“خافية قمر ” هى الإفتتاحية القوية التى قدّم “ناجى ” تنويعاته المختلفة عليها فى أعماله التالية ، لابد أن نتوقف أولاً عند مفتاحين للرواية سيفتحان أمامنا أبواب الخافية : المفتاح الأول هو عنوان الرواية ، والمفتاح الثانى هو أن ننظر الى الرواية باعتبارها مأساة “عبد الحارس” /الراوى لا مأساة قمر / المروى عنها .
أول ما يخطر على بالك عنما تقرأ تعبير “خافية قمر ” أنه الرد الساخر على أبيات شاعر الغزل الشهير “عمر بن ابى ربيعة ” متباهياً بجماله :
قالت الكبرى : أتعرفين الفتى ؟ قالت الوسطى : نعم ، هذا “عمر”
قالت الصغرى وقد تيّمتُها : قد عرفناه ، وهل يخفى القمر ؟
يقول “ناجى” ساخراً من خلال عنوانه / المفتاح : ” نعم يا سيدى يخفى القمر ، لأنه متعدد الوجوه مثل بطلتنا قمر ( قد يصحّ ايضا أن تكون تجسيداً للحياة او للحقيقة او للإنسان عموما فالثلاثة يشبهون القمر فى تعدّد أوجههم وأحوالهم ) .. ولذلك ساقدم لك “قمر ” _ يقول ناجى _ فى كل أحوال القمر ( بدر وهلال ومحاق ) ، وسأقدمها فى كل أحوال الطبيعة البشرية ( فتاة بريئة وأنثى عاشقة و امرأة شهوانية خائنة وأمّاً حانية ) ، بل إننى سأعدّد أسماءها مثلما سأعدّد أسماء بعض الشخصيات ( سلمى / قمر) ( إدريس البكّاء/ عبد القهّار ) ،و سأعدّد أسماء الاماكن ( روضة إدريس / خافية قمر ) .
يقول “ناجى” من أول كلمات العنوان : سأحكى لكم عنكم ، عن الإنسان وتناقضاته ، هو مثل القمر يبدو واضحاً ، هالة من النور ، ولكنى سأقترب منه لنكتشف كل تضاريسه فى العقل والقلب والجسد والروح ، تعال معى لنكتشف أيضاً فكرة الحقيقة المراوغة ، لنكتشف تقلّبات الحياة والزمن ، تعال لكى نعرف أننا لا نعرف ، اقرا حكايتى لكى أثبت لك أنه لاشئ أخفى من القمر رغم ظهوره ، لاشئ أصعب من الإمساك بالحقيقة على افتراض وجودها ، لا شئ أكثر تقلّباً من الإنسان رغم وجود القمر0.
ولأن مضمون الرواية وجوهرها هو تقلّب القلوب وحيرة العقول وتغيّر الوجوه والبشر والحياة ، ولأن مغزاها الفلسفى هو نسبية المعرفة وزئبقية الحقيقة ، فإن شكل السرد وطريقة البناء من العنوان الى السطر الأخير مروراً بدور الراوى وتقسيم الفصول والدوائر التى تحيط بالشخصيات وتجعلها تدور حول نفسها ، كل ذلك يصنع متاهة ذهنية ومعرفية مقصودة ، وكان “ناجى” ألقى فى الماء بحجر كبير صنع أولاً دائرة صغيرة هى مأساة “قمر” ، ثم صنعت الدائرة دائرة أكبر هى مأساة “عبد الحارس” ، ثم دائرة أكبر وأكبرهى مأساة الإنسان الباحث عن أصله وماضيه وحاضره ومستقبله .
لكنك لو تأملت قليلا لأدركت أن “خافية قمر ” هى فى الحقيقة “خافية عبد الحارس ” الراوى الباحث عن تاريخه الغامض ، هو مصدر المعلومات ومأساته أخطر من مأساة قمر التى يحكى عنها : هو أولا يمتلك ذاكرة ولكنها ذاكرة أسطورية لا يعترف بها العصر الذى يعيش فيه ، وهو ثانياً يحكى قصته فى حانة يعتقده روادها أنه مخمور ، أو يحكى قصته لأطباء يعتقدونه مجنوناً ، وهو ثالثا يحكى لنا بالأساس كبشر لنا نفس مشكلته ، نحن أيضاً نعانى من التناقضات وتعدّد الوجوه والبحث عن الأصل وسط الكثير من الروايات الأسطورية والدينية والعلميّة والفلسفية ، نتحدث طوال الوقت عن الحقيقة بينما لا نستطيع أن نفهم أنفسنا ولا تاريخنا القريب أو البعيد ، مشكلتنا هى نفس مشكلة “عبد الحارس” ، معرفيّة بالأساس، مشكلتنا أننا سجناء طبيعة متقلبة ومتغيرة مثل “قمر” ذات الوجوه المتعددة .
مفتاح رواية “خافية قمر “كلها فى هذه العبارة الهامة على لسان الراوى : ” كيف لى أن أعرف ولم أشهد أىّ أمر فى بدايته . جئتُ بعد أن تمّ كل شئ وتعددت الأقوال حتى اختلط اسم بلدتنا خافية قمر أم خافية إدريس ؟ ” . ولهذا فإن القراءة الصحيحة لهذه الرواية العظيمة أن تُفهم با عتبارها مأساة “عبد الحارس” لا مأساة “قمر” رغم أن الإثنين يمثلان الإنسان سواء فى فوضى المعرفة، او فى تناقضات القلب والعقل ، ولكن مشكلة المعرفة هى محور الوجود وعليها تترتب كل القرارات والمصائر .
يتلاعب “ناجى” الحكّاء البارع بكل أدواته لخدمة فكرته ( مشكلة المعرفة ونسبية الحقيقة ) ، فالراوى العليم بكل شئ فى الرواية التقليدية يتحوّل هنا الى ما يمكن أن نسميه “الرواى الذى نشكّ فى أنه يعلم أىّ شئ ” ، من الوارد ان يكون هذا الحكّاء المخمور المتهم بالجنون قد اخترع كل شئ عن قمر وعبد القهار وعبد الغفار وغراب وبرهان الحيران (لاحظ التناقض بين الإسم الأول والثانى ) ، بل إنك عندما تقوم بتفكيك السرد ستجد ان “ناجى” السارد الماكر (خلف السارد العليم المشكوك فيه ) يكاد يلخّص روائيا فكرة “أوجست كونت ” المعروفة عن أطوار المعرفة الإنسانية : فمن التفسير الأسطورى ( جُرح عبد القهّارالأبدى وكراماته وحكاية إنجابه لعبد الحارس من هذا الجرح بكل المعانى الميتافيزيقية المتخيّلة ) الى التفسير الدينى ( خيانة ثم خروج من الروضة ثم هبوط عبد الحارس من الروضة الى عالم أكثر واقعية مع عبد الغفار ، فكرة ثنائية الروضة والخافية ، ثم الإشارة الدينيّة الأهم حول المشيئة والقدر المقدور وكأنه كُتب على الإنسان فى اللوح المحفوظ أن يعصى ويخون فيهبط من الروضة الى الخافية ) الى التفسير الفلسفى ( فكرة نسبية المعرفة وغموض معنى الحقيقة التى تكتسب شكلاً مختلفاً مع كل رواية دون الجزم بصحة أى منها وكأن الإنسان هو معيار كل شئ حتى الحقيقة طالما أننا سمعنا ولم نشهد بأعيننا ، تصوّرات “عبد الحارس” تبدو أيضا كظلال للحقيقة وأقرب الى أوهام الكهف عند أفلاطون الذى يرى أننا مقيدون بالأغلال التى تجعلنا نرى ما ينعكس على جدران الكهف أمامنا لا حقيقة الأشياء التى يعكسها نور الشمس من خلفنا …) ، وصولاً الى التفسير العلمى الوضعى ( ممثّلاً فى أطباء المستشفى الذين يشخّصون الحالة على أنها خلل عقلى ولا يعترفون لا بالتفسير الأسطورى أو الدينى أو الفلسفى ) . مرّ الإنسان فعلاً بمراحل التفسير الأسطورى والدينى والفلسفى وصولاً الى التفسير العلمى للظواهر وفقاً لما أشار به مؤسس علم الإجتماع ” أو جست كونت ” ، ولكن كل تفسير لم ينجح أبداً فى إزاحة التفسير السابق له ، فلا الدين السماوى مثلاً استطاع إزاحة الفكر الأسطورى ، ولا الفكر الفلسفى نجح فى إزاحة الدين والأسطورة ، ولا التفكير العلمى أزاح كل ما سبقه ، إنما هى طبقات ممتزجة تسكن الذاكرة وتؤثّر حتى اليوم على فهمنا للعالم ولأنفسنا ، وعندما يشتغل ” محمد ناجى ” فى ” خافية قمر” على الذاكرة الإنسانية فإن ما هوأسطورى يمتزج مع ماهو دينى وفلسفى سواء فى حكاية ” قمر” أوفى مغزى الرواية نفسها . تحقيق هذا الأمر شديد الصعوبة روائياً لأنه يتطلّب تمكناً من أدوات السرد والحكى ورسم الشخصيات وبناء الرموز لا نجده بهذا النضج سوى عند “نجيب محفوظ ” فى أعماله المتأخرة مثل ” الحرافيش ” . لذلك نقول إن ” خافية قمر ” كانت إنجازاً عظيماً لروائى فى عمله الأول مثل ” ناجى “، والذى أكد فيما بعد أن موهبته من نوع نادرومتسع ومتنوع .
لكن اللافت حقًا أن “عبد الحارس” / الإنسان حارس الذاكرة الغامضة يقدّم نفسه دائماً باعتباره ابن ادريس البكّاء / الرحيم العادل ، وليس ابن عبد القهار / المحارب الصارم المنتقم ، كما يبدو “عبد الحارس” أقرب فى طبيعته الى العم “عبد الغفار” العاشق الباحث عن طريق ، ويبدو أيضاً أكثر تفهّماً لتناقضات شيخ الكتّاب الشيخ شاهين الكفيف ( لاحظ التناقض بين اسم الصقر وفقدان النظر ) .. يبدو أن “عبد الحارس” والإنسان معا غير قادرين على إنكار ضعفهما وشهوانيتهما و أخطائهما ، ولكنهما لا يتوقفان عن الحلم بأن نكون أبناء “سلمى ” العذبة أو قمر الشريفة التى دفنت نفسها حفاظاً على ابنها وكأنها مزيج من حنان “مريم” وفراغ قلب ام موسى ، لا نتوقف عن الحلم بأن نكون أبناء “إدريس” صاحب الكرامات /نصف المسيح/ الجريح ، بل لدينا هذا اليقين أحياناً بأننا خرجنا من جُرح ومن إرادة ومن نفخة روح من هو أعظم وأرفع منّا بكثير ، ولا ينفى ذلك فى نفس الوقت أن “عبد الحارس” فيه شئ من كل شخصيات الحكاية ، وهو حصاد تناقضات كل الأسلاف : فيه حنان “سلمى” (من السلامة )، وحسيّة “قمر” ، وحكمة ونزق “غراب”، وقوة وضعف “عبد القهار” ، وشفافية وجرأة “عبد الغفار”، ومكر” برهان”، وتسليمه بأن ماكان حتماً سيكون .
عندما فتح “ناجى” ذاكرة البشرية حتى أعمق أعماقها وجد فيها مزيجا معقداً من أساطير وأديان وفلسفات وعلوم وأحلام ، وإنسان حائر يعتقد أن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين ويؤكد ذلك بالبرهان العقلى، ولكنه ما إن يبدأ السير فى خط مستقيم حتى يجد نفسه فى دائرة، أو فى قلب عدّة دوائر متداخلة ، يفتح باباً واحداً، فتنفتح أمامه كل أبواب المتاهة ، يعتقد أنه يعرف القمر وعندما يصل إليه يجده مليئاً بالتضاريس والمنخفضات ، ثم يكتشف أنه حتى ضوء القمر مستعار من الشمس ، يتعلق بالشمس ثم يكتشف أنها طوفان من الغازات ، وأن الدفء القادم منها نيرانٌ بردت فى الفضاء .
يعتصم الإنسان بالأسطورة فيتُهّم بالجنون، يلجأ الى الدين فيدخل دائرة الصراع بين حرية الأرض ومشيئة السماء ، يعود الى الفلسفة فيقول له الفيلسوف إن كل ما أعرفه هو أننى لا أعرف شيئاً، يهرب الى العلم فيجد نظريات تسهّل الحاضر ولكنها لا تفسّر الماضى ولا تتنبأ بالمستقبل المجهول .
رواية فلسفية ؟ نعم وبامتياز رفيع ، ولكنها حكاياتٌ من لحم ودم وعواطف وغرائز من قلب وعقل الإنسان ، كلّ الأفكار المجرّدة تخرج من المواقف والشخوص والحكايات مع امتزاج فذّ بين الشكل والمضمون . يمرّ الصيف والشتاء ، ويتقلّب الليل والنهار ، وتتغيّر وجوه الإنسان ( ملك / جريح / محارب / مخمور/ قديس / مجنون ) ولكن يظل السؤال الذى سيتردد فى أعمال “ناجى” : هل نعرف حقا ؟ هل الرواية هى فن الإجابة أم فن السؤال ؟ يقول “ناجى” منذ روايته الأولى : إننى أكتب لأننى لا أعرف ، حكايتى / أسئلتى لنفسى قبل أن تكون لكم ، تعالوا نبحث معاً عن أصل “عبد الحارس” وعن ذاكرته المختلطة، تعالوا نخرجه من الخافية أو ندخل معه فيها . لقد ولدنا لنبحث، ولنحاول ان نعرف، مابين خافية وخلاء .
وبهذا تمّت المشيئة .
(2)
إنها رواية تستحق نظرات متعددة ومن زوايا مختلفة بعدد زواياها ومستويات بنائها المعقدة ، أتوقف فيما يلى تفصيلا عند بناء الرواية المركّب والملتبس عمداً دون أن يساورك الشك أى شك فى أن مؤلفها يقوم بالإستعراض المجانى لقدراته على اصطناع عالم غرائبى أو التلاعب بالقارئ والتسلّي به ، ليس فى روايات “ناجى” كلها مثل هذا الإستخفاف ، كل طوبة فى مكانها بالضبط كما أراد لها البنّاء المحترف ، ولكن لاتنتظر من رواية محورها نسبية المعرفة وزئبقية الحقيقة أن تنتهى بك الى حقيقة على طريقة : ” انتظروا ليلاً معرفة منْ القاتل ” ، لاتنتظروا من رواية عن “الخافية ” أن تكون بدرجة ساذجة من الوضوح ، مغزى الرواية كله أن تبحث معنا عن حكاية يمكن أن تفسر لنا تاريخ عبد الحارس المضطرب ، ماضيه الملتبس ( اتفقنا فى مقال سابق أنه يمثل الإنسان ، يمثلنا جميعاً ) ، قد توافق على كل الحكايات فتصنع منها حكاية واحدة كما فعل شاعر الربابة فى النهاية ، وقد ترفضها جميعاً وتصطنع أنت روايتك ، ولكن هناك شعوران يتنازعان القارئ بعد نهاية القراءة : الأول هو القلق وعدم الإرتياح لأننا نعود فى كل مرة الى نقطة البداية ، ولأننا نبحث ولكننا لانعثر ، والثانى هو الإعجاب ( مع ذلك ) بلعبة المتاهة المُتقنة ، فإما أن تحاول أن تكتشف كيف تعمل وكيف جسّدت المضمون ، وإما أن تقنع بالدوار لأن اسئلة عبد الحارس كبيرة وضخمة وأثقل مما نستوعب .
الآن سنحاول معا ( لو كنت من أهل الفضول والسؤال ) أن نكتشف كيف قام الفن والفنان بتصميم المتاهة المتقنة التى تكاد تطرح مشكلة المعرفة بكل أبعادها ؟ كيف امتزج الشكل بالمضمون ثم تآلفت المتناقضات بأمر الفن و الموهبة لتصنع دائرة تحيط بنا ، وتشبه تماماً ذلك الخلخال الفضى الذى يحمله عبد الحارس ؟ كيف تم تكثيف رحلة الإنسان فى حقيبة بها أوراق كتبها عبد الحارس / حارس الذاكرة الأسطورية ؟ وكيف تكوّن خليط الأسطورة والحكايات والمأثورات الشعبية لتكتمل اللوحة الواسعة ؟
تنقسم الرواية الى ثلاثة أجزاء كبيرة : فى الجزء الأول مقدمة أولى تقود الى الخافية ، وفى الجزء الثانية مقدمة ثانية تقود الى الخلاء ، وفى الجزء الثالث مقدمة ثالثة تقود الى ختام مفتوح . حلقة الوصل بين الأجزاء الثلاثة هو بالطبع عبد الحارس الذى وضع ذاكرته / ذاكرة البشرية فى حقيبة يحملها على ظهره : ” كتبتُ كل شئ حتى لا يضيع من الذاكرة ، من لم يسمع سيقرأ ، فى النهاية من لا يهمّ من يسمع ولا منْ يقرأ ، المهم أن أقول وقد قلتُ كل شئ ، تمام ) . أول ألعاب المتاهة أن عبد الحارس سيحكى مباشرةً للمخمورين وللأطباء وقائع تاريخه الملتبس ، ولكنه فى الواقع يحكى لمن يقرأ ويسمع ، يحكى لنا جميعاً ، وكانه يقول : إذا كانوا لم يفهموا حكايتى لأنهم أخذوها فى مستواها الواقعى المباشر فافترضوا بى الجنون أو الغياب ، فهل ستجد لديكم تفسيرا آخر على مستوى آخر ؟ منذ السطور الأولى سنصبح جزءاً من اللعبة ، فى قلب الحقيبة ، وشهوداً على وقائعها الملتبسة ، هذا هو تاريخنا مكثفا وملفوفا فى غلالة اسطورية ، من لم يسمع عن تاريخه قد يقرأ ، وحتى إن لم يقرأ أو يسمع فالمهم أن حامل الذاكرة احتفظ بها وقام بكتابتها .
فى المقدمة الأولى نعرف عن عبد الحارس (هو أساس الحكاية ومفتاحها لا قمر كما أوضحنا فى مقال سابق ) أنه سليل ملك الملوك ، ملك قديم جدا ، لا من مائة سنة ولا من ألف ، هو أيضا وحيده ووريثه فى الملك ( على الأرض ) ، وهو ايضا ابن عبد القهار المجروح ، صاحب الجرح الأبدى ، وعنوان الكرامة والقدسية ، الملك وفقا لرواية عبد الحارس اسمه إدريس البكّاء ، مشكلة عبد الحارس أن لديه معلومات مختلفة وملتبسة عن أصله ومولده ونسبه ، وهويبحث عن إثباتات تؤكد أو تنفى هذه المعلومات ، فيما بعد ، لن نجد لديه من ” الأدلة ” سوى خلخال الأم ( هذه الدائرة المفتوحة كما فى كل نهايات روايات ناجى و التى سنراها أيضاً بأشكال مختلفة فى قلب النص ) ، من المقدمة الأولى نعرف أيضا أن عبد الحارس هارب من مستشفى الأمراض العقلية ، ولكن يقول فى شموخ يليق حقا بخليفة ملك الملوك على الأرض : “لعلمك أنا لا أخرق ولا جاهل ” ، كان يمكن أن يضيف دون خطأ : ” أنا باحث ” ، ويقول فى سياق آخر ” أنا ابحث عن أدلتى ” ، أما المشكلة فهى مزدوجة : ذاكرته أسطورية لا يستوعبها العصر الذى يعيش فيه / عصر العلم ، ثم إن مستمعيه يحاولون نسيان هذا التاريخ السحيق ، ولايفهمون رموزه ، ولذلك سيقول “عبد الحارس ” معبراً عن معنى فقدان الذاكرة : ” وثبت الفئران على القلعة فأكلت دفاتر الأنساب ، ومحت أسماء الزبّاء وإدريس المجروح وسلمى وقمر ، حتى عبد الحارس أكلته الفئران ” .
هذه إذن ومنذ السطور الأولى من روايات البحث عن طريق مثل روايات ” نجيب محفوظ ” الفلسفية ( الطريق والشحاذ ) ، ولكن “عبد الحارس” لا يبحث عن أبيه مثل ” صابر الرحيمى” فى “الطريق” ، ولكنه يبحث عن دليل على الحكاية كلها ، هناك أبوان ( ملك اسمه إدريس و وولىّ اسمه عبد القهار المجروح ) ، وهناك أمّان ( أم بريئة طاهرة اسمها سلمى وأم خائنة اسمها قمر ) ، وهناك أكثر من حكاية عن التفاصيل والبداية والنهاية تختلط فيها الأسطورة بالقصة الشعبية ، والدين بالفلسفة ، المأساة أنه لايوجد فى حكاية عبد الحارس / حكايتنا إلا التغير بكل مستوياته : تغيّر الطبيعة البشرية بين العقل والقلب والروح والجسد ، تغيّر معيار الفهم فى تحليل المعلومة ( فلسفى / علمى / دينى ) ، تغيّر الزمن ( صيف / شتاء ) ، وتقلّب أحوال المدنية والعمران ، ونتيجة كل ذلك : حيرة على حيرة ، وإنسانٌ بين قوسين ، خافيةٌ ( جئنا منها أو نذهب إليها كالشمس فى شروق وغرب ) وخلاء نعيش فيه مفتوح على كل الأسئلة ، فى النهاية سيصرّ ” صابر الرحيمى ” على أن يعرف مطالباً بالإنتساب الى أب يجعله يشعر بالكرامة ، حتى لو كان الثمن أن يضلّ فيقتل مهزوماً أمام طبيعته ، وسيصرّ ” عبد الحارس ” / ابن ملك الملوك على أن يعرف ، حتى لو كان الثمن أن يتعرض للسخرية فى الحانة ، أو يُتهم بالجنون فى المستشفى ، ” صابر” لن يلتقى أبداً ذلك الأب الغائب المشغول عنه بعالمه الخاص ، و “عبد الحارس ” لن يبق معه سوى خلخال من الفضة مفتوح على كل الإحتمالات ، وإن كان يتمسك بالأمل عسى أن يكون ابناً لملك الملوك لا مجرد عبد من ” بنى عبد ” .
فى الأجزاء الثلاثة تتداخل طبقات المعرفة الإنسانية سواء كان مصدرها الأسطورة أو الدين أو الفلسفة أو العلم ، ولكن الجزء الأول ( الخافية ) هو أساس الحكاية كلها ، والإطار الأسطورى يظهر فى الأجزاء الثلاثة رغم تطور الحياة المادية من عصر شبه بدائى الى العصور الحديثة ، وهذا بالضبط ما نلمسه جميعاً حيث تتداخل فى حياتنا طبقات الذاكرة الموروثة والمكتسبة ، فلا العلم استطاع ان يقضى على الأسطورة والدين والفلسفة ، ولا أى عنصر نجح فى إزاحة العناصر الأخرى الممتزجة معاً بطريقة معقدة ، ولكن هناك عنصر يلوّن كل مرحلة : فى الخافية أساس وفجر البشرية ، لوحة أقرب الى العالم البدائى الأول حيث يتم تفسير كل شئ على أساس قوى غيبية كامنة ، ثم تظهر معتقدات طقسية يمارسها “عبد القهار ” المجروح تقترب من كرامات الأولياء ، ولكن فى الجزء الثانى ( الخلاء) ينمو ويتحدد تأثير الدين ، فتظهر الكنيسة والمسجد وآيات القران ، وكتّاب الشيخ شاهين ، والحلال والحرام ، كما تبدأ مناقشة وتفنيد الأسطورة بل وإعلان الحرب عليها ، كما ننتقل فى هذا الجزء من مرحلة القرية البدائية الى مرحلة المدينة الأكثر تطورا ( الحكومة / الشرطة / شريط القطار مثلاً ) ، ومع ذلك تظل حكاية قمر مستمرة ، وتظل العناصر البدائية موجودة ( الفوانيس / المنجنيق ) ، أما فى الجزء الثالث ، فنحن نهائياً فى العصر الحالى حيث تزيد شراسة مطاردة الأطباء لحامل الذاكرة الأسطورية ، يحمل رسميا لقب مريض ومجنون ، ولكن يدخل عنصر جديد لم يكن فى الحسبان هو الفن ممثلاً فى شاعر الربابة الذى يقوم بتجميع شتات الأسطورة الممزقة ليصنع منها ” حقيقة جمالية وفنية ” هى الأكثر جمالا واتساقا وبراعة من كل الروايات التى سمعناها عن أصل “عبد الحارس ” دون أى ادعاء بأن هذه الحقيقة الفنية هى الحقيقة المطلقة او تعبر عما حدث بالفعل ، ومرة أخرى لا تموت الأسطورة أبداً فى الأجزاء الثلاثة ، ولكن تتغير وجوهها مثل الحقيقة المراوغة التى نبحث عنها ، ويبقى الإنسان معذباً بما عرفه ( مثل هاملت وأوديب ) دون أن يستطيع أن يتنازل عن حلمه بأن يعرف ، وشوقه لاكتشاف ما فى قلب الخافية .
ترتبط الأساطيرعموماً بعناصر كثيرة كالأحداث العجيبة الخارقة ، والأحاديث غير المنظّمة ، والرموز المستترة ، كما ترتبط بلغة الملاحم الشعرية الكثيفة ، ومن الأمور الشائعة فى الأساطير ( الإغريقية مثلاً ) هذا الإمتزاج بين عناصر إلهية وأخرى بشرية ( أخيلوس مثلا أمه من الآلهة ) ، كل هذه العناصر استفاد منها “ناجى” ليصنع أسطورة “خافية قمر” فجاءت كثيفة ومليئة بالرموز ، ثم أضيف البعد الآخر المهم وهو فكرة زوايا الرؤية المتعددة لنفس الشئ وفى نفس الوقت ، فأصبح لبعض الشحصيات أكثر من اسم ومن صفة ، بل إن المكان أصبح يتأرجح بين ” خافية قمر ” و” خافية إدريس ” ، لدينا إذن رؤية مركّبة البناء تبدأ بسرد قصة عبد القهار وسلمى أولا ، ثم قصة إدريس ووقمر مع وجود علاقة تشابه ما بين الروايتين ، ثم ننطلق الى رواية “عبد الغفار” من زاوية ثالثة وصولاً الى تجميع الشخوص والروايات فى حكاية شاعر الربابة الأخيرة مع بقاء الحلول مفتوحة . الحكاية كلها قد تبدو جنونا إذا فسرت على المستوى الواقعى ، ولكنها ليست كذلك لو فُسّرت رمزيا ، وهذا سر الإلتباس .
تبدأ كل لوحة فى جزء “الخافية” بما يشبه أناشيد الكورس الإفتتاحية فى المسرحية الإغريقية حيث تمهد الطريق وتخلق الجوالمناسب لما سيحدث ، عبارات مثل : ” هنا على الحد الفاصل / بين نور وعتمة / ليل ونهار / لو دحرجتنا الريح قليلاً / أحرقتنا الشمس / ولو طوّحتنا للخلف / سقطنا فى هاوية العتمة ” ، تدخلنا الى بدايات فجر البشرية والإنسان يتحّسس خطواته الأولى على الأرض ، أما خافية قمر / الفجوة التى تقع وسط القرية البدائية ، فكل البيوت تعطيها ظهرها ، كل البيوت تفتح على الشرق بينما الخافية فى الغرب مثل قبور الفراعنة ، البيوت تشكّل هلالاً حول الهوّة التى تسكنها قمر النداهة التى تأخذ الرجال الى الخافية ، ” بنو عبد ” سكان القرية يقولون : ” ما بنى جدودنا بيوتنا على هذا الشكل إلا لحكمة عرفوها فكأنها عقد على جيد القمر أو كأنها ظلّ منجل إدريس على الأرض ” . وكلا من العقد والمنجل دائرتان مفتوحتان وكأنهما يحيطان بالإنسان ، كما أن بين الإثنين تناقض الإحتفال بالحياة ، أو الإستسلام للموت والقتل . فى لوحات “الخافية” أيضا التأكيد على عمق الزمن السحيق : ” كان ذلك فى الزمن البعيد ” ، ” حدث ذلك فى زمن بعيد لم أشهده ” ، وفيها بداية اعتراف السارد بأنه يتشكك فى معارفه : ” هل جرى الأمر على ذلك النحو ؟ ” ، ” كيف لى أن أعرف ولم أشهد أى أمر من بدايته ، جئتُ بعد أن تمّ كل شئ ، وتعددت الأقوال حتى اختلط على الناس إن كان اسم بلدتنا “خافية قمر ” ام ” خافية إدريس ” ؟ “. مثل الأساطير تمتزج عناصر إلهية وأخرى بشرية فى الشخصية الواحدة ، إدريس البكاء مثلا ” هو أول من علّمنا كيف نخطّ بالقلم ، ونخيط الثوب ، ونخصف النعل ” ، ويقول له وزيره “برهان الحيران” : ” أنت رأس العلم ، وتاج المعرفة ، فكيف لجدول أن يجود على نهر ، كل ما عندى نبع من فيضك ؟ ” ، ويقول “إدريس” عن “بنى عبد”: ” كلهم عبادى ” . ولكنه أيضا ملك بكّاء إذا شاهد صاحب مظلمة ، يشعر بالوحدة مثل آلهة الإغريق الذين يتركون الأوليمب لمطاردة بنات الأرض ، يقول لوزيره مثل أى إنسان وحيد : “هى وحشة القلب ، لا تبددها ريح ، ولا يطالها مطر ، ولايحدّها أوان ” . هذا المزيج الذى يجمع بين القداسة والبدائية ، وبين القوة ( أقرب الى إله الحرب الشرس مارس )، والضعف ( مثل رجل جريح راقد فى فراشه لا يستطيع خدمة نفسه ) إنما يعبر عن تركيبة الإنسان نفسه الذى امتزج فيه الطين مع النفخة الإلهية ، والعلم بالنسيان ، والعصيان بالخروج وفقا لوجهة النظر الدينية . فى تعميد “عبد الحارس” بدم المجروح ما يحيلنا الى تعميد قدسية الإنسان بنفخة إلهية ( وفقا للرواية الدينية ) أو تعميد المسيح بالماء ، وفى رجم غراب بالماء ما يحيلنا الى رجم “إبليس ” بالحجر ، وإذ يمتزج الأسطورى بالدينى ، فإن “ناجى ” يقدم أيضاً إشارات دينية صريحة مثل فكرة طرد قمر / سلمى من الروضة الى الخافية ثم خروج ابنها الى الخلاء ، أو مثل استدعاء صورة وفاة النبى سليمان عندما سقطت عصاه بعد موته فى الأزمة الأخيرة ل “إدريس” ، ومثل استيحاء صورة الموالد الإسلامية ونداءات المدّاحين وعبد الولى نقيب المجروح :
” وياسيدى المجروح مددين / يابو جرح ربّانى ” ، ولكن الدخول الأقوى للعنصر الدينى يكمن فى تعبير ” المشيئة ” الإسلامى الذى يبدو أشمل من تعبير القدر الإغريقى ، وظهور شخصية ” برهان الحيران ” الذى يكاد يقترب فى دوره من دور العرّافة فى الأسطورة الأغريقية ، ذلك الذى يعرف ما سيحدث ولكنه يشارك فى الحكاية حتى نهاية طريقها المحتوم .
عندما يلجأ “ناجى” الى تقسيم شخصية الرجل وشطرها الى ملك وولىّ ، والى اسمين “إدريس ” و”عبد القهار” ، وتقسيم المرأة الى “سلمى” و” قمر” ، والى صفتين أم وأنثى خائنة ، ثم يقسم المكان الى روضة إدريس وخافية قمر ، ثم يخفى حيلته حتى الفصل الأخير ، كل ذلك ينتهى بنا الى ترسيخ فكرة وجوه الحقيقة المتعددة ، وينتهى بنا الى تآلف المتناقضات داخل الشخصية الواحدة ، “عبد الحارس” الإبن الفخور بإدريس البكاء / المحارب الشرس هو ايضا ابن عبد القهار الجريح صاحب الكرامات ، وهو ايضا ابن قمر التى اتهمت فى شرفها وابن سلمى الأم الحنون ، هناك أيضاً ما يشبه انقلاب مواقع الشخصيات ، “سلمى” مثلاً التى تبدأ الرواية كأم أقرب الى الطفلة تنقلب مع إيقاظ “غراب ” لشهوتها الى خائنة ، و” قمر” التى نسمع عن أنها خانت الملك فى أولى الحكايات، تبدو فى النهاية كأم خافت على ابنها فنزلت الى الخافية ، كأنك بالضبط أمام عملة يتم قلب وجهيها بلا توقف ، هذا هو الإنسان وقد حمل صفات إلهية وبشرية ، نقائص ومزايا ، صعود وهبوط ،” قمر فوق وقمر تحت ” كما تقول إحدى الأغنيات . يبدو الإنسان فى الجزء الأول محاصراً وحيداً لا يعرف بالضبط هل هو فى روضة أم أنه فى أرض ملعونة كُتب على ساكنيها الفقر والخوف ، حتى من يقتربون من صاحب المشكلة ، مثل برهان الحيران وغراب نذير الشؤم والشهوة ، لا يساعدون على الحل ولكنهم يعقدون من الأمور ، وينشرون الهواجس ، ويدفعون بها فى اتجاه المشيئة.
بنْية الرواية معقدة ومتداخلة لأن الإنسان مثل الزرع يختلط فيه الملح والسكر : ” السكر / والملح أيضا ذاب / وبقى الطعم فى الماء / خبّرنى أيها الأخضر الطالع من سواد الأرض / لمن كانت هذه الحلاوة ؟ / وممن هذه المرارة ؟) ، الإجابة هى : ” لانعرف ” ، وأظن أنها الإجابة الوحيدة فى هذه الرواية .
فى الجزء الثانى ( الخلاء ) يعود “عبد الغفار” / العم لنكتشف أنه لم يضع فى الخافية كما قيل حيث سيحمل “عبد الحارس” / المشكوك فى نسبه بعيداً عن الروضة الى مجتمع أكثر تنظيما ، ولكن يظل اعتراف السارد فى المقدمة بأنه “اشتبهت عليه بعض المسائل ” ، كما يظل رأى الأطباء فى السارد أنه مريض ، يطلبون منه أن يتذكر حتى يتخلص من ثقل هذا الماضى الأسطورى الذى يمنع تقدمه ، ولكن عندما يفعل يعاقبونه بجلسات الكهرباء .”عبد الغفار” أيضا له طبيعة مزدوجة : روح عملية واقعية جعلته يبنى ويشيّد ويتاجر ، وروح أسطورية خيالية جعلته متعلقا بالمرأة التى سمع صوتها ولم ينسها أبداً ، عندما يسمع “عبد الحارس” الصوت الذى يناديه يفسّره العم علمياً : “الخوف يُفسد علينا عيوننا وآذاننا .. يختلط علينا السمع والبصر ” ، كما أنه يرى أن حكايات الخيول المجنّحة لم تحدث أبداً ، ويكاد يعبّر عن رأى الذين لايؤمنون إلا بالحواس والجسد عندما يقول : ” يا ولد أنا لا اشغل نفسى بالأسئلة ، هناك شئ فى داخلنا يريد وهو يعرف ما يريد ، نحن لا نعرف مايدور فى أمعائنا ، ولكننا نحسّ الجوع فنأكل ، نعطش فنشرب “. ، ولكنه سرعان ما يكشف عن قصته مع “قمر” عندما يشرب ، فيظهر من العقل جانبه الأسطورى اللاشعورى ، ومع كل حكاية يضئ المشاعلى فانوساً وكأنه يكشف لنا خافية جديدة ، يتحوّل المجتمع ويتغيّر ولكن تظل ذاكرتنا الأسطورية تطاردنا فى صورة صوت سلمى / قمر الصارخ : ” يا عبد الحارس “، يبدأ “عبد الحارس” ورفاقه الصغار الحرب على الصوت فيرجمونه بالحجارة ، ولكن ذلك لا يقضى على الأسئلة بل يزيد عددها : كيف نبتر هذا الجزء العميق فى الماضى دون أن نهدم حاضر المدينة ؟ كيف نبدأ من الفراغ بلا ماض أو بماض غريب ملتبس ؟ ، وعندما يكتشفون بقايا عظام سلمى / قمر المرجومة ، ينفتح الجرح من جديد ، يعود الماضى / جرحنا الأبدى المفتوح فى صورة الخلخال الفضى لسلمى بنت العربان ، وإذ يظهر الشيخ “شاهين” الكفيف الذى يعلم الناس الحروف دون أن يراها ، تبدو أمامنا تنويعة أخرى على تناقضاتنا: النزق / الطيبة ، الحلال / الحرام ، العفة / الشهوة ، العلم / الجهل ( تخدعه امرأة فتطعمه القطط على أنها أرانب ) ، وفى النهاية لاتموت الأسطورة حتى مع بزوغ عصر العلم ، وتولد من جديد فى قلوب وعقول الصبيان ( أحدهم يؤمن أن الشيخ مثل أمّنا الغولة ، يأكل الصبيان فى بطنه ) .
فى الجزء الثالث يعيد الفن تنظيم كل شظايا الحكاية صانعاً منها ملحمة ، يبدو هذا الجزء محلقا فى سماءالخيال بظهور رجل فقير يزعم أنه صديق “عبد الحارس” القديم الذى حمل اسم حفيد الزبّاء ، لا مانع عنده من أن يسمع طالما أنه يشرب ويتخيل ، يحكى بسخرية لاذعة عن تقلبات البشر وأحلامهم فى المعرفة والوصول الى الأسرار رغم طبيعتهم البشرية المحدودة ، مثل ذلك الصديق الذى بقى معلقاً بين السماء والأرض ، تبدو قدرات الإنسان هنا مضحكة جداّ بالمقارنة بأحلامه ، ثم يحكى “عبد الحارس” عن شاعر الربابة الذى يغنى أسفل نافذة فانولا / الوحيدة الباقية من اليونانيات السبع ، فى ظنى أنهن ربات الشعر والإلهام ، صورة جديدة من الموزيات التسع ساكنات الأوليمب ، ربما كان المقصود أن عصر العلم والمادة قد أدى الى تراجع الخيال فانكسرت بعض أجنحة الملائكة الكائنة بين النوافذ ، والمصنوعة من الجصّ الأبيض . هنا يدخل الفن على خط الأسطورة التى رفضها العلم وحاول الدين والفلسفة أن يصنعوا بدائل لها تفسر وتجيب ، ولكن الفن يصنع حقيقة جمالية مستقلة عن الأصل أو عما حدث بالفعل ، يقدم التفسير الجمالى للحكاية المحيرة ، يحوّلها الى ذاكرة ممتعة ومغناة ، ويعيد الإتساق والنظام للشذرات : ( ظلم قمر ، هربها الى الخافية لتضع وليدها ، ندم إدريس وتحوّلة الى بكّاء فمجروح ، تنكُّر قمر لتعيش بين العربان تحت اسم سلمى ، عودة قمر الى الملك النادم ) ، الفن يعكس الحكاية لتصبح المشكلة فى الملك لا فى قمر ، ولكن كل ذلك لايضع نقطة التوقف وإنما نبدأ الحيرة من جديد عندما يشكك عبد الغفار فى رواية الفن، وعنما يعود السارد الى المستشفى . لعبة الإلتباس فى خافية قمر ليست مجانية ، ولكن التباس المضمون هو الذى استدعى التباس الشكل .
جرح الذاكرة والماضى الملتبس مفتوح ، و”عبد الحارس” لا يمتلك دليلاً سوى الخلخال ، ولكنه لا يتوقف عن البحث والسؤال : من أين يأتى السكر ومن أين يأتى الملح ؟ ، السكارى يقولون إنه مخمور ، والأطباء يقولون إنه مريض ، والفنان يقول إنه مُلهم بملحمة جميلة ، عبد الغفار يغنى على قمره ، ويحلم بشمس تكشف الخافية ، كل شئ يتغير ويتحوّل ويدور وينقلب ، المشاعلى يؤذن فى الجامع ، و ابن الحداد يظهر فى طابور العساكر ، برهان ما زال حيراناً ، القطة تبدو كأرنب ، الملك نبع العلم لايعلم الحقيقة عن زوجته ، والولى نبع الإشراق لا يعرف امرأته ، بحيرة النفط المشتعلة تبدو كشمس على الأرض ، الزباء رجل أم امرأة ؟ ، لاتموت الأسطورة ، لا يموت إدريس ، ولا يموت عبد القهّار ، ولايموت السؤال ، هناك العتمة والخلاء والخافية ، ولكن يبقى أمل فى القلوب ، أغنية نغينها عندما تحترق شمس اليوم فى تنور النهار :
يا شمس
يا شمس الغد
اخبزى لنا شمسا جديدة
ليوم جديد .
لم تكن روضة إدريس ، ولا خافية قمر ، ولكنها أرض الأسئلة .