثاء لي، ولكنك عاجزة عن التعبير بصدق عن شيء واحد حقيقي بداخلك، قلت لي لا تملكين شيئاً فتوقفي للأبد لا أريد سماعك. أشرت لأمي وتابعت (وبالمناسبة لم أكن أسخر منها، بل منك.. ولكنك لا تسمعين  إلا ما يدور بداخلك ولا ترين إلا ما تريدين رؤيته).

في لحظة كالنور الخافت في العين، دار بيا العالم، غضبت منك كثيرا، ليس لأنك لا تقول الحقيقة، بل لأنك تقولها تماما، هذا ما انقضى عمرى أهرب منه، كنت أعلم أن انغماسي معك في حكاية ما سيسبب لي كل هذا اليأس والإحباط، سيردني لحقيقتي المرعبة، أني شخص عادي جدا، عادي لدرجة الملل، لدرجة العدم. ومع ذلك غامرت بافراط دمرني. عانيت معك بشدة هذه المرة من قسوة الرجل الذي خلقته حنونا..

يا عزيزي يوما ما سأترك الكتابة، فلا تجذع وأنسى ما قرأت عليك عمراً، سأتركها مثلما تركت من قبلها أشياء كثيرة أحبها، فبيني وبين التخلي ميعاد مقدر ومحسوم.

أنا فقط وحيدة جدا، الكتابة مهربي، استبدلت بها ادمان الغرق في حكايات الماضي، فلا تكن قاسيا في حكمك، لن أكن يوما كاتبة مشهورة، لن أنشر ما كتبت، لن يقرأه  أحد غيري، وهذا سبب آخر للحزن، سيظل حبيس عقلي ودفاتري. هو بيني وبينك، وما بيني وبينك تنقطع أوصاله الآن..

 تعرف أن الكتابة موهبة اخترعتها لتسليني، لتجعل من حولي يفكرون بي لوقت ولو قصير، الكتابة مثلك، مثلما اخترعت عندما انكرني العالم. ربما عندما أتصالح مع فكرة أني بلا أي مواهب على الإطلاق،  عندما أتصالح مع وحدتي، وأنتهي من التعلق بالأوهام والأمل والخيال المريض. عندما أكتفي منك تماما، وأنا أتقدم في طريق الشفاء من كل ذلك بالتأكيد..

سلام، منذ متى وأنت معي، منذ خمس سنوات مضت، ربما عشر أو أكثر، لا أعرف على وجه الدقة، هو عمر طويل فقط، ولكني أجهل البداية الحقيقية.

لا نعرف أبدا متى تبدأ حكايات الخيال المطاطة، التي تتشعب بداخلنا كالأشجار العملاقة المعمرة، ثم تسحبنا بداخلها ببطء حتى تبتلعنا تماما ونتوه، ويختلط علينا الحقيقي بالمختلق.

تلك العلاقة لم أقلق يوما فيها من فكرة الزمن، من تغير الطبائع والنفوس. طالما كنت معك أنضر، أجمل، أقل خجلا وانطواءا، خطواتي إليك أكثر ثباتا من أي علاقة أخرى كنت فيها، طفولة الأشياء في قلبي دامت، ما أكتفيت أبدا من ما أريده من الحياة وأنا معك. دورنا على المقاهي، على السينمات والمسارح الكبيرة ذات الأضواء المبهرة، رقصنا معنا في غمرة يأسي وانكساري، حتى ذوبت زلزلة لحظات الفرح التي اخترعنها، ولم أتذقها إلا معك، شجن لحظات الحزن الذي يحيطني دائمًا بهالة من ضوءه الأزرق..

دورنا معا على أحلامي التي لم تعجزني، لأني كنت مثلك تماما يا سلام، صورة من ذاتك التي خلقتها بوجداني وشغفي، وفرضتها عليك. من أمنيات الشباب الأول، من ألحان أغاني عشقتها، وكم تمنيت أن يشبه رجلي الموسيقى. من مشاهد الأفلام الحلوة، من ملامح عابرة أحببتها. تكونت، ثم تبعتك كظلك عندما لم تتبعني أنت كظلي. طائرة ورقية يؤرجحها الهواء في يدي، لم أحاول أن ألجمها ولكني صرت أركض ورائها في استسلام مميت، حتى صارت هى الطرف الأقوى المسيطر، فجذبتني لأعلى، متحدية كل قوانين الجاذبية، بجانب الشمس والنجوم والكواكب كان قلبي متربعا، ولم أحسب وقتها آوان الهبوط المفاجيء.

اسميتك سلام، حتى أستطيع أن أهدأ قليلا، وتنعم روحي بالسكينة، فلا أرحتني الأوهام يوما يا صديقي.

كنت فقط أريد شخص أحكي له حكاياتي التافة التي تؤرقني، التي لا يلتفت لها أحد، أفكاري المشوشة المبعثرة عن نفسي وعن العالم، كنت فقط أريد من يشاركني الصمت ولا ينتقده. اخترعتك يوم ما وأنا أقطع الشوارع وحدي متأملة صخب الليل، وحكاياته التي تنسحب مع أول خيوط النهار، لأقول لك أني أحب ترافيس بيكل وأكره بيتسي بشدة، الملاك الأبيض الوديع في خيالات ترافيس الحزينة، خيالاته التي تمزق قلبي، وتجعلني أريد أحتضانه وحمايته من العالم ومن نفسه، ومن بيتسي الثقيلة الغبية المزيفة، حتى جمالها النوراني يبالغ في توهمه عزيزي ترافس. برغم ذلك أحببت منها شيء واحد، وصفها له، هو نبي هو إنتهازي وإلى حد ما خيال. تلك الكلمات كأني قلتها يوما، متى وإين لا أعرف.

 دخل ترافس قلبي بكل تناقضاته وخطاياه، عصفت روحي وحدته المضنية في سيارته التي يجوب بها ليلا شوارع المدينة، رسائله التي يكتبها لأشباحه التي تستنزف أيامه. حلمت به يجلس في زاوية بغرفتي مرات، كانت عينيه كالنجم المضيء مصوبه نحوي بحدة، برجاء، كان سكرانا ويبكي، يتكلم حديثا بالكاد أفسره، عن الحزن، عن الخوف، عن العزلة التي تدفع لأشياء خطيرة. حديثه مقفى يشبه الشعر. نظرت لأمي وإخواتي مرات بخجل، ثم مرات بعتاب. تمنيت لو أن الغرفة خالية لبضع دقائق، فقط بضع دقائق. فالرغبة لاحتضانه مختلطة بوجع الندم من ضياع الفرصة تقرع قلبي بشدة، تجعلني أختنق. في غفلة من الزمن والناس، ناديت عليه من زجاج سيارته المفتوح، ترافيس، احتضتنه وقبلته على جبينه قبل أن يصلني الجواب، كان ذلك دافئا ومأسويا.. ثم وجدت من بين يدي عملاقا، ذا بشرة خمرية, له ملامح تتبدل وتتغير في ثوان،  رفعت وجهك وكنت لا تعرفني، انكرتني كالجميع، ثم تلاشيت من يدي في لحظات، لا شيء، كإنكسار الأمواج على الشاطيء بعد رحلة طويلة مرهقة. في فراغ السيارة سكن مكانك عتمة موحشة، وأنفاسك أحتل مكانها برودة الشتاء الذي أكرهه. لم يثنيك رجائي بالبقاء، ولا رغبتي الشديدة في الحديث معك ولو لوقت قصير. غبت تماما، وكنت فقط أريد أن أقول لك أني أحب ترافيس بشدة وأكره العالم الذي ينكره.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون