خريطة العالم

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إيمان السباعي

عشرة كراس بلاستيكية، واثنتان وعشرون عيناً مفتوحة على اتساعها تصنع خطوطاً وهمية للسير بين الممرات سيراً يتحول إلى هرولة بطيئة، تتسارع ليحتل كل تلميد كرسياً بمجرد توقف الموسيقى، يتشبث بالكرسي وفي عينيه نظرة استرخاء لم أحبها.

كانت عيناي من بين اثنتي عشرة عينا تنتظر الموسيقى تنساب من مكان ما، أغمضهما وأسير بخفة في مساحات واسعة كي لا أصطدم بأحدهم أثناء هرولته، أدور حول الكراسي والأجساد اللاهثة بينما ترسم عيناي في فضاء حجرة الموسيقى كل ما أحب: وجه أمي متصنّعاً الغضب بينما الابتسامة الحلوة على شفتيها، خدش خفيف تتركه شفرة حلاقة على وجه أبي، أختي تقبض بكفها الصغير على سبابتي فتدغدغني، دراجة بشرائط ملونة أحاول أن أقودها فأسقط وترتطم ركبتي بالرصيف تاركةً جرحاً نازفاً على شكل نجمة، جيتار محبوس داخل دولاب زجاجي غير مسموح لي باستخدامه، سجادة الصالون الزرقاء وقدماي تغوصان في سحابة كثيفة ناعمة، فستان مكسو بورود صغيرة لم يعد على مقاسي.

رغم متعة الرسم في الفراغ والموسيقى الجميلة كنت أحب أشياءً أخرى أكثر من لعبة الكراسي الموسيقية، كان أكثر ما أحببت ورقة “شفاف” أثبتها بدبوس صغير على صفحات الخرائط في كتاب الجغرافيا، يمر سن القلم الرصاص رشيقاً على الخطوط التي تظهر بوضوح، لا أرفع سن القلم حتى انتهى من الخريطة.

مفتاح الخريطة: مربعات صغيرة بألوان مختلفة لكل لون دلالته، كثافة السكان بالنسمة أقل وأكثر، صحارى، مناطق رعي، مناطق زراعة، مناطق غير مأهولة، غابات، مراعي القبائل الرحالة، مراعٍ جبلية وحدائق، واحات.

كنت أمنح الألوان معانٍ خاصة بي: مكان يصلح لـ”فسحة ” جميلة، مكان سألتقي فيه ب “رضوى” صديقتي التي ذهبت إلى الجنة كما قالوا لي صغيرة، مكان أفضل ألا أذهب إليه مرة أخرى, مكان سأزوره عندما أكبر وأصبح امرأة جميلة ألتقي هناك بفارس أحلامي.

لم أكن وقتها قد عرفت أماكن العالم الأكثر برودة من القطب الشمالي: الزنازين، المكتبات، محطات الانتظار، المطارات، جسد يعشق من طرف واحد.

أما أكثر أماكن العالم جمالاً فقد عثرت على بعضها مصادفةً بفضل أصدقائي: مقهى صغير يقدم أشهى فنجان قهوة مع صوت فيروز، له باب سحري لا يعثر عليه القتلة وثقلاء الظل، رسالة تصل قبل أن أبدأ اكتئابي الليلي فيلمع زغب الروح بأشعة شمس برتقالية, دمعة كبيرة معلقة بعين رجل يربت كتف فتاة وحيدة ويسرح لها ضفيرتها الطويلة، وبحرٌ يسمح لصحراءٍ تعسة أن تستعير أمواجه ولآلئه كل ليلة فترتبك خريطة العالم وتضحك الصحراء، ويسأل الشيخ إمام: “البحر بيضحك ليه؟!”.

 

خاص الكتابة

 

 

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار