وجهة النظر السردية في رواية “ميرامار” لنجيب محفوظ

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 25
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. عبدالجبار العلمي*

القصة في ميرامار

تقوم القصة في ميرامار على أساس حدث رئيسي واحد هو الثورة الاشتراكية في مصر، وكيف ينظر مجموعة من الشخصيات التي تمثل أنماطاً مختلفة من النسيج الاجتماعي المصري إلى هذا الحدث الخطير. وهذه الشخصيات هي: عامر وجدي ـ زهرة ـ طلبة مرزوق ـ حسني علام ـ منصور باهي ـ سرحان البحيري. تلتقي هذه الشخصيات على مستوى المكان في بنسيون “ميرامار” في الاسكندرية لصاحبته ماريانا اليونانية، ولكنها تتنافر على مستوى الأفكار والموقف من الحدث الرئيس. وإذا كان ثمة ما يوحد هذا الجمع المتنافر، فهو أنهم قدموا جميعاً إلى البنسيون مدفوعين بدافع واحد هو البحث عن الأمان والدفء والاستقرار، هربا من ماض بغيض. فعامر وجدي العجوز يأتي إلى البنسيون ليقضي فيه بقية حياته في هدوء وليجتر ذكريات الأيام المجيدة التي كانت خاتمتها الخيبة والمرارة ” لقد ركنت إليه لأنعم بشيء من الهدوء الضروري لشيخوختي، وبشيء من عزاء الذكريات عن الخيبة المريرة التي منيت بها في ختام حياتي “([1]) وزهرة تأتي هاربة من زواج قهري أرغمت عليه من طرف الجد القاسي المتزمت، باحثة عن عمل شريف في البنسيون يؤمنها من الخوف والجوع.” ـ أراد جدها أن يزوجها من عجوز مثله لتخدمه ”   ([2])  ويقدم طلبة مرزوق لاجئا عند عشيقته القديمة ” ماريانا ” فارّاً من الشعور بالذل والهوان في القاهرة بعد أن صادرت الثورة أمواله ووضعته تحت الحراسة. يقول طلبة راويا عن نفسه: ” لم يعد لي مقام في الريف، وجو القاهرة يصر على إشعاري بهواني، عند ذاك فكرت  في عشيقتي القديمة، وقلت: لقد فقدت زوجها في ثورة، ومالها في الثورة الأخرى، وإذن فسنعزف لحنا واحداً “) [3]( أما حسني علام الذي ينتمي إلى نفس طبقة مرزوق، فهو يلجأ إلى البنسيون هرباً من طبقته الأرستقراطية، بل ومن كل ما يذكره بها كفندق سيسيل الفخم الذي ضاق به فاستبدل به فندق ميرامار، حاملا معه ذلا من نوع آخر. هو رفضه كزوج من قبل إحدى قريباته: ” غير مثقف والمائة فدان في كف عفريت ” ([4] )

 يأتي منصور باهي إلى البنسيون متحاشيا ما يمكن أن يتعرض له في القاهرة من اعتقال بسبب انتمائه إلى الشيوعيين، بعد أن رضخ لضغوط أخيه بالتخلي عن طريقه ورفاقه.” ولا  كلمة، سأقتلعك من الوكر”([5] ),  ويلجأ  سرحان البحيري بدوره إلى البنسيون هرباً من علاقة حب واهية الأسباب إلى علاقة حب حقيقي كان من الممكن أن تتوج بالزواج، لولا روح سرحان التي طبعت على المصلحة والانتهازية  ” يا ربي… أريد أن أفيد وأن أستفيد فما عسى أن أصنع ؟.([6] )

وإذا كان البحث عن الأمن والاستقرار هربا من ماض بغيض هو النقطة التي تتوحد عندها هذه الشخصيات المتنافرة، فإن هناك محوراً واحداً هو قطب الرحى الذي تتجاذب نحوه، وهو شخصية ” زهرة ” الفتاة الريفية التي تستثير اهتمام الجميع بشخصيتها القوية، وجمالها الريفي، وأنوثتها الناضجة، بيد أن سرحان البحيري وحده هو الذي سيفوز بحبها من دون حسني علام الذي حاول أن يتخذ منها خليلة، ومنصور باهي الذي عرض عليها الزواج في لحظة من لحظات اليأس لتكون الملاذ والخلاص، ومحمود أبي العباس بائع الصحف الذي خطبها ليجعل منها ربة بيت تعيش تحت سلطته. لقد سمعته زهرة يقول: ” إن النساء تختلف في الألوان ولكنها تتفق على حقيقة واحدة، فكل امرأة حيوان لطيف بلا عقل ودين، والوسيلة الوحيدة التي تجعل منهن حيوانات أليفة هي الحذاء !. ” ([7])

على أن سرحان البحيري يغدر بالفتاة كما غدر بالثورة التي استفاد من معطياتها، لأنها لا تتسع لطموحاته العريضة وأطماعه اللامحدودة باعتباره برجوازياً صغيراً. لذلك يقيم علاقة مع “علية” مدرسة ” زهرة ” لفوائد يأمل أن يحققها من هذا الزواج الصفقة. و لكن الزواج يفشل كما تفشل عملية تهريب شاحنة الغزل، فيلجأ إلى الانتحار. أما زهرة فتعلن عن قرارها في الاستمرار على نفس الدرب نحو الكرامة والعمل الشريف، متسلحة بالعلم والأمل والثقة بالنفس.

يدور بينها وبين عامر وجدي الحوار التالي:

” ـ ماذا أعددت للمستقبل ؟

ـ كالماضي تماما حتى أحقق ما أريد

ـ حسن أن تواصلي تعليمك وأن تتدربي على مهنة، ولكن كيف توفرين لنفسك الأمن والرزق.

قالت بثقة:

في كل خطوة أجد من يعرض عليَّ عملا.” ([8])

         إن ميرامار حكاية بسيطة للغاية كما يقول محمود أمين العالم ([9] )، ولكن هذه الحكاية البسيطة تتعزز بقصص أخرى تلتحم فيما بينها ملتقية عند بعض الأحداث. هذه القصص ليست بعدد الرواة ـ الشخصيات الأربعة: عامر وجدي ـ حسني علام ـ منصور باهي ـ سرحان البحيري، بل بعدد الشخصيات الرئيسية التي لا تتولى رواية الأحداث في فصول خاصة بها، ولكنها تشارك فيها مثل” زهرة ” و” مريانا ” و” طلبة مرزوق “.

الخطاب الروائي في ميرامار:

1 ـ الرؤية المتعددة لحدث واحد Vision Stéréoscopique

         هناك لحظة في رباعية الإسكندرية لداريل يتذكر فيها الراوي ” جوستين ” وهي جالسة أمام مرآة ذات وجوه متعددة، تقول صائحة:

ـ انظري ! خمسة وجوه مختلفة لنفس الشخص. لو كنت كاتبة لحاولت الحصول على تقديم متعدد للشخصيات، على نحو من الرؤية المتعددة. لماذا لا يظهر الناس أكثر من صورة جانبية واحدة في نفس الآن ؟. )[10](

      من هذه الرؤية المتعددة تنشأ طريقة جديدة للمعرفة الروائية التي تكون حصيلة مجموعة من المعارف الجزئية. إن الراوي في الرواية التي تعتمد هذه الرؤية، لا يقدم إلا معرفة جزئية عن الحدث الواحد، ولا تكتمل المعرفة إلا حين تقدم الأجزاء الأخرى من طرف الرواة الآخرين الذين لا يملكون بدورهم إلا جزءاً من هذه المعرفة.

        إن الحدث الواحد يقدم لنا عبر مظاهر متعددة حسب تعبير تودوروف.([11])

وفي رواية ميرامار اقتضى اختلاف شخصياتها وتنافرها وتعدد وجهات نظرها حول الحدث الرئيس، أن يعمد نجيب محفوظ إلى هذه الرؤية المتعددة كتقنية تسمح بتقديم الحدث من زوايا نظر متعددة، تاركا جانبا ” الرؤية من الخلف ” ذات الإدراك الأحادي. لقد تصدى النقاد المعاصرون الغربيون بكثير من النقد للراوي العليم الذي يتبنى وجهة النظر العارفة بكل شيء على اعتبار أنها تخل بالإيهام بالواقع. ورأواأن وجهة النظر المحدودة تمكن من الانفتاح على آفاق الحياة المتشعبة المتناقضة”. ([12]) بل تعالى نداء بعضهم مطالباً بالدعوة إلى ” اختفاء المؤلف من الرواية، إيماناً منه بأن القصة يجب أن تحكي ذاتها، وذلك عن طريق مسرحة الحدث، أو عرضه وليس عن طريق السرد أو التلخيص “. ([13]) ويرى برسي لوبوك ” أن الفن الروائي لا يبدأ إلا حينما تحكي القصة ذاتها، لا أن يحكيها المؤلف “. ([14]) ولا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا في هذا السياق،  جهود جوستاف فلوبير في  تثبيث  دعائم الموضوعية في الرواية. ومن أرائه في هذا المجال ” أن الفنان ينبغي أن يكون في عمله الأدبي مثل إ له في خلقه، غير مرئي، وأكثر نفوذاً، بحيث نحس وجوده في كل مكان، لكن دون أن نراه”. ([15]) ويعني هذا أن هذا الشكل الفني في ” ميرامار ” لم يكن مجرد لعبة شكلية أو مجرد ” تجربة أسلوبية يختبر بها الكاتب أرضه الجديدة “. ([16]) وإنما كان له أساس مضموني، ذلك أن الرواية بما تزخر به من شخصيات متناقضة وبما يمور فيها من صراعات، كانت تفرض هذا الشكل القائم على الرؤية المتعددة. جاءت ” ميرامار” عملاً روائياً تلعب فيه وجهة النظر دوراً أساسياً , لا من حيث الشكل الفني فحسب , بل من حيث الرؤيا التي تقدمها , والتي لا يخرج الشكل الفني عن كونه أداة لتوصيلها”، ([17]) وقد ربطت الناقدة اللبنانية يمنى العيد بين توظيف هذه الرؤية السردية وحاجة الإنسان إلى الحرية في أن يقول ما يريد قوله بنفسه دون وصاية ” لأن الحقيقة لم تعد قي صوت الراوي وحده , بل هي في هذه الأصوات وقد تعددت وغدا لها نطقها ورؤاها “. )[18](

      وسنأخذ حادثة واحدة من حوادث الرواية لنرى كيف رآها كل راو من وجهة نظره أو زاوية رؤيته الخاصة، وكيف أن للحدث الواحد عدة أوجه حسب اختلاف هذه الزوايا. وهذه الحادثة هي حادثة مشاجرة سرحان البحيري / زهرة.

       وجهة نظر عامر وجدي:

                يقدم عامر وجدي هذا الحدث من زاوية رؤيته هكذا:

      ” ولما رجعت إلى البنسيون، وجدت المدام وطلبة مرزوق وزهرة مجتمعين في المدخل، مغلفين بكآبة أبلغ في إفصاحها عن أي تفجع أو ندب ! جلست صامتا وقد وضح لي ما وددت أن أسأل الآخر عنه. قالت المدام:

       ـ تكشف أخيرا ذاك السرحان عن حقيقته..

تمتمت:

ـ قابلني في التريانون منذ ساعات فأخبرني بأنه سيغادر.

ـ الحق أني طردته

ثم وهي تشير نحو زهرة:

ـ هاجمها بلا حياء، ثم أعلن بأنه ذاهب ليتزوج المدرسة ! ثم واصلت حديثها:

ـ  أراد مسيو منصور باهي أن يناقشه، وإذا بمعركة تنشب فجأة، عند ذاك صرخت في وجهه أن يخرج إلى غير رجعة “. ([19])

إن عامر وجدي لم ير الحادث رأي العين، وإنما سمعه من الآخر خبرا. ولذلك نقل إلينا الحدث بصورة مجملة مقتضبة، ليس أثناء وقوعه، ولكن بعد وقوعه بقليل، ذلك أن جو الحادث لا زال مخيما بكآبة على أهل البنسيون.

       وجهة نظر حسني علام:

يرى حسني علام الحادث كما يلي:

” يحسن بي أن لا أغادر الحجرة. ولكن ثمة حادث سعيد يقع في الخارج. في حجرة البحيري. أجل. مناقرة.. بل مشاجرة.. بل معركة بين روميو البحيري وجولييت البحيرية. ما معنى ذلك ؟ هل طالبته بإصلاح غلطته ؟ هل رام التملص والهرب كما فعل مع صفية ؟ إنه لأمر بالغ اللذة.  ولكن يحسن بي ألا أغادر الحجرة. أين كانت تختبيء جميع تلك المسرات ؟ فريكيكو انتبه جيدا واستمتع باللحظة البديعة وصاح الصوت الرنان:

       ـ أنا حر.. أتزوج بمن أشاء.. سأتزوج من علية..

يا سيد يا بدوي ! عليّة الأستاذة ؟ هل لبى الدعوة لزيارة بيتها ؟ هل تحول من التلميذة إلى الأستاذة ؟ اشهد يا فريكيكو. أي يوم بهيج يا اسكندرية. لتحيا الثورة. ولتحيا قوانين يوليو. ها هو صوت المدام يرطن بالعربية، وها هو صوت المذيع الهمام بلحمه ودمه، وأخيراً تنازل بالاهتمام بشؤون الرعية، وسيجد ولا شك حلا لهذه المشكلة الريفية…([20])

       إذا كان عامر وجدي ينقل إلينا الحادث على شكل خبرسمعه من الآخر، فإن حسني علام ينقله إلينا عن طريق مباشر عبر حاسة السمع. وهكذا نبدأ في الاقتراب من معرفة أ كثرللحادث. وإن كان من زاوية مختلفة.

       إنه ناقم على الجميع، ناقم على سرحان لأنه في اعتباره مستفيد من الثورة من جهة، ومنفرد بحب زهرة من جهة ثانية، ناقم على منصور باهي لأنه في اعتباره متكبر منطو على نفسه ثم لأنه من أعدائه الطبقيين. ولذلك نجد رؤيته للحادث مغلفة بلهجة تقطر حقداً وسخرية.

       إننا نتلقى نفس جزئيات الحادث التي تلقيناها عن طريق رؤية عامر بنفس الترتيب:

       1 ـ نشوب المشاجرة بين سرحان وزهرة.

       2 ـ إعلان سرحان عن قراره التزوج من المدرسة.

        3 ـ محاولة منصور تهدئة سرحان.

بيد أننا نجد اختلافا في تقديم هذه الأخبار. فالخبر عن نشوب المشاجرة حسب رؤية عامر مجمل: ” هاجمها بلا حياء”، وأسلوب الإعلان عن القرار غير مباشر: ” أعلن بأنه ذاهب ليتزوج المدرسة “. ونتيجة مناقشة منصور مذكورة، ولكن بدون تفاصل: ” أراد مسيو باهي أن يناقشه و إذا بمعركة جديدة تنشب فجأة “

أما حسب زاوية رؤية حسني، فنجد الخبر عن المشاجرة يمتاز ببعض التفاصيل التي تصله عن طريق السمع، والتي يلونها بمشاعره نحو أبطال الحدث، ونجد الأسلوب المستعمل في الإعلان عن القرار أسلوباً مباشراً: ـ ” أنا حر.. أتزوج بمن أشاء.. سأتزوج من عليّة ” كما نجد نتيجة محاولة منصور قد أغفلت: ” ها هو صوت المذيع الهمام بلحمه ودمه، أخيراً تنازل بالاهتمام بشؤون الرعية، وسيجد ولا شك حلا لهذه المشكلة الريفية.” ([21])

         وجهة نظر منصور باهي:

نقرأ في الفصل الخاص بمنصور باهي:

“… وفتح باب بعنف فوضحت الأصوات تماما. زهرة وسرحان ! وثبت إلى الباب ففتحته. رأيتهما في الصالة وجها لوجه كديكين والمدام تحول بينهما. وكان سرحان يصرخ في غضب هادر:

ـ أنا حر.. أتزوج بمن أشاء. سأتزوج من عليّة. وزهرة غاضبة كبركان، عز عليها أن يعبث بها، أن تنهار آمالها ثم ترتد وهي الخاسرة. إذن قد نال أربه ويريد أن يولي وجهة أخرى. اقتربت منه ثم أخذته من يده عائداً إلى حجرتي.

         كان ممزق البيجاما في أكثر من موضع، دامي الشفتين، وراح يصيح.

ـ شريرة متوحشة

فطالبته بالهدوء، ولكنه تمادى في الغضب، وهو يقول:

         ـ تصور، تريد حضرتها أن تتزوج مني !

فصحت أنصحه بالهدوء فصاح:

         ـ مجنونة. فاجرة

وضقت به فسألته:

         ـ لم أرادت أن تتزوج منك ؟

         ـ اِسألها.. اِسألها.

         ـ إني أسألك أنت..

نظر إلي لأول مرة في انتباه، فقلت:

         ـ لا بد من سبب يبرر طلبها.

         ـ ماذا تعني ؟

فقلت بغضب:

         ـ أعني أنك وغد

         ـ أستاذ

فبصقت في وجهه وأنا أصرخ:

ـ على وجهك ووجه كل وغد، وكل خائن وسرعان ما اشتبكنا في عراك عنيف”. ([22]) إن أول ما يلاحظ هنا هو أن إدراك الراوي للحادث ليس عن طريق خبر ينقل إليه، ولا عن طريق حاسة السمع كما في حالتي عامر وحسني الراويين السابقين. ولكنه عن طريق الرؤية البصرية. وهكذا تبدأ معرفتنا في التعمق والإقتراب من كنه الحادث الحقيقي كلما تدرجنا من وسائل إدراك أدنى إلى وسائل إدراك أرقى عبر السلم الآتي:

         1 ـ الحادث مسموع عن الآخر

         2 ـ الحادث مسموع ولكن بشكل مباشر عبر حاسة السمع

         3 ـ الحادث مرئي رأي العين.

إن الراوي منصور باهي يروي الحادث السابق نفسه، ولكنه يلونه بأفكاره واحتمالات تحمل وجهة نظره: ” عز عليها زهرة أن يعبث بها، أن تنهار آمالها ثم ترتد وهي الخاسرة. إذن قد نال أربه ويريد أن يولي وجهة أخرى “

      وإذا كان حسني علام قد أغفل نقل نتيجة محاولة منصور تهدئة ومناقشة منصور سرحان التي ذكرت بشكل مجمل على لسان ماريانا في الفصل الخاص بعامر وجدي، فإننا نتلقاها عبر رؤية منصور بشكل مفصل من خلال الحوار الساخن بينهما، حيث نستشف أن سبب المعركة بينهما لم يكن خيانة سرحان لزهرة فحسب، ولكن الخيانة بصفتها المجردة المتجسمة فيه، التي يعاني منصور من عقدتها التي يريد التخلص منها. إن سرحان يجسد ما يعانيه منصور من أزمة بسبب تخليه عن رفاقة  ومبادئة، وإن حنقه عليه ما هو إلا حنقه على نفسه. “على وجهك، ووجه كل وغد وخائن “.

         وجهة نظر سرحان البحيري:

                  يقدم سرحان البحيري الحادث السابق من وجهة نظره كما يلي:

       ـ اعترفت الخنزيرة بمقابلتك، ولم يدهش أحد من والديها، ولكنهم دهشوا جميعا لتطفلي أنا !

خرست، خرست تماما، وقالت هي بتقزز وغضب:

         ـ لم يخلق الله أمثالك من الجبناء ؟…

         ـ زهرة.. كل ذلك يقوم على غير أساس. إن هو إلا تخبط يائس.. راجعي نفسك يا زهرة.. يجب أن نذهب معا.. لم تسمع كلمة مما قلت إذ واصلت كلامها قائلة:

         ـ ماذا أفعل ؟ لا حق لي عليك.. وغد حقير.. غر في ألف داهية !

وبصقت في وجهي. غضبت. رغم موقفي المخزي غضبت. ثم صحت بها:

         ـ زهرة !

فبصقت في وجهي مرة أخرى. أعماني الغضب فصرخت:

         ـ اِذهبي و إلا كسرت رأسك.

انقضت عليّ ولطمتني على وجهي بقوة مذهلة. انتترت بعنف ولطمتني للمرة الثانية. فقدت وعيي، فانهلت عليها ضربا وصفعا وهي تبادلني الضرب و الصفع بقوة فاقت تصوري. وإذا بالمدام تهرول نحونا، وهي ترطن بألف لسان. أبعدتها عني، فصحت في جنون الغضب:

          ـ أنا حر.. سأتزوج بمن أشاء.. وسأتزوج عليّة.

وجاء منصور باهي فمضى بي إلى حجرته. لا أذكر أي  حديث تبادلنا ولكني أذكر تهجمه عليّ بوقاحة غريبة، وكيف اشتبكنا في صراع جديد “. ([23])

          وإذا كان الراوي سرحان البحيري هنا قد ترك جانبا ذكر مشاجرته مع منصور، فلأنه كان فاقدا لوعيه الكامل نتيجة غضبه وغليانه بعد مشاجرته مع زهرة ” أعماني الغضب” ـ ” فقدت وعيي “، ولذلك جاءت رؤيته لحادث المشاجرة الجديدة غير واضحة وضبابية.

          أما حادث المشاجرة مع زهرة، فيقدمه لنا عبر رؤية واضحة عن طريق الحوار في جزء منه، وعن طريق السرد الخالص في جزء آخر. إننا هنا أمام الحادث منظوراً إليه من زاوية نظر أشد قربا، من زاوية من عاش الموقف بشكل مباشر، لا من زاوية من سمع عنه، أوتلقاه عن طريق حاسة السمع أو حاسة البصر أثناء وقوعه كما في حالة الرواة السابقين. وهكذا تتكشف حقيقة الحادث والباعث على وقوعه بعد أن روي أربع مرات من خلال وجهات نظر مختلفة، كل رواية منها تعمق أكثر معرفتنا عن هذا الحادث، وتزيدنا قربا منه.

2 ـ الرؤية “مع”   Vision Avec

         إذا كان الراوي في “الرؤية من الخلف” يتمتع بمعرفة غير محدودة، تتجاوز القدرة البشرية، فيخترق الأسوار، ويقتحم البيوت، ويكشف أسرار النفوس كأنه إله، فإن الراوي في “الرؤية مع” محدود المعرفة، لا تتعدى معرفته ما يرى أو ما يسمع. إن معرفته تساوي معرفة الشخصية. وفي حالة ” ميرامار” التي لا يتولى فيها عملية السرد شخص واحد كما سبق الذكر، نجد أن الراوي فيها هو نفسه الشخصية، وعلى هذا تكون معرفته هي معرفة الشخصية لأنه إنما يتحدث بلسانها. لقد ألغيت المسافة بين الراوي والشخصية حينما التقيا معا في الراوي ـ الشخصية، ذلك الراوي الذي يروي بضمير المتكلم ” أنا ” ” مسبار القلب البشري ” كما يسميه بلزاك.

         إن الراوي ـ الشخصية عامر وجدي في “ميرامار” لا يعرف إلا معتمداً على مصادر معينة هي التي تساعده على الإخبار. فإذا كنا قد تعرفنا على بعض المعلومات عن زوج ماريانا الأول والثاني عن طريق حوار دار بينه وبين ماريانا نفسها، فإن معلومات أخرى عنهما سنعرفها من خلال وصفهما لنا عن طريق صورهما على الجدار:

” أجلت البصر في الجدران المنقوش عليها تاريخها. هاك صورة الكابتن بقبعته العالية، وشاربه الغزير في البذلة العسكرية، زوجها الأول، ولعله حبيبها الأول والأخير الذي قتل في ثورة 1919. وعلى مرمى البصر في الصالة فيما وراء البارفان صورة الزوج الثاني ملك البطارخ، وصاحب قصر الإبراهيمية، أفلس ذات يوم فانتحر “.([24])

         إن المعرفة التي ينقلها لنا الراوي قد استقاها إما من ماريانا نفسها في زمن سابق حين يسوق المعلومات المتعلقة بالزوج الثاني، أو عن طريق البصر من خلال الصورة الفوتوغرافية )صورة الكابتن بقبعته العالية، وشاربه الغزير في البذلة العسكرية (، أو عن طريق الاستنتاج ” ولعله حبيبها الأول والأخير “.

         ولما كانت معرفة الراوي محدودة، فإنه كثيراً ما يلجأ إلى ترك الشخصية تقدم نفسها بنفسها عن طريق الحوار،  أو يقدم جانبا من جوانبها عن طريق حوار داخلي مسرود يأتي كتعليق على قول الشخصية:

         ” راحت تدلك بشرة وجهها بليمونة وهي تقول:

         ـ كنت سيدة يا مسيو عامر، أحب الحياة الحلوة والنور والأبهة والملابس والصالونات، وكنت أهل على المدعوين كالشمس.

          ـ رأيت ذلك بعيني

          ـ لكنك لم تر إلا صاحبة البنسيون.

          ـ كانت تهل  أيضا كالشمس.

          ـ وكان النزلاء من السادة، ولكن لم يعزني ذلك عن تدهوري

          ـ ما زلت سيدة بمعنى الكلمة

          ـ لماذا لم تتزوج يا مسيو عامر؟

          ـ سوء حظ. ليتنا أنجبنا ذرية..

          ـ أوه.. كان كلا الزوجين عاقراً !

يغلب على الظن أنك أنت العاقر “.([25])

         نتزود عن طريق الحوار بأخبار عن الشخصيتين معا ماريانا وعامر وجدي، وعن طريق الحوار الداخلي نتعرف على الجانب الذي حاولت ماريانا إخفاءه في الحوار على شكل تعليق من الراوي ـ الشخصية.

         في الفصل  الخاص بعامر وجدي لا نجده هو وحده الراوي، بل نجد  شخصية أخرى هي ماريانا تتولى أحيانا دور الراوي، ولكن عن طريق  تفاعلها مع الراوي ـ الشخصية عبر الحوار،  بيد أنها لا تروي إلا عن ماضيها وأمجادها في العهد البائد كما في النص السابق، أو عندما تحكي عن شخصيات أخرى مقدمة جوانب من حياتها الماضية أو الحاضرة، مثل زهرة وطلبة، ولكن دائما عن طريق الحوار:

 ـ ” زهرة بنت رجل طيب

 ـ زهرة ستعمل عندي

اجتاحني إحساس غريب بالفرح والضيق معا ثم سألت:

          ـ أجاءت تعمل خادمة ؟

          ـ نعم، لم لا ستكون على أي حال في مركز ممتاز

          ـ ولكن ما..

          ـ كانت تستأجر نصف فدان وتزرعه بنفسها. ما رأيك في ذلك ؟

          ـ جميل ولكن لم تركت أرضها ؟

          ـ لقد هربت

          ـ هربت ؟

          ـ أراد جدها أن يزوجها من عجوز مثله لتخدمه والباقي معروف ” ([26])

أما طلبة مرزوق، فإذا كان الراوي يقدم جوانب من شخصيته عن طريق الوصف، وعن طريق السرد بدعوى أن له به سابق معرفة ” يميل إلى القصر والبدانة، منتفخ الشدقين واللغد، له عينان زرقاوان , ذو طابع أرستقراطي لا تخطئه العين، وينم صمته المتكبر إذا صمت وحركات رأسه ويديه المتزنة المرسومة بدقة إذا ما تحرك ” ([27]) ” عرفته من بعيد بحكم مهنتي على عهد النضال السياسي والحزبي ” ([28]) فإن ماريانا ستقدم لنا جوانب أخرى في الحوار الدائر بينها و بين عامر وطلبة:

         ـ” طلبة بك تلميذ قديم للجزويت، سنستمع الأغاني الأفرنجية معا، ونتركك لتتعذب وحدك…

         ـ كان يملك ألف فدان، كان يلعب بالمال لعبا..” ([29])

إن الراوي عامر وجدي حتى وهو يخبرنا بأحداث كثيرة تتعلق باعتراف منصور بجريمة القتل، وبتبريره هذه الجريمة، ثم وهو يكشف لنا عن الحقيقة التي أكدها الطبيب الشرعي، وهي أن وفاة سرحان كانت ناتجة عن قطع شرايين الرسغ وليس بالضرب بالحذاء حسب اعتراف منصور، ثم وهو يكشف بالتالي العلاقة بين القتيل وجريمة التهريب، إن الراوي وهو يقدم لنا كل هذه الأخبار يحتال على القاريء بهذه العبارة التي تفسر لنا هذه المعرفة الغنية التي يمتلكها، يقول: ” ها هي الصحف تحمل إلينا أنباء الجريمة ” أي أن هذه الأخبار كلها إنما هي مستقاة من الصحف.

         غير أن الراوي حين يقدم نفسه يكون أكثر معرفة بنفسه إنه يعلن عن أفكاره ومشاعره ويكشف أسراره، ويقدم وجهة نظره في الشخصيات وفي الحدث الرئيس، ولكنه مع ذلك لا يستطيع أن يزودنا بتفسير ما للأحداث قبل أن تكون الشخصية قد وصلت إليه.

3 ـ الرؤية من  الخارج    Vision du dehors

إذا كان الراوي ـ الشخصية في ميرامار يستخدم الرؤية مع ” حينما يقدم لنا نفسه ووعيه وأحاسيسه، فإنه يعتمد ” الرؤية من الخارج ” حين يحكي عن الشخصيات الأخرى سواء منها التي تقوم بمهمة الحكي أو التي لا  تقوم بها.

         إن الراوي في ” الرؤية من الخارج ” يعرف أقل من الشخصيات ” إنه يستطيع أن يصف لنا فقط ما يسمع وما يرى ولكنه لا  يمكن أن يدخل وعي وشعور أي شخصية ” ([30])

         نقرأ في النص:

                  ” ماريانا أخذت حماما ساخنا عقب عودتها من عند الطبيب. ها هي تجلس ملفوفة في برنس أبيض، وقد عقصت شعرها المصبوغ “. ([31])

         إن الراوي كما نرى يبقى على السطح، ولا تتجاوز معرفته هذه الرؤية السطحية إلى رؤية عميقة تسبر غور الشخصيات، وتتغلغل في  أفكارها وأسرارها. إنه يبقى على مسافة من معرفة ما يدور من أحداث لهذه الشخصية أو  تلك بمجرد أن تغيب عن أنظاره. فهو لا يتابع شخصياته حيث تمضي لينقل لنا أخبارها ووقائعها. وعلى القاريء أن ينتظر هذه الأخبار والوقائع تأتيه من طرف شخصية مشاركة في الحدث، أو ينتظر حتى يحل دور الشخصية ـ الراوية الأخرى حتى نتعرف على الأحداث والمواقف التي رأيناها مع الراوي ـ الشخصية السابق رؤية سطحية، أو لم نرها نهائيا لاختفاء أبطالها عن أنظاره.

         عندما تدخل ماريانا بصحبة زهرة القادمة من الريف إلى داخل البنسيون وتغيبان معا عن نظر عامر وجدي، لا ندري شيئا عن زهرة ولا عن سبب قدومها  إلى البنسيون، فالذي سيتولى إخبارنا بكل ذلك هي ماريانا عبر الحوار الدائر بين الراوي وطلبة وماريانا المشار إليه سابقاً.

         إن الراوي يجهل أشياء كثيرة عما يرى، ويبقى في منطقة الظل هاته يطرح التساؤلات، ويظل القاريء معه في هذه المنطقة إلى أن يخرجا معا حين يأتي الجواب عن بعض تلك التساؤلات على لسان إحدى الشخصيات نقرأ في الفصل الخاص بعامر وجدي:

         ” وجدتني وحيداً بعد ذهابها أنظر إلى عيني زوجها الأول، وينظر إلى، ترى من قتلك، وبأي سلاح قتلك ؟ وكم من جيلنا قتلت قبل أن تقتل ؟ ” ([32])

         ويأتي الجواب على لسان ماريانا فيما بعد:

         ” أشارت إلى صورة الكابتن، وعادت تقول:

         ـ قتله طالب من الطلبة الذين أخدمهم اليوم ” ثم لنقرأ الشاهد التالي:

         ـ ” وأنا خارج من الحمام رأيت في الطرقة شبحين، زهرة وسرحان البحيري في مهامسة أو مناجاة. لعله أراد أن يداري موقفه، فرفع صوته متحدثا في بعض الشؤون التي تعد الفتاة مسؤولة عنها. مضيت إلى حجرتي كأنما لا أرى ولا  أسمع “.([33])

         فما الذي كان يدور بين هذين الشبحين ؟ إن الراوي يوجد في مجال الرؤية السطحية والمعرفة المحدودة. حتى الألفاظ المستعملة في هذا الخبر تؤكد هذه المعرفة غير الواضحة:

استعمال لفظ الشبحين ـ استعمال أو للتخيير ” مهامسة أو مناجاة “. ثم استعمال حرف لعل الذي لا يدل على يقين. وفي الفصل الخاص بسرحان البحيري سنتعرف على العلاقة بينه وبين زهرة بكل تفاصيلها.

         ونقرأ في النص في الفصل الخاص بعامر وجدي:

” ارتديت الروب وغادرت الحجرة وأنا من الانزعاج في نهاية، وجدت الجميع قد سبقوني إلى المدخل. البعض في حال استطلاع مثلي. أما سرحان البحيري فكان ثائراً متسخطا وهو يسوي الكرافتة وياقة القميص، كذلك زهرة كانت مصفرة الوجه من الغضب وقد تمزقت طاقة فستانها، وراح صدرها يعلو وينخفض على حين مضى حسني علام إلى الخارج بالروب آخذا معه امرأة غريبة وهي تصرخ وتسب وقد بصقت في وجه سرحان البحيري قبل أن يغيبها الباب.” ([34])

         هذا الحادث الذي يمثل مشاجرة سرحان البحيري وصفية التي شاركت فيها زهرة، يقدم لنا من خلال وجهة نظر عامر وجدي بشكل سطحي، بحيث لا نرى من الحادث إلا مظهره الخارجي. ثم إننا لا نعرف شيئا عما جرى لصفية بمجرد أن غيبها الباب بمعية حسني علام. ولكننا سنتعرف على الحادث في شكله العميق في الفصل الخاص بسرحان البحيري ([35]). بيد أننا سنبقى في منطقة الجهل بالنسبة لخروج صفية وحسني علام. وفي الفصل الخاص بهذا الأخير سنعرف ما توقفت عنده معرفة الراويين السابقين: عامر وجدي وسرحان البحيري. أي الحوادث الخارجة عن مجال رؤيتها.

         نقرأ في فصل حسني علام:

” أخذت المرأة الغريبة من معصمها، وذهبت بها خارجاً، وليس علي ـ عدا البيجاما إلا الروب. دفعتها برقة أمامي معلنا عن أسفي واضعا نفسي في خدمتها. كانت تغلي بالغضب غليانا، وتسب ووتلعن ” ([36])

4 ـالكائن  والظاهر:

                  إن الروايات المختلفة التي قدمت لنا حول حادث المشاجرة بين سرحان وزهرة الذي ناقشناه آنفا، بعضها كان يمثل الظاهر، وبعضها الآخر كان يمثل الكائن. فهناك مستوى ظاهر، وهناك مستوى آخر يبقى كامنا إلى أن يبرز، وهو في الحقيقة المستوى الحقيقي والواقعي. يقول تودوروف في هذا الاطار: ” إن السرد حول المظاهر يوقظ فضولنا فننتظر تفسيراً أكثر عمقا”.

         وسنرى هنا أمثلة لهذين المستويين: الكائن والظاهر.

تقول ماريانا مبينة العلاقة بين سرحان والمرأة الغريبة صفية التي تشاجرت معه داخل البنسيون: ” الفتاة كانت خطيبته أو هذا ما  فهمته ” ([37])

         إن ماريانا هنا تقدم ذلك الظاهر الذي يوقظ فضول القاريء إلى معرفة تفسير أعمق وأقرب إلى الحقيقة.

         أما الكائن فسيظهر في الفصل الخاص بسرحان البحيري، حيث سنكتشف أن صفية مجرد عشيقة لهذا الأخير.

         ويرى عامر وجدي:

                  ” وفي صباح اليوم الثالث لاعتكافي اقتحمت المدام غرفتي في غاية من الانزعاج ثم قالت لاهثة:

                  ـ أما سمعت بالخبر ؟

                  ثم وهي تغوص في المقعد الكبير:

                  ـ قتل سرحان البحيري

                  ـ هه !

                  ـ وجد قتيلا في طريق البالما “.([38])

مرة أخرى تقدم ماريانا المستوى الظاهري للواقعة، أما المستوى الحقيقي، فسيترك مكتوما حتى نهاية الرواية، حيث يأتينا خلال سرد عامر وجدي عن طريق أخبار يقرأها في الصحف: ” و إذا بتقرير الطبيب الشرعي يؤكد أن الوفاة نتجت عن قطع شرايين رسغ اليد اليسرى بموسى حلاقة، وليس بضرب الحذاء كما اعترف القاتل، وبذلك رجح أن تكون الوفاة نتيجة  انتحار لا قتل ” ([39])

         إن الرواة كثيرا ما يحاولون خداع القاريء، فيلجأون إلى استغلال المستوى الظاهري للحدث ليخفوا عنه المستوى الحقيقي الكائن، وليبعدوا ذهنه عن مجرد التفكير فيه. فحادثة المشاجرة التي وقعت بين سرحان وحسني علام قبل مقتله بيوم واحد، والتي تبادلا فيها الشتم والضرب إلى أن خلص بينهما البواب ورفاقه، انتهت بالتهديد التالي من طرف حسني علام:

         ـ ” تعال لأريحك من حياتك “.([40]) مما يدفع القارئ إلى الاعتقاد بأن قاتل سرحان البحيري هو حسني علام، في حين سيظهر منصور باهي الذي حاول  قتله بالفعل من خلال الرواة , صورة للبراءة،  بل سيبدو أقرب إلى الأنوثة منه إلى الرجولة.

5 ـ وظيفة العالم الخارجي:

كثيرا ما يقدم الرواة ـ الشخصيات في  ” ميرامار ” وصفا للخلفية الفضائية أوللإطار الطبيعي الذي تتحرك فيه. وهذا الوصف لم يقدم لحد ذاته أو لغاية تأثيثية  تزيينية، بل قدم ليقوم بوظيفة أساسية تتمثل في عكس العالم الداخلي للشخصية ونقل حالتها النفسية. فالإطار الطبيعي كما يقول موريس أبو ناضر هو ” حالة نفسية ” وهو سمة من سمات الشخص المميزة. ([41])

         إن الخلفية الفضائية أو الإطار الطبيعي المهيمن على الرواية هو الإسكندرية ببحرها وهوائها المتقلب في فصل الشتاء، وسمائها الممتلئة بالسحب، ومطرها الذي ينهل انهلالا.

         نقرأ وصف عامر للإسكندرية:

                  ” الإسكندرية قطر الندى، نفثة السحابة البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع ” ([42])

         فنجد أنه يعكس حالة الرضا والطمأنينة والارتياح التي ملأت نفس عامر وجدي حين عودته إلى موطن ذكرياته ومسقط رأسه.

         إن الشفافية التي وصفت بها الإسكندرية تعكس حالة الرضا النفسي التي تغمر نفس عامر وجدي بالمصير الذي آل إليه في آخر حياته، كما تعكس تفاؤله بأن يجد في الإسكندرية خير ملاذ.

وفي الفصل الخاص بحسني علام يقدم لنا حسني حالته النفسية من خلال وصفه للبحر:

                  ” وجه البحر أسود محتقن بزرقة، يتميز غيظا يكظم غيظه.  تتلاطم أمواجه في اختناق. يغلي بغضب أبدي لا متنفس له… البحر يمتد تحتي مباشرة، كأنما  أراه من سفينة. وهو يترامى حتى قلعة قيتباي محصوراً بين سياج الكورنيش وذراع حجري يضرب في الماء كالغول.  بينهما  يختنق البحر، يتلاطم موجه في تثاقل وهو كظيم. بوجه أسود ضارب للزرقة منذر بالغضب، يضطرم بباطن محشو بأسرار الموت ونفاياته “. ([43])

         إن هذا المشهد يعكس عالم حسني علام الداخلي الذي تعتمل فيه مشاعر الحنق والغيظ والتمرد على طبقته التي رفضته، واليأس والقنوط والضيق والإحساس الحاد بالمصير الإنساني المحتوم. إن هذا المشهد هو إسقاط لحالته النفسية المتناقضة المشاعر أو هو المعادل الموضوعي لها حسب إيليوت.

         وقد يعكس لنا الراوي من خلال الإطار الطبيعي فضلا عن الحالة النفسية الناقمة، والمزاج السوداوي، الرغبات الكامنة، والصبوات المطمورة التي تتوق إليها الشخصية كما في حالة منصور باهي الذي يترجم المشهد التالي توقه إلى ثورة شاملة، وتغيير جذري:

         ” البحر يترامى تحت سطح أملس باسم الزرقة، فأين العاصفة الهوجاء ؟ والشمس تهوي  إلى المغيب مرسلة شعاعاً ماسيا يلتحم بأهداب سحائب رقيقة، فأين جبال الغيوم ؟ والهواء يلاعب سعف النخيل  في غابة السلسلة بمداعبات شفافة رقيقة فأين الرياح الهوج المزلزلة ؟ “. ([44])

خاتمة:

         تطمح رواية “ميرامار” إلى تحقيق الرواية التي نادى بها ” هنري جيمس ” والتي يختفي فيها  المؤلف، فتحكي القصة نفسها بنفسها عن طريق تقديم الحدث على شكل ممسرح، فالرواية في “ميرامار” تقدم لنا عبر وعي رواة ـ شخصيات عن طريق الحوار والمونولوج الداخلي وتيار الوعي، فتتحرك الأحداث أمامنا حية نابضة.

         وتبقى الرواية على العموم عبارة عن مشاهد متلاحقة مترابطة فيما بينها، مشكلة بناء سرديا محكما, وهذا البناء هو أقرب إلى المونتاج السينمائي بحيث جاءت الرواية في معظمها مكتوبة بطريقة السيناريو يتم الانتقال فيها من مشهد إلى آخر ومن زمن إلى آخر بواسطة علامات فاصلة، لا بواسطة تقنية الحذف السردية التي لا تستعمل إلا نادراً.

والحقيقة أن التجربة الروائية لنجيب محفوظ أخذت منذ رواية ( أولاد حارتنا) تتجه نحو التجريب واستيحاء التراث السردي العربي ([45]) و” تحدد ملامح الطريق إلى المعاني الأساسية للحياة الإنسانية: الكرامة والحرية والسلام والمحبة والعمل “. ([46])                                  

  ……………………………………..

 *   د. عبدالجبار العلمي:  أستاذ باحث من المغرب

الهوامش:

[1]  ـ ميرامار , نجيب محفوظ , دار مصر للطباعة , ط 1 , 1967 , ص: 264.

[2]  ـ الرواية , ص: 40

   3 ـ الرواية , ص: 32.

[4] ـ الرواية , ص: 87.

[5] ـ الرواية , ص: 153.

[6] ـ  الرواية , ص: 232.

[7] ـ الرواية , ص: 71.

[8] ـ الرواية , ص: 272.

[9] ـ تأملات في عالم نجيب محفوظ , الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر , 1970 , ص: 129.

[10] ـ انظر كتاب: OSCAR TACCA ,LAS VOCES DE LA NOVELA, Editorial Gredos , Madrid , segunda edicion, 1978 ,p:96

[11] ـ Tzvetan Todorov , Les catégories du récit , COMMUNICATION n° 8, 1966 p. 142.

[12] ـ أنجيل بطرس سمعان، وجهة النظر في الرواية المصرية، مجلة فصول، ععد 2، المجلد الثاني، سنة 1982، ص: 104.

[13] ـ نفسه، ص: 104

[14]  ـ Gérard Genette , Figures 3 , edition du SEUIL , 1972 ,   p. 185

[15] ـ من رسلة مؤرخة بتاريخ 18 مارس 1857 إلى الآنسة: LE ROYER DE CHANTEPIE , L’univers du roman , P. 83.

[16] ـ  محمود أمين العالم، تأملات في عالم نجيب محفوظ، م. س. ذ. ص: 133.

[17] ـ أنجيل بطرس سمعان , وجهة النظر في الرواية المصرية , م , س , ذ , ص: 104 , 

[18]  ـ القصة القصيرة والأسئلة الأولى , مجلة الكرمل , عدد 8 , سنة 1983, ص: 245.

[19] ـ  الرواية، ص: 77 وما بعدها.

[20]  ـ الرواية، ص: 126.

[21] ـ الرواية، ص: 126.

[22] ـ الرواية ص: 183 وما بعدها.

[23] ـ الرواية، ص: 255.

[24]  ـ الرواية، ص: 18.

[25] ـ الرواية، ص: 20 وما بعدها.

[26] ـ الرواية، ص: 38 وما بعدها.

[27] ـ الرواية، ص: 28.

[28] ـ الرواية، ص: 29.

[29]  ـ الرواية، ص: 29.

[30] ــ Tzvetan Todorov , Les catégories du récit , COMMUNICATION n° 8, 1966 p. 142.

[31] ـ الرواية , ص: 25.

[32]  ـ الرواية , ص: 25.   

[33]  ـ الرواية ,ص: 57.

[34] ـ الرواية, ص: 59.

[35]  ـ الرواية, ص: 233.

[36]  ـ الرواية, ص: 111.

[37]  ـ الرواية /, ص: 60.

[38]  ـ الرواية, ص: 82.

[39]  ـ الرواية, ص: 277.

[40]  ـ الرواية, ص: 133.

[41]  ـ الألسنية والنقد الأدبي ,في النظرية والممارسة , دار النهار للنشر , بيروت , 1979 , ص: 120.

[42]  ـ الرواية, ص: 7.

[43]  ـ الرواية, ص: 197 وما بعدها.

[44]  ـ الرواية, ص: 197 وما بعدها.

[45]  ـ على سبيل المثال: استيحاؤه أجواء ألف ليلة قي رائعته:” ليالي ألف ليلة ” , وأسلوب فن الرحلة قي ” رحلة ابن فطومة “.

[46]  ـ محمود أمين العالم , تأملات في عالم نجيب محفوط , م. س. ذ , ص: 128.

 

مقالات من نفس القسم