“شارع الحوانيت المعتمة”.. أوديسة البحث فى الذاكرة المفقودة!

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ربما تكون الخدعة الواضحة فى روايات باتريك موديانو (نوبل فى الأدب 2014) أنها تبدو لأول وهلة محاولة بحث فى الأماكن عن أشخاص، يحضر المكان باسمه وشكله وألوانه ورائحته، وتغيب أسماء الأشخاص أو تلتبس وتزدوج وكأنها أقنعة تزيدنا حيرة، بينما لو تأملنا أكثر لاكتشفنا أن روايات موديانو (وهذا سر متاهتها) ليست سوى أوديسة فى الزمان، فى فجوات الذاكرة المفقودة، لابد أن تكون هناك متاهة، ذلك أننا ننظر من خلال الضباب الى شبه أطياف تريد أن تتشكل بلا جدوى، الرؤية هنا ذاتية إلى درجة مؤلمة، قوانين الذاكرة لا نعرف عنها الكثير، التداعى واحدٌ منها، ولكن هناك قوانين أخرى "مضادة ومقاومة للتذكر"، هناك رغبة فى أن نستعيد الماضى المجهول، ولكن هناك مخاوف من كونه مزعجا، نبحث عن جوهر الهوية، ولكن استعادتها تبدو أمرا محفوفا بالمخاطر، لعبة موديانو معنا هى استعارة كاملة من لعبة "اوديسيوس" فى "الأوديسة": رغبة فى العودة ولكن الى الزمان لا الى المكان، سعى وبحث ومغامرة، تقابلها صعوبات وعوائق، لايتوقف البحث ولا يتوقف الصراع، لا فى خارج الشخصية ولا فى داخلها، نقرأ موديانو بشغف رغم أنه يكاد يقدم فى كل مرة تنويعات على نفس النغمة، لأنه يخاطب داخلنا، ليس فقط "نوستالجيا" تمنحنا عمرا إضافيا، ولكن لأنه يذكرنا دوما بأننا محكوم علينا بأن نكون فى "أوديسة" زمانية أو مكانية، الإنسان حيوان أوديسى.

روايته ذائعة الصيت “شارع الحوانيت المعتمة” صدرت فى طبعة جديدة من دار الهلال المصرية بترجمة محمد عبد المنعم جلال، كانت قد صدرت الطبعة الأولى قبل حصول موديانو على نوبل بسنوات، تكاد تلخص الرواية رغم صفحاتها المحدودة (170 صفحة فقط فى ترجمتها العربية) معنى الأوديسة فى الزمن، ومنذ السطر الأول الذى يقول فيه راويها وبطلها الباحث عن ذاكرته :” أنا لاشىء غير طيف واضح”، وحتى السطر الأخير الذى يتساءل فيه :” أوليست حياة كل منا سريعة الإنتهاء كحزن هذه الطفلة؟”، فإن البطل الحاضر دوما هو “الزمن الماضى” ، ليست الأماكن والأشخاص التى يمر بها أو يلتقيها السارد سوى أدوات للتذكر، هو فى الواقع يدخل الى تلك الفجوة الغائرة فى ذاكرته، يغوص فيها بحثا عن هويته، كل ما يعرفه أنه لايعرف شيئا عن ماضيه، اللغز هنا ليس كما نعتقد هو اكتشاف شخصية البطل، اللغز هنا هو الزمن الذى يمنحنا هوية فى الماضى، تختلف عن هويتنا فى الحاضر، فكرة بحث إنسان عن ذاكرته الضائعة وهويته ليست جديدة، فى مسرحية “جان أنوى” المدهشة “مسافر بلا متاع” بحث مماثل، بل إن فيلما مثل “المواطن كين” لأورسون ويلز، ليس فى جوهره إلا بحث عن هوية وماضى إنسان عبر الآخرين، ولكن رواية “شارع الحوانيت المعتمة” لاتنتهى الى جواب شاف كما فى تجربتى “أنوى” و”ويلز”، وكأن البحث هدف وغاية فى حد ذاته، وكأن هناك قوة غير منظورة قد حكمت علينا بهذه المتاهة الزمانية، وكأن الماضى له قانون لا نعرف كلمات سره، هنا بحث بوليسى فى جوهره، ولكن من دون كلمة “النهاية”، أوديسة بدون وصول أو الحصول على مكافأة “بنيلوبى”، ما يكسب رواية “شارع الحوانيت المعتمة” بعدها الفلسفى أننا لن نعرف حتى معنى كلمة “روزبد” كما فى نهاية “المواطن كين”، ولن يكتشف البطل جانبه الأسود لكى يختار ويحكم كما فى ” مسافر بلا متاع”، كل ما سيكتشفه أن عليه أن يواصل البحث، حتى اسمه الذى وصل إليه عبر الآخرين، مجرد اسم مستعار، هذه متاهة وجودية بامتياز، ولذلك لامعنى لإغلاق الأقواس، الرواية من هذه الزاوية دراسة عن مأزق استدعاء الأمس من خلال اليوم، مشكلة بطلنا أنه يحاول استحضار إنسان آخر كان يعيش داخله فى الماضى، مشكلته هى مشكلتنا مع الذاكرة التى تمنحنا جذورا فى الأرض، ولكنها جذور مراوغة وملتبسة للغاية، جذورٌ لكن فى الهواء.

لدينا رجلان سنكتشف بعد سطور قليلة أنهما يمتلكان ماضيا غائما، للمفارقة هما يعملان كمخبرين يقدمان “الحقائق” لمن يطلبها، من البداية اللعبة ساخرة، ومن البداية يقرر “هوت” صاحب مكتب التحرى إغلاق مكتبه بعد تسع سنوات عمل فيها معه بطلنا الذى يحمل اسم “جوى رولان”، جاءه “جوى” بلا اسم وبلا ماض وبلاهوية، فمنحه هوت اسما وهوية وأوراقا مستعارة، قرر الحاضر أن يبدأ من الصفر، الحاضر أصبح ميلادا جديدا، “هوت ” نفسه توقف عن البحث عن ماضيه الغامض، أفلحت هذه الصيغة لسنوات: أن تبحث عن الحقائق من أجل غيرك، ولكن عند لحظة معينة، لابد من التوقف، الرواية إذ تبدأ من إغلاق مكتب التحرى (ربما مللا وقد يكون رغبة فى أن تعمل لصالحك لأن الماضى ما زال قويا فى حضوره)، فإنها تنقلنا من مهنة “البحث” عن الآخر، الى “متاهة” البحث عن الذات، لم يكن المكتب فاشلا، ولكن لم يكن ممكنا أن تظل بلا هوية، بلا جذور، لاتكفى حقائق الآخرين بديلا عن حقيقتك.

ولكن المسألة ستكون أعقد وأصعب، “هوت” سيساعد “جوى” فى استكمال بعض المعلومات، ترك له المكتب فى باريس لكى يستكمل فيه مهمته، فى المكان ذاكرة ضخمة مكتوبة فى صور مجلدات تكاد تسجل كل الأماكن التى عاش فيها سكان باريس منذ ثلاثين عاما، حاضر الرواية هو العام 1965، وماضيها/ ذاكرتها/ هى فترة الثلاثينات من القرن العشرين، وربما الأدق أن نقول إنها تمتد الى النصف الأول بأكمله من هذا القرن، وإمعانا فى المتاهة، فإننا سنجد أنفسنا أمام هويات وجنسيات متعددة، من فرنسا ومن روسيا ومن أمريكا الجنوبية، لدينا أيضا مهن مختلفة: موظف فى سفارة، وجوكى، ووريث عائلة أرستقراطية، خياطة ومصور، أشكالٌ وألوانٌ من العلاقات، وكل ما يمتلكه جوى رولان مجرد صناديق بها صور أو قصاصات، رجل التحرى يتحرى عن نفسه، وصاحب المكتب “هوت” أيضا بدأ رحلة مماثلة.

إحدى آليات لعبة موديانو فى البحث عن الذاكرة الحضور القوى للمكان كهوية فى مقابل غياب أو التباس هويات البشر أو أسمائهم، وصف المكان يكاد يكون فوتوغرافيا، ويكاد يزيد من عمق المأساة، فالذين صنعوا المكان وجعلوا له اسما راسخا (البشر) هم أنفسهم يبحثون عن اسم وهوية ثابتة، من آليات اللعبة أيضا قدرة موديانو المذهلة على خلق الجو بما يصنع مجازا يعبر عن مأزق البحث فى الزمن، تتكرر فى رواياته الأجواء الضبايبة، والأبواب المغلقة، ومساحات الظلام المكتسحة رغم نبضات الضوء الشحيحة، الماضى والذاكرة دوما وراء حجاب، ولكن موديانو يلجأ فى أحيان كثيرا الى عبارات صريحة يضعها على لسان بطله، الإنسان نفسه دخان عابر يمكن أن يمحوه الزمن محوا ، من “شارع الحوانيت المعتمة” هذه الفقرة المفتاحية  على لسان “جوى” السارد التائه: “أناس غريبو الأطوار لايتركون خلفهم ما يدل عليهم غير بخار لايلبث أن يتبخر ويزول. كنا نتكلم، أنا وهوت، عن أولئك الناس الذين تتلاشى آثارهم، ثم يظهرون فى يوم جميل من العدم، ويعودون بعد أن يتألقوا ببعض البريق، ملكات جمال .. عشاق .. فراشات ..الغالبية منهم حتى وهم على قيد الحياة لا قوام لهم إلا كدخان لن يكثف أبدا ، وقد ضرب لى هوت مثلا عن رجل الشواطىء، قضى ذلك الرجل أربعين سنة على الشواطىء، أو فى أحواض السباحة، يتبادل الحديث مع المصطافين والعاطلين من الأثرياء، وفى الزوايا وفى خلفية آلاف الصور التى التقطت يظهر ذلك الرجل فى ثوب الإستحمام، بين جماعات مرحة، ولكن ما من أحد يستطيع أن يذكر اسمه، أو أن يقول لماذا يوجد معهم، ولن يلحظ أحد ذات يوم أنه اختفى من الصور، ولم أجرؤ أن أقول هذا لهوت، ولكنى ظننت أن رجل الشاطىء هو أنا، ثم إننى ما كنت لأثير دهشته لو أننى قلت له ذلك، وكان هوت يقول دائما إننا جميعا “رجال شواطىء”، وأن الرمال” وإننى أذكر كلماته بالذات” لاتحتفظ ببصمات أقدامنا أكثر من ثوان معدودة” . يبدو الإنسان فى هذه الفقرة عابرا فى صورة ظهر فيها على حين غفلة، تماما مثل “جوى” الذى حصل على صورة لشخص يشبهه، وسط آخرين لا يعرفهم، الحقيقة أن كل الذين ظهروا فى الصورة عابرون، يحتاج الأمر الى جهد كبير لاستعادة هوياتهم، لاستحضارهم بعد موتهم أو اختفائهم، هى إذن أزمة إنساني: الزمن والموت يمحوان الذاكرة، ونحن نحاول استعادتها، ونصر على ذلك،  وهى مهمة شاقة وعويصة وسرمدية تنتقل من جيل الى آخر، لعل ذلك هو جوهر كل مشروع موديانو الروائى.

تنتهى الرواية بعد أوديسة طويلة، جوى اكتشف أنه كان يعمل فى سفارة لإحدى دول أمريكا اللاتينية، كانت لديه صديقة أو زوجة تدعى دنيز، اسمه ملتبس مع شخصيات أخرى، إحدى هذه الشخصيات أقامت لفترة فى فندق بشارع الحوانيت المعتمة بروما فى إيطاليا، يقرر جوى مواصلة البحث حاملا صوره التى تبدو كما لو كانت ماضيا تجمد فى مكانه، تنتهى اللعبة دون أن نصل الى حقيقة كاملة أو مؤكدة، هوت انحاز الى رأى جوى بأن “المسقبل لايهم .. المهم هو الماضى”، لن نعرف ماذا حدث فى فندق الحوانيت المعتمة، قد يصل جوى الى خيط أفضل، وقد تلغى معلومة جديدة كل ما جمعه، فيبدأ من الصفر، فى كل الأحوال، فإن على أوديسيوس أن يواصل رحلته حتى فى وجود ذلك “الفارس الأزرق” الغامض الذى يقتل الناس، وحتى لو كان البشر مثل “ألف وألف كرة صغيرة فى بلياردو كهربائى ضخم تتضارب وتتصادم بعضها ببعض، ومن كل هذا لم يبق شىء، ولا حتى سحابة الضوء التى تنبعث من دودة براقة”.

وسط ضباب وبخار، حاملا علبةً بها بقايا ذاكرة، وفى فندق لايبشر اسمه ببارقة أمل، يتركنا بطل الرواية وفى نفوسنا أشياء من تجربته الوجودية الغامضة، لا يمكن أن نولد من الحاضر فقط، جذورنا هناك، فى مكان ما بداخلنا، معركتنا مع الزمن تكاد محسومة لصالحه، يقول جبران : “إنما الناس حروف/ كتبت لكن بماء”، ولكننا نستطيع على الأقل أن نترك أثرا على الرمال، قد لا نستطيع أن نعود كما كنا، ولكن الذاكرة تساعدنا على أن نتأمل ما كنا، إنها الدليل الحى على أن حياتنا لها جذور، أو كما يقول بطل الرواية :” كل هذه الأصداء المتناثرة التى تسبح فى الهواء تتبلور وتتجمع فإذا بها أنا”.

نعم .. كانت الرحلة تستحق مغامرة أوديسيوس قديما فى المكان، ومغامرة أوديسيوس المعاصر فى الزمن.             

مقالات من نفس القسم