خُروج من “الزّاوية”

عبد الهادي المهادي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد الهادي المهادي

على غير عادته، لم يُصَلّ الأستاذ عادل النُّوري فجر هذا اليوم في الزاوية، فقد جَفاه النوم في منتصف الليل؛ منذ شبابه الأول كان قد تعلّم أنه في مثل هذه الحالات يُغادر فراشَه مهما كان الجوّ باردا، لصلاة أو سماعِ تلاوةٍ أو قراءةٍ وكتابة. هذه المرة كانت همومه أكبر من أن يتحملها بقاؤه في غرفة صغيرة بجانب زاوية في قرية نائية. لبس جلبابه الصوفي المخطّط، واعتمر طربوشه، ثم رمى قُـبَّهُ على رأسه، وخرج يجر رجليه نحو أعلى الهضبة حيث تعوّد أن يختلي بنفسه كلما همّه أمر. خَطْبٌ ما يعتمل في نفسه بحرارة أطار الاطمئنان الذي كان غارقا فيه منذ سنتين.

في طريقه إلى تلك الشجرة التي كثيرا ما جلس تحتها ليلا أو نهارا يستنطق نفسه قبل أن يتأمل ما حوله، صاح الديك فجأة على غير عادته، يتذكر جيدا أن فلاحا من أهل الجبل أخبره ذات يوم بعيد أن الدّيَكةَ لا تصيح ليلا إلا لأنها تستشرف تغييرا سيطرأ قريبا، في حالة الطقس غالبا، وقد جرّب ذلك بنفسه مرارا. لم يهتم بالأمر، فبحر قلبه هائج، ورعود نفسه لا تتوقف عن القصف، فلم يكن ليَحفلَ ببردٍ أو حتى بمطر آخر الربيع. تابع سيره على ضوء بدرٍ في ليلة تمامه دون أن يتوقف لسانه عن الذكر، بينما أصابعه تُحرك بسرعة فائقة حبّات “سُبْحَةٍ” كبيرة مُخبأة تحت جلباب كان قد أهداها إليه شيخه بلقاسم يوم أن جاءه مُريدا.

عندما خرج من الزاوية، كانت السماء صافية مغسولة بضوء القمر، ولكن ها هي سحبٌ داكنة تزحف من جهة الغرب نحو تلك الصينية الفضية تبغي إخفاءها، وعندما وصل إلى ذلك الحجر الذي تعوّد الجلوس عليه، كانت السماء قد أظلمت بالكامل، ولم يعد يتسرب إلى الأرض ولا نقطة ضوء واحدة.

تنهّد طويلا وعميقا؛ بعد وفاة شيخه بقليل، أصبح يُحس في داخله بما يشبه الغربة، وعلى الخصوص لمّا بدأ يعبّرُ عن رأيه جهرا حول تغييرات طرأت على سلوك “الفقراء” والمريدين اعتبرها تراجعا عن توصيات الشيخ رحمه الله، حتى أنهم لقبوه بـ”عادل الشّريعة”، لأنه كثيرا ما كان يُنَبّهُهم إلى كونهم غَدوْ مُتفلّتين ولا ينضبطون لأوامر الشريعة ونواهيها في بعض أفعالهم، حتى اكتشف ذات صباح أن هناك من ينام عن الفجر، ولا يُصليه إلا والشمس تميل إلى الضحى، بينما تجدُ لسانَه رَطْبا بالحديث عن الأولياء والمقامات والكرامات، وفي الصفوف الأولى لحظة الشّطح والسّماع.

غاب في أودية مُتشعِّبةٍ من التفكير، كان أملُه عظيما في ابن الشيخ ليقودَ الزاوية نحو تَحوّلٍ عميق يرجوه، لم يكن يريد أن يبقى “الفقراء” منعزلين عن المجتمع، حبيسي الأوراد وحِلق الذكر والسّماع، بل كان يتطلَّع لأن يلعبوا دورا ما، بما في ذلك أن يكون الإعلامُ والسياسةُ جزءا من شأنهم.

في اللحظة التي سمع فيها الأذان يأتيه من بعيد، كان قد اختار طريقَه وحسم فيها بشكل نهائي. وهناك صلى والدّموع تبلّلُ لحيتَه. وما إن انتهى حتى بدأت السماء تمطر، وبغزارة. نهض ببطء، وهبط نحو الزاوية وهو يدري أن لا معنى للهرولة، فهو لاشك سيصل إلى غرفته مبللا بالكامل.

لم يستيقظ إلا على أذان الظهر، توضأ سريعا، وغادر للصلاة. في الطريق التقى بمن سأله عن سرّ غيابه فجرا، ولكنه راوغه في الإجابة، قال لنفسه: لا شيء يَخفى هنا مهما كان صغيرا !

عاد إلى غرفته، وافترش الأرض ليكتب ما استقرّ عليه رأيه، وعند العصر كانت كُنّاشتُه مُعدّةً لتسليمها لحليم ابن شيخه، لم يكن يجد أية صعوبة في التعبير عن أفكاره بسلاسة، فهو مدير لمركز تكوين المفتشين، وقارئ نَهِمٌ في العديد من المجالات المعرفية، ومشارك بكُتبٍ مُعتبرةٍ في “علوم التربية”.

قبيل المغرب، كان قد ابتعد كثيرا عن القرية بسيارته في اتجاه مدينة الرباط، حيث كان مقر عمله، لم يُحس مطلقا بالطريق التي قطعها، كان كالغائب يفكّر في مشروعه وفي رَدِّ الفِعْلِ الأوَّليّ الذي أبداه حليم عندما قدّم له رسالته؛ لقد بدا متوجّسا.

عادت به الذاكرة إلى سنوات خلت، يوم أصابته “أزمة روحية” جعلته يطرق أبوابا كثيرة، ويُجرّب مسالك عديدة؛ الموسيقى، واليوغا، والصيد… واطّلع على كتب لا تحصى في الفلسفة والفن والروحانيات الشرقية؛ من بوذية وهندوسية ومانوية وشنتوية وكونفشيوسية، لعله يجد إجابات شافية لأسئلته الوجودية العميقة، ولكن حالته النفسية كانت تسوء من يوم لآخر، حتى خاف على نفسه بجد.

ولُطفُ الله وحده ـ كما لا يَمَلُّ من التكرار على نفسه وعلى من يسأله عن سلوكه التربوي ـ هو الذي أنقذه؛ فعندما انقطعت حيلتُه وأسبابُه، وبينما هو ذات يوم مُتكئ على ساريةِ مسجدٍ يستذكر آية من القرآن نسيها ـ كان والده قد أصرّ على أن يُحفّظه القرآن الكريم منذ صباه على يد فقيه الحي ـ إذ بشاب جميل الصورة، نقيّ، يلبس لباسا أوروبيا، وله لحية صغيرة، جلس يعظ الناس، وقَرْفَصَ أمامه يستمع له، إلى أن قال في نهاية موعظته: “إذا كنتم ترغبون في القرب من الله، ومعرفة الطريق إلى الله، فلا بد لكم من رجل”.

اهتزّ كيانُه من الأعماق، فها هو يجد من يشير إليه بما كان يُحدّث نفسَه به طول الأيام السابقة؛ أن يطوف في مشارق الأرض بحثا عن رجل من لحم ودم يشبه الجيلالي أو الشاذلي، وهذا ما قرأه في بعض كتب المتصوفة؛ عندما ينصحون بضرورة الشيخ لمن يطلب التزكية والسلوك.

امتلأت روحه اقتناعا بأن هذا النداء هو خاصٌّ به دون أحد من الخلق، فوجد نفسه يتبع ذلك “البْرّاحْ” إلى خارج المسجد ويقول له: هل تَدُلّني عليه؟

ولم تمر سوى أيام قليلة حتى سافر إلى بادية بعيدة، وسرعان ما جَثا بين يدي الشيخ بلقاسم؛ لقد أحبّه منذ أول نظرة، بينما فرح الشيخ به أيما فرح، لأن معدنَه تجلّى له صافيا. يتذكر الأستاذ النوري أن شيخَه قال له يومها: “جِيتي عَنْدي أوليدي والفْتِيله دْيَالك مْزْيْتَه”. يومها حكى له قصة ذلك الرجل الذي قرّر أن يعتزل في ضريح مولاي عبد السلام بن مشيش علّهُ يرتقي في المقامات ويصبح مثله وليّا.

وهناك، قضّى أياما طويلة ما بين صلاة وتلاوة وسياحة، إلى أن جاء يومٌ كان فيه جالسا تحت تلك الشجرة وسط الضريح، وإذ بامرأة جبلية قَدِمَتْ نحوه، وبدون أي كلام وضعتْ أمامَه قُفَّة، وعندما فتَّش فيها وجد طعاما؛ بيصرة وزيت وزيتون وحبّات من البيض البلدي. تأمل كل ذلك، ثم رفع رأسه بزهو نحو مرقد مولاي عبد السلام وقال له: “هَانَا لِـيـلْـكْ أَعَـبْـسَـامْ… هَانَا لِـيـلْـكْ”

( وترجمتُها بالفصحى: انتبه يا عبد السلام أكاد أصل إليك، وقد أتجاوزك)

المسكين ـ قال له شيخه ـ ظن أن تلك القفة هي فَـتْـحٌ وكرامة، ولم يَدْرِ إنما كانت صدقة وكفى.

عرف حينها أنه يُشير عليه بالتزام الأدب قبل أي شيء، وعدم استعجال الأمور.

مرّت به هذه الذكريات حلوة بطيئة إلى أن طلعت أمامه مدينة الرباط وكأن الأرض انشقت عنها فجأة.

عندما عاد إلى الزاوية في نهاية الأسبوع، قرأ في وجه الشيخ حليم تغيُّرا، ففهم أن اقتراحاته لم تلق عنده القَبول. ورغم طول الساعات التي قضّاها معه يشرح له ويفسر، إلا أن كل محاولاته لم تثمر اقتناعا، بل مزيدا من التّوجّسات  والهواجس.

مُنكسر النفس توجه إلى غرفته؛ لقد توقع كل شيء سوى الرفض التام لمشروعه، حينها اقتنع أنه لم يفهم عمق “الذهنية الطُّرُقِيَّة” ـ كما يسميها أحد أصدقائه المُبَكّتين ـ إلا خلال هذه اللحظة.

ـ لقد استحلى القوم الخمول، والسكون، والاهتمام فقط بخاصة النفس، بعيدا عن حركية الناس ومشاكلهم الاجتماعية والسياسية، هكذا حدّث نفسه في حزن وأسى.

بُعَيْدَ منتصف الليل، استيقظ على صوت يهتف به: “جا الوقت… جا الوقت”. كان الهاتف نهاية رؤية قصيرة؛ رأى نفسه فيها وكأنه عند مفترق طرق، وأمامه سار “فقراء” الزاوية والمريدون، بينما انتظر هو قليلا عند علامة تَشْويرٍ مكتوب عليها “قف”، ولمّا أراد التحرك للحاق بإخوانه تغيرت تلك العلامة إلى إشارةِ انعطافٍ إلى اليمين.

كانت الرؤيا بالنسبة له واضحةً لا تحتاج إلى كبير عناء لإدراك تأويلها، خاصة وأنها تزامنت وليلة الاختلاف مع الشيخ حليم حول مسار الزاوية وأُفُقِها.

توضّأ، وجلس يكتبُ صفحاتٍ من الكتاب الذي بدأ تأليفه منذ شهور.

أيام طويلة بعد ذلك حاول أن يعيشها وكأنه ما “قال” شيئا ولا “رأى” ولا “سمع”، ولكن الأمر كان يكبر في داخله ويتضخم؛ كان يحسُّ أنه بالفعل عند مفترق طرق حقيقي، وأخوف ما كان يخافه  أن يُفضي به إلى الانفصال عمَّن وُلِدَ وسطهم ولادته الثانية.

ناء جسمُه الضعيف بثقلِ ما يَعْتَمِلُ في قلبه فهوى مريضا؛ اشتعل بدنه حرارة، وسقط لسانه، صار لا ينطقُ إلا إشاراتٍ بأصبعه، فما نفع معه دواء طبيب ولا “بركة وَلِيّ”، حتى كاد أقرباؤه ومحبّوه يفقدون الأمل في شفائه. وحدها أمه كانت هادئة مطمئنة كجبل وسط إعصار أهوج؛ كانت تقول لهم: “يا ناس باااااقي يْقَطّاعْ جْلالْبْ بْزَّااااااافْ”، وتُطيل في المَدّ، قبل أن تُتَمْتم بدعاء: “سِيرْ أوليدي الله يْعْطيك ديك اللّي شُوفْتْ”، لكنها ترفض، مهما كان الإلحاح قويا، أن تُحدّثهم عن ذاك “الذي رأته”.

ذات فجر، تفاجأ به “الفقراء” يدخل عليهم المسجد؛ ذابلا كان، ولكنهم ـ رغم ذلك ـ قرؤوا في وجهه استبشارا وإصرارا. صلى الفريضة، وتمتم معهم بالحزب الراتب، ثم غادرهم محفوفا بالابتسامات والدعاء؛ كانوا ـ رغم صرامته معهم ـ يحبونه ويقدرونه ويعرفون مقامه عند شيخهم الحاج بلقاسم.

شيئا فشيئا تعافى، وبعد أسبوعين من ذلك كان يشدُّ رحاله ليغادر، هذه المرة بشكل نهائي. لم يكن له خيار؛ هناك من “قَرّعَه” وجعله ينهض سريعا للمُضي في طريقه، طريقٌ بدت له أنها ستكون خَطِرَةً جدا، خاصة وأنه قرّر أن يُدشّنَها برسالة يطرق بها باب السلطان ناصحا ومقترحا، ارتأى أن يسمّيها “بَراءَة النّوري”.

أثناء خروجه من القرية سالت عيناه بدموع حارّة، طافت برأسه ذكريات كثيرة؛ تذكر كيف قَدِمَ فَرْخًا إلى الزاوية، وكان في الرّمق الأخير من بحثه عن “الحقيقة”، وقد وجدها هنا بين يدي شيخ سلبه منذ النظرة الأولى، فسَهُل عليه التّخلي عن كل تجاربه ومعارفه وارتمى في أحضانه طفلا حديث الولادة. يتذكر أيضا كيف فرح بشيخه ولم يشأ أن يحتفظ بالسّر لنفسه، بل أخذ يرفع صوته عاليا، تماما كما فعل ذلك الشاب “البْرّاحْ” الذي دلّه عليه، فكان يُركبُه سيارتَه، ويطوف به بين المدن مُعرّفا به، وداعيا الناس لترك ما باليد والالتحاق بمن  سيدلهم على الله، كان يختار النُّخبة من الأطر والموظفين، وما أكثر المرات التي نَكّتَ عليه فيها أصدقاؤه وزملاؤه إلى حدّ أن أحدهم قال له مرّة: “سأكتب رواية تكون أنت أحد أبطالها، وسأسميها: المثقف والدرويش”، بينما اقترح أحدهم ممن تتلمذ على يديه عنوان “الطيبون”.

جفّف دموعه بمنديل أبيض أهدته إياه والدته ذات عيد، وتابع سيره بإصرار، كان على وعي تام بأن “طريقَه السُّلْطاني” بدأ الآن.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون