فيديو كليب

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

خردوات السعادة يا أسطى.

تستعد البنت للنزول، تقف، وتترك مقعدها فى آخر «المينى باص»، تتأرجح فى الطرقة الضيقة، تمسك ببذلة أحدهم، تهمس: آسفة

مع فرملة التوقف تصطدم بظهره، وتتقوقع ذبذبات اعتذارها فى نخاعه الشوكى لتصيبه بالشلل فلا يستطيع الاقتراب إلا من امرأة لها رهافة أصابعها وحسية صوتها.

تقترب اللافتة المرشدة للعينين المجهدتين من عشر ساعات فى قص وتسوية بوسترات نجوم الغناء وأغلفة شرائط الكاسيت.

يستقبلها الرجل العجوز صاحب خردوات السعادة يشعر أن سماءها ملبدة، يشير إلى العود، تهز رأسها وتدندن «ليالى الأنس فى فيينا».. ينحبس صوت البنت ويغرق وجهها فى الدموع.

يواسيها العجوز فيحكى لها عن بنت كانت أذنها تستقر فوق راديو المقهى الذى يجاور مدرستها، ويتنكر فى صورة مزهرية، وذات صباح أصيب فتى المقهى بنوبة حب، فوضع فى المزهرية ثلاث وردات، وملأ نصفها بالماء فصار سمع البنت ثقيلا، وأخذت تبذل مجهودا لالتقاط وشوشة «شادية» أو دندنة «وردة»، وظل طبيب التأمين الصحى يومين يستخرج من أذنها آهات ولوعات الصبى العاشق.

كانت البنت تترك صوتها فى حجرة الموسيقى يتدرب مع الآلات ويتابع ما تلتقطه المزهرية من نغمات، وسرت شائعة بين الطلبة أن حجرة الموسيقى بها عفريت بسبب الأصوات والأغانى التى تصدر منها حتى مع غياب «مس نجوى» مدرسة الموسيقى. ويقسم الأولاد أنهم يسمعون أغنية «موعود» بصوت «صغيرة» قتلها أحد اللصوص وسرق قرطها.

صمت الرجل العجوز لكن عاملة المطبعة أضافت للقصة جزءا جديدا..

البنت التى توزع أذنها على المقهى وصوتها على حجرة الموسيقى لم تكن تبكى وهى تتلقى العِصِىّ على يدها لأنها لا تجيب أسئلة مدرسى اللغة العربية والعلوم والدراسات، حتى ظن المدرسون أنها بكماء وصماء. وحده مستر «مجدى» مدرس الرياضيات من أجله تترك المزهرية، وتتحول إلى طباشيرة بين أصابعه، تمتص موجات صوته الحنون وتجيب عن سؤاله: فاى مجموعة شاملة.

يؤكد الرجل العجوز الحكاية بهزات من رأسه. فتكمل.. تخلصت البنت من مريلتها الزرقاء بعد رسوبها المتكرر وارتدت بدلا منها شكل عاملة مطبعة تنسخ أحلامها آلاف المرات وتوزعها على كل من يتيح لها غياب صاحب المطبعة أن تختلس دقائق لتحدثهم.. مطربين، ملحنين، كتاب أغان.. ومع المساء يزهر جيب العاملة بعشرات الوعود والكروت والمواعيد، وتأتى الصباحات التالية والبنت مازالت عاملة مطبعة.

يتأثر العجوز كثيرا حتى إن وجهه الذى لا يعرف أحد له عمرا تزداد تجاعيده، لكن عاملة المطبعة التى بدأت تعرف بعضا من حقائق الحياة، تعرض عليه أن يوزع شرائط المطربين الجدد مقابل نسبة ربح يتقاسماها، يتردد العجوز، تشير له بالبوسترات الجديدة، تضع فى الكاسيت شريط «كوكتيل» يصعد صوت المطرب الأول يتشنج العجوز وتهتز رأسه بعنف، تعتقد العاملة أن العجوز يتمايل انسجاما فترفع صوت الكاسيت، تتفسخ أعضاؤه، تسقط ذراعه اليمنى، تصرخ البنت، تدور الأغنية الثانية، يتساقط جلد وجهه، عيناه، طاقم الأسنان، تضغط البنت زر الإغلاق لكن الكاسيت المتداعى لا يستجيب لدموع البنت التى لم تمر فى حياتها بمثل هذه التجربة، وقبل أن تغنى البنت «مضناك جفاه مرقده» كان الرجل قد تكوم تحت قدميها كومة من اللحم المهترئ الأنسجة، ورائحة النشادر تملأ المكان.

قبض البوليس على عاملة المطبعة التى تحولت أحلامها من مطربة، إلى تاجرة، إلى متهمة. عذبها رجال البوليس كثيرا كى يعرفوا دوافع الجريمة وكيف حدثت، بما سيجعلها نجمة أغلفة مطبوعات المنظمات الحقوقية، وتصبح أول دراسة حالة فى جدول أعمال المجلس القومى لحقوق الإنسان.

حكت لهم ما حكيته لكم بالضبط، ليس بالضبط تماما، ولكن تماما دون مؤثرات عطرية، الشريط نفسه تم تشغيله للضباط فى قسم الشرطة، بعد دقائق بدأوا يرقصون على إيقاعاته، وخلع أحدهم بدلته الميرى بنجومها الثلاث وحزَّم المتهمة كى ترقص.. سوف يتم السهو عمدا عن ماهية الحزام الذى رقصت به المتهمة احتراما لهيبة الوطن.. وكى لا يتهم كاتب التقرير بالإساءة إلى سمعة مصر. بدأت عاملة المطبعة الرقص بتعثر مبتدئة ولكن مع استمرار الحبس الاحتياطى وتنوع الشرائط، أصبحت البنت على حافة الاحتراف، وستذكر بالخير فى مذكراتها بعد رحلة طويلة من الفيديو كليبات – وهى تدخن سيجارتها وتتنهد أمام صحفى شاب – مدربيها العظام على الرقص.

كما أن هذه الفترة المجيدة فى حياتها ستحميها من تطاول الراقصات فهى راقصة بختم النسر، وإذا كان على الماجستير فإن أى باب لن يخذلها.

كل هذا المستقبل المشرق لم تكن تعرفه عاملة المطبعة، وهى تبكى فى محبسها الونس الذى كان يملؤها وهى تغنى وتفتقده الآن. أنا فقط أعرفه لأنى المؤلفة، وأطلعكم عليه حتى لا تندموا على قراءة هذه القصة.

وأخيرا جاء تقرير الطبيب الشرعى ليؤكد أن الرجل العجوز تجمدت ساعته البيولوجية عند الآهة الثانية لأم كلثوم وهى تطلب حريتها، وقبل الـ shut down بثلاثين ثانية رمى يمين الطلاق على زوجته التى أسكرتها الفرحة فقبلته قبلة سينمائية كانت تحرق روحها منذ شاهدت فيلم «صراع فى الوادى».

ومن ثم ترددت النيابة فى توجيه الاتهام، هل توجهه إلى أم كلثوم؟ أم إلى زوجته التى لم تبلغ سن الرشد منذ طلاقها؟.

ابتسمت الكاميرات والميكروفونات إلى عاملة المطبعة، لكن بقى شىء يعكر صفوها وهو الطريقة الجديدة التى يموت بها الرجال المسنون، فحادثة معلمها العجوز صارت بداية لمقبرة مفتوحة، ولم يعد الرجال المسنون يموتون على أسرتهم وحولهم أبناؤهم وأحفادهم، وابتسامة تكسو وجوههم المتغضنة، بل صارت وفاتهم انهيارات مفاجئة، وأصبحت رائحة النشادر تسيطر على جو المدينة، ولم يكن أحد يعرف السر، وحدها البنت ربما كانت تعرف.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون