خيرها فى غيرها

رضا صالح
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. رضا صالح

كانت عيناه متألقتين؛ أتجه بهما إلى سماوات متباينة ؛ تبعا للآمال التى ظلت تداعب فكره وتدغدغ مشاعره طويلا

قال: “سوف أشترى السيارة أولا قبل الأرض لأن مدينة السلام بعيدة، تحتاج إلى سيارة ؛ ستكون أساسية، لكن ما رأيك ؟ أى ماركة؟ شاهين ؟ فيات ؟ الأولاد يقولون لا يا بابا ؛ من الأفضل أن نشترى دايو، زمان كنت أمتلك عربة كرايزلر بعتها بتراب الفلوس؛ بعدها أنهينا الشركة، كان عندى شركة مقاولات كبيرة، كنت أتحرك بسيارة بيجو ؛ لكن السيارات اليابانى أجمل.. ما رأيك ؛ نركز على اليابانى ؟”

نظرت إليه، كان مندمجا فى الأحلام، لم أشأ أن أقاطعه، ربما تتحقق أحلامه..

                                                             —***—

صاحبى يمتلك جزءا من بيت عتيق يقع على ناصية معروفة بالقرب من ميدان فسيح بوسط البلد، كان على بعد خطوات من بيتى، نتزاور بسهولة، أراد أن يبيع نصيبه، عندما أزوره أحدق جيدا فى مدخل البيت وقد تصدعت أركانه؛ كنت أرى  درجات السلم المتهاوية، الشقوق والبروزات والهبوط فى معظم الدرجات، عندما أرفع نظرى إلى الحوائط أجد شقوقا طوليه تطالع عيناى،، هذا الشق العميق الزجزاج وقد أخذ مجراه من السقف حتى منبت العمود، أتساند بيداى على الدرابزين حتى لا أتزحلق على درجة معوجة.أحببت الدخول إلى شرفته لأتمتع  بالزهور والنباتات التى يحبها ويهتم بزراعتها فى أصص عديدة،  عندما أنثر عليها قطرات الماء ؛  تفوح رائحتها العطرة، آنست إليها مستبشرا منشرح الصدر،لا أملها ولا أشبع منها.

 تنحنحت ؛ أكمل كلامه:

 ارتفع ثمنه هذه الأيام ؛ والدى بناه فى الرخص،  لابد أن نخرج من عنق الزجاجة؛  السمسار قال لى اشترى 400 متر أحسن، لكن الأولاد يقولون 200 متر والباقى تضعه فى البناء والتشطيب،  سمعت إن التشطيبات غالية هذه الأيام، لكنى أفضل الامتداد أفقيا، لا أحب الصعود لأعلى (تبسم) لا أحب أن أكون مثل فرعون (أنا ربكم الأعلى ) أعوذ بالله.

لم أجد ما أقوله، فقط تمنيت أن تتحقق هذه الأفكار، قلت له :

المنطقة هنا حية وفى وسط البلد , رد قائلا :

مدينة السلام جوها صحى وجميل..أحسن حاجة الهدوء أنا مفتقد الهدوء هنا ؛ طول النهار الباعة وكلاكسات السيارات لا تتوقف عن الصراخ..

أخذ نفسا عميقا وأكمل :

 فيه واحد صاحب ابنى يعرف قطعة أرض للبيع فى طريق شل، الموقع هادى، كان فيه أشجار نخيل كثيفة وحديقة بعد مدافن اليهود، منطقة رائعة فى الهدوء، ستكون أقرب إلى قلب المدينة  من حى السلام، وأسهل بالنسبة للمواصلات، لكن الحاجة تقول عيبها إنها تطل على المقابر، سنرى المقابر من الشرفة، قلت لها اقفلى الشباك..ما رأيك ؟

أفقت من غفوة كادت تدهمني،قلت متسرعا :

نعم ؟ تقفل الشباك طبعا..لماذا تفتحه؟  لو جاءك منه الريح سده و استريح..

ضحك وقال :

لا..لا أقصد رأيك فى الشباك، ولكن أقصد رأيك فى اختيار المكان.

قلت :

نعم..نعم..لابد من أخذ رأى الأولاد، هم الجيل الجديد، وخصوصا أنهم كبروا الآن على ما أعتقد..

نعم ثلاثة منهم متزوجون، لى سبعة أحفاد..

صمت قليلا ثم استأنف :

المشترى مليونير ؛ تاجر كبير من المنصورة، عنده مزرعة ومحطة تربية طيور.. أخوه يعمل معه، اتفقنا على السعر، حوالى 4 مليون..سيكون نصيبنا الثلث،  يعنى أكثر من مليون ؛ حوالى مليون وثلث، مضبوط

قلت مؤكدا :

مضبوط,  أكمل ضاحكا :

سندخل فى دائرة المليونيرات !!

                                                    —***—

قلت له :

هل أنهيتم مشكلة أصحاب المحلات ؟

سرح بذهنه وتغيرت سحنته ؛ كل شىء يجىء بالتفاهم ماعدا هذا الملعون…

من هذا ؟

عضو لجنة الحزب ,الله يخرب بيته وبيت ال…

لحقته سريعا :

لا تجعله يكسب على حسابك, سوف يأخذ من حسناتك إذا تماديت فى سبه.

قال منزعجا :

وهل مثل هذا الملعون له حسنات ؟ هذا لا يفكر سوى فى الفلوس كل شىء عنده فلوس , هذا يساوى كم ؟ لا يتذكر الإحسان الذى قدمناه أيام زمان عندما أجر المحل بأربعة جنيه، اليوم لا يقبل بنصف مليون ليترك المكان؛شىء  يجنن؛ وهل نحن أصحاب بيوت الآن ؟ نحن عبيد عند المستأجرين، والدولة تحميهم ؛وتفترض أنهم غلابة…أقول لك حاجة ؟

تفضل

أنا أزعجتك.

يا سيدى العفو

سوف أزرع حول البيت، أنا غاوي زراعة، والحاجة تحب تربية الطيور فوق سطح البيت، ممكن نزرع الخضار البيتى، بامية وملوخية  وباذنجان وفلفل وطماطم وجرجير وخس..الأرض هناك خصبة وحلوة، تحب من  يحبها، الأرض دائما معطاءة.

طبعا طبعا…

إيه رأيك..لازم نبنى السور الأول، السور مهم.. أنا سمعت إن الحرامية  سرقوا الكابلات وغطيان المجارى وحديد التسليح فى مدينة السلام؛ صح الكلام ؟

صّدق.

يعنى لا يوجد أمان ؟ عموما سنضع كل حاجتنا داخل السور،  وخصوصا إن الحديد غالى هذه الأبام (ضحك).

                                                            —***—

اعتدل فى جلسته ورشف رشفة من فنجانه، نظر إلىّ وأكمل كلامه بنفس الوتيرة الهادئة :

” ربنا يسهل، سيكون كل ولد فى شقة ؛ وسوف أسكن أنا بالدور الأول،،لا أحب…

سرح بنظره وهو يضع الفنجان، انسكبت القهوة على ملابسه،أردف:

“خيرا خيرا… اللهم اجعله خيرا، سمعت إن دلق القهوة خير “؛ ناولته فوطة، مسح بها ملابسه، أكمل قائلا:

” أنا أحب الدور الأول ؛ أنت عارف مفاصلى تعبت، الركب لا ينفع معها علاج، يبدو أن السن عليه عمل “

قلت مبتسما :”سن إيه ؟ أنت مازلت شابا..

 الدكتور قال خشونة فى المفاصل، كتب لى علاج فيه كورتيزون ؛ وأنا أعرف إن الكورتيزون له مضاعفات “

 

أحسست وهو يتحدث كأنه مازال شابا بالرغم من تواجده  بالعقد السابع، أحببت صراحته وتفاؤله بالحياة ؛قلت له قبل أن أغادر :

أريد أن أقطف زهرة

قال بلطف ؛ معتذرا :

لم تزهر حتى اليوم !!

                                                          —***—

بعد أسبوعين تقريبا من هذا التاريخ  هاتفنى، قال دون أى نبرة يأس أو أسى :

 مشروع البيع توقف..

 فى أعماقى كنت فرحا ؛  لتواجده بالقرب منى، فقد تعودت على زيارته؛ وصادفت صراحته هوى فى نفسى، ولمس بصدقه وترا ضعيفا فى قلبى، لم أرحب بسكناه بعيدا، ولن أفرح عندما أرى بيته وقد تحول إلى أطلال، وتحولت الذكرى إلى دروب للنسيان، حتى ولو رأيت مكانه صرحا هائلا من الأسمنت والحديد ولافته ضخمة كتب عليها” شقق للتمليك “،  لن أفرح عندما أرى برجا هائلا وقد أنتصب ليحتل بيته الذى طالما تقابلنا فيه، وتجاذبنا أطراف الحديث فى الفن والأدب..

سألته وقد أبديت انزعاجى :

لماذا؟

أجابنى ببساطة :

كورونا أثرت على التجار، المزارع قفلت، والرجل اعتذر عن الشراء.

                                                                                           

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون