الفَرَح البَشَريّ

محمد الفخراني
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد الفخراني

الفَرَح البَشَري أجمل من طلوع الشمس ونزولها، وأجمل مِن كل ما تَطْلُع عليه وتنزل إليه، أو.. من الأفضل ألَّا أستعمل أفعل التفضيل، موجودات العالم وأفكاره ليست في مقارنة ولا تنافُسًا، هي تُكَمِّل وتُجَمِّل بعضها بعضًا.

الإنسان، هذا الكائن الذي تحبه الحياة.

وأقصد هنا بشكل خاص “الفَرَح الجماعي”، شيء يَضُمُّ مجموعة كبيرة من البشر، هذه اللحظة هي الأكثر إشراقًا وحماسًا، ببساطتها وعفويَّتِها، واندفاعها، بتلك الخِفَّة، والمزيج البشري الرائع.

الإنسان؟ يستحق الحصول على تلك اللحظة، هذا الكائن الذي تختبره الحياة كل يوم، ولا أحد يُصاحِبها أكثر مِمّا يفعل هو.

هذه الكائنات البشرية المُضيئة، كل هذا الضوء، والخِفَّة، هذا الحضور الشفيف، كأن لا شيء حدَثَ قبل هذا الفَرَح، ولا شيء سيحدث بعده، ولا يُهِمّ ما حَدَثَ أو سيحدث، الوقت كله هنا، وكل شيء هنا، داخل لحظةَ الفَرَح البشري.

الإنسان، الكائن الوحيد القادر على الموتِ فَرَحًا، ولديه استعداد أن يموت كي يحصل على لحظةِ فَرَحٍ حقيقي.

هذا الكائن، الإنسان، الذي تحبه الحياة، يموت بسبب آلاف الأشياء، بعضها كبير وبعضها صغير، يموت بسبب قشرة موز، ويموت بسبب قنبلة، إذن لماذا لا يموت من الفَرَح، هل هذا كثير عليه؟ عند لحظة ما سيُمسك إنسانٌ بروح الفَرَح، وينظر في عينيه تمامًا.

يموت من الفَرَح؟ أظن أن الكائنات تتساءل كيف يفعلها هذا الإنسان؟ ما هي الوصفة؟ كيف يمكنه أن يصل إلى هذه الدرجة؟

الإنسان الذي اخترع لنفسه آلاف المَيْتات، يخترع أيضًا “الموت من الفَرَح”، لم لا؟ ليُقدِّمها هدية لنفسه، هذا الكائن المُدْهِش العجيب، الذي يستحق عن جدارة: الفَرَح، والموت من الفَرَح، والحياة بالفَرَح.

الفرح الجماعي المُشترَك، نراه عند ظهور الماء من بئر يحفرها بَشَرٌ معًا، أو يَبْنون بيتًا جماعيًّا، نراه في حفلة مُفاجِئة داخل قطار فقير، في استقبال مَطَرٍ بعد جَدْب، مجموعة من التلاميذ في طريقهم إلى المدرسة، الصَّخَب الجميل للتلاميذ بين حصَّتَيْن دراسيتَيْن, نراه في غداء جماعي لأصدقاء، أو مجموعة من عابري سبيل أو مسافرين لا يعرفون بعضهم بعضًا يتشاركون طعامهم ومائهم وحكاياتهم، آلاف.. ملايين من لحظات الفَرَح البشري تَحْدُث يوميًّا بلا انقطاع.  

هذه اللحظة، التي نتجاوز فيها كل شيء، كل اختلافاتنا، ولا يكون فيها إلا الفَرَح البشري الصافي، هذا الذي يُمكن للعين أن تراه، وتنظر في عينيه، ويمكننا أن نَلْمسه بأيدينا، ويَلْمِسنا.

الفَرَح نفسه يشعر بالحماس لأن هناك مَنْ يعيشونه بهذا الحماس، يكون في أفضل حالاته مع الإنسان، يعرف الفَرَح أنه سيظلُّ تائهًا ناقصًا حتى يعثر على الإنسان.

أحب أن أرى هذه اللحظة، أراها أمام عينيَّ، ليس بالضرورة أن أشارك فيها فِعْليًّا، سأحب أن أكون موجودًا في بعضٍ منها، أحب أن أشارك البشر، لكنَّ تأمُّل هذه اللحظة من الخارج ومُراقَبَتُها هو شيء في غاية الروعة، يلمس الروح تمامًا، أعيشه في كل مرة وكأنه المرة الأولى، كأني أكتشفه من جديد، وبالفعل أرى في كل مرة شيئًا جديدًا، وأذهب في إحساسي به إلى نقطة أبْعد، ومساحة جديدة من النور والجمال والخِفَّة.

الفَرَح لائقٌ بالبشر، وهم لائقون به، ويستحقونه، ولا شيء يُبْهِج العالمَ أكثر من لحظات الفَرَح البشري، أفكر أن هناك دومًا لحظة مثل هذه تَحْدُث في العالم دون توقُّف، ولو لم تَحْدُث لحظة من هذا الفَرَح في مكانٍ ما بالعالم، فإنه سيتوقف، عندها بالضبط يتوقف قلب العالم عن النبض.

لو أن تلسكوبًا يكشف العالم، زوايا عالمنا، يمكننا عندها أن نرى لحظةً مثل هذه في كل لحظة من اليوم، على مدار 24 ساعة، فقط لحظة فَرَح بشري جماعي.

صُراخ الفَرَح الجماعي، بكاء الفَرَح الجماعي، ضحكات الفَرَح الجماعي، الأحضان الإنسانيَّة الجماعيَّة، كلها مَشاهِد تخطف الأنفاس، وتُعيِدها، مشاهد تُفْرِح الروح والعين والقلب، وتُنَوِّرهم، وكأن العالم كله لأجل هذه اللحظة وبداخلها.

فَرَحٌ مُفاجِئ لآلاف الأشخاص معًا، كم تساوي هذه اللحظة؟ لا شيء يعادلها، وقتها لن نتذكَّر أيَّ ألم، أو ضغينة، أو كُره، لا شيء غير حقيقة هذه اللحظة وصفائها، إنها واحدة من لحظات تألُّق البشر وألَقِهم.

يتجمَّع الكون كله في تلك الحالة البشريَّة الخالصة.

من بين كل الأشياء التي يَقْدِر عليها الإنسان، تَبْقى القُدْرَة على الفَرَح، لها مكانها وبَهْجَتها، هذا الإنسان المُدْهِش لا ينسى هذه الحاسَّة/ الغريزة مهما يَمُرُّ به من ألَم، ولديه القدرة على الفَرَح بأبسط الأشياء وأقَلّها، هو دائمًا يجد طريقه لفَرَحٍ ما، ولو فَقَدَ هذه القُدرة، ربما يفقد القدرة على كل شيء.

الإنسان، تحبه الحياة ويحبها.

وسط كل شيء سيَعثُر على فَرَحِه.

الفَرَح البشري بهذه الخِفَّة والرشاقة والشفافية، هو ليس في خِفَّة فراشة ولا شفافية الضوء ولا جمال الموسيقا، إنها خِفَّة وشفافية وجمال بَشَريّ فَرْحان.

سأُحب دومًا أن أتفرَّج على هذه الخِفَّة والشفافية، والجمال.

صُنَّاع الفَرَح البَشَري، بكلمة أو نظرة أو موقف، هناك أشخاص مُهِمَّتهم من ضِمْن مهامٍ أخرى لهم في العالم أن يصنعوا الفَرَح البشري، هل تبدو صناعة صعبة؟ سهلة؟ هل هي سهلة صعبة؟ هل هي صعبة سهلة؟ هل هي سهلة سهلة؟

الإنسان، هذا الكائن المُدْهش، يَفْرَح بإنقاذ طفل واحد من زلزال أو إعصار أو بركان، يفرح بهذا الإنقاذ أكثر من حزنه على آلافٍ ضاعوا ولم يستطع إنقاذهم، كأنما نُعَوِّض أنفسنا بهذا الإنقاذ الواحد، طفل واحد لا نعرفه سيُعَوِّضنا.

كأن إنقاذًا واحدًا يُنقِذ الجميع، يُنقذنا جميعًا، يمنح الأمل، ويجعل فكرة “الإنقاذ” حاضرة وممكنة.. ويُنقذ فكرةَ “الفَرَح”.

الفرح البشريّ الذي يستمرُّ ويَعْبُر فوق إعصار وبركان وزلزال، ويدفع الحياة إلى الأمام، الإنسان بنفسه هو مَنْ يأخذ بيدِ الحياة ويمشي بها إلى الأمام.

الإنسان الذي يواجه البراكين والزلازل والأعاصير، حتى أخطائه الشخصية، هو يواجه كل هذا وينسجم معه ويتسامح معه، ويَقْبَله في النهاية، الإنسان الذي يَقْبَل العالم كما هو، بما هو عليه، وينسجم معه.

 أو.. الحقيقة.. يبدو أن العالم هو مَنْ ينسجم مع الإنسان، يبدو أن الزلزال والبركان والإعصار وغيرها، كلها تضطرُّ في النهاية إلى أن تنسجم مع الإنسان، وتعرف أنه باقٍ هنا، ولن يخسر أبدًا فَرَحَه البشريّ.

لن نخسر فكرة “الإنقاذ”، سنتبادلها نحن البشر، طوال الوقت، فيما بيننا، لأجل بعضنا بعضًا.

“الإنقاذ”، واحدة من أعلى أفكار البشر: إنقاذ الجسد والروح والعقل والوعي.. إنقاذ “الفكرة”.

إنقاذ فكرة “الإنقاذ” نفسها.

الحياة تستمرّ؟ الإنسان هو مَنْ يستمرّ، فتستمرّ الحياة.

الإنسان، يستحقُّ الفَرَح، لأجل ما هو عليه، ولأنه ما هو عليه.

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار