حوار نهرين

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد المسعودي

في أقصى عرض البحر الأبيض المتوسط، التقى “واد اليهود” ب”الواد الجديد”. تعانق النهران عناقا حميما، وقال “الواد الجديد” لصديقه القديم:

         – ما الذي منعك عن الوصول إلى هنا طوال هذه المدة الزمنية؟ لقد اشتقت إليك وإلى حكاياتك الجميلة؟

         قال”واد اليهود”:

         – ما منعني من الوصول إلى البحر إلا ضحالة مائي وانسداد طريقي بالبناء العشوائي.. جوانبي وحوضي كلها غصت ببنايات لا حصر لها على مد البصر.. حتى أتى هذا السيل الأخير فحررني من قيودي.. وأنت كيف عشت هذه السنين الأخيرة؟  هل ما تزال تمثل وجه طنجة الزاهي كعهدي بك، حيث كنت مرتع الصبية ومدار تنافسهم في القفز إلى حضنك قصد إبراز تفوقهم وتفتح رجولتهم؟.. وهل ما زال العشاق يقصدون ضفافك الجميلة وخمائلك الكثيفة للخلوة وتطارح لواعج الهوى والغرام؟

أطرق “الواد الجديد” رأسه في حزن وقال:

– هيهات.. هيهات، مضى ذلك الزمن يا صاحبي.. أما تدري أنني أصبت بأمراض ما زلت لم أُشف منها حتى اللحظة.. أما تعلم أن جوفي امتلأ صديدا وحديدا وويلا وبيلا.. !؟ أصبحت مصبا لماء القاذورات ودماء الأضحيات.. نتنتُ وصرت كريها منبوذا.. فعلا ظل بعض الصبية يفدون للتنافس فيما بينهم بالارتماء في مائي من فوق القنطرة.. لكنهم فتية مساكين لا علم لهم بما قد أسببه لهم من أذى لو كانوا يعقلون.. أذكر منهم فتى ارتمى في صخب وعنف إلى أعماقي فانغرست على الفور في رأسه غلاية ماء(كافاتيرا) صدئة لم ينتزعها من رأسه فيما بعد سوى الطبيب.. بُنيت حولي وبجانبي الطرق والبنايات ودمرت الأشجار والنباتات فهجرني العشاق.. مضى زمني في هذه المدينة كما مضى زمنك وزمن أبنائها..

وَجَمَ “واد اليهود” وهو يستمع شكوى صديقه. تأمل حوله في ماء البحر، فرأى جثثا كثيرة راقدة في القعر، عالقة بين الصخور تنوشها الأسماك، أو فاغرة الأفواه مفقوءة العيون تغطيها الطحالب، وبعضها الآخر طفى إلى سطح الماء مبقور البطن منتفخا. قال متعجبا:

– هل صار البحر في مدينتنا مقبرة بعدما ضاقت الأرض على الناس، أم صار مكانا لإعدام المجرمين والخارجين على القانون؟ ما سر هذه الجثث بربك؟

قال “الواد الجديد” وابتسامة حزينة تعلو محياه:

– ألا تعلم حقا بأمر هؤلاء الغرقى؟

– كيف لي أن أعلم وقد كنت أسيرا طوال عشرين عاما ؟

– إن هؤلاء ضحايا (الحريك) أو ما يعرف بالهجرة السرية..

– الهجرة السرية؟! هل أصبح الإنسان يهاجر سرا في بلدنا؟! هل أصبح السفر ممنوعا في بلدنا وصارت الهجرة للعمل أو الدراسة أو غيرها من المحظورات؟!

– لا.. لا.. الأمر غير ذلك.. كيف أشرح لك.. القصة طويلة.. وحديثها ذو شجون.. 

– أرجوك بيّن لي ما الأمر.. لقد صار العالم غريبا.. وما يحدث فيه رهيبا.. خبّرني بربك ما وراء هذه الهجرة السرية؟ وما سبب كثرة الجثث التي صارت تملأ البحار والشطآن.. أهي حرب جديدة؟

– لا.. ليست حربا جديدة، خاصة في بلدنا هذا، وإن كانت الأرض تعج حروبا أكثر مما مضى في أصقاع قريبة أو بعيدة من هنا، ولكن ما يحصل هنا نمط آخر من الحرب، سببه القهر والظلم وغياب العدل وتفشي العطالة عن العمل، وانتشار الفساد والرشوة.. مما جعل الشباب والنساء، والرجال والأطفال، والشيوخ والأرامل، والمتزوجات والمطلقات، بل حتى بعض الموظفين والفلاحين وعمال المصانع لا يفكرون في شيء سوى الهروب إلى بلاد أوروبا، والهجرة إليها.. وصارت وسائل هذا الفرار تتم ليلا، في قوارب مطاطية، أو خشبية مزودة بموتورات تعمل بالبنزين.. يتكدس فيها الناس بالعشرات.. ينجح بعضهم في الوصول، ويصيب آخرين سوء الحظ فيكون البحر مقبرتهم.. وقد يخرج بعضهم إلى الرمال فتنقذهم دوريات الشرطة، ببلدنا أو ببلدان أوروبا التي “يحركون” إليها.. هذا هو سر ما تراه يا صاحبي..

أطرق “واد اليهود” واجما يتفكر، وقال يخاطب “الواد الجديد”:

-والله إن أمر الدنيا عجيب.. من كان يظن أن ماءنا سيصير حامل جثت، وأن ضفافنا ستصبح عاطلة من النبات والأزهار البرية.. ومن أزواج العشاق.. وأن تطمس بهاءنا هذه البنايات المتطاولة الكالحة التي لا يشتريها سوى من اغتنى بطرق مشبوهة لتصير أوكارا للدعارة والفساد.. لا شك أن نهاية العالم قرُبت.. ما هذه الأهوال التي نسمع بها إلا دلالة على القيامة..!

        ضحك “الواد الجديد” ضحكة رائقة، وقال مخاطبا زميله:

        -لا عليك.. القيامة ستقوم في الحين الذي حدده خالق الكون، سواء كثرت هذه الظواهر أو قلت.. ولكن هذا الوضع الذي نكتوي به ليس قاصرا على بلدنا، بل إن بلادا أخرى تعرف ما هو أشد هولا منه، لما أشرت إليه من أسباب.. زيادة على عودة الاستعمار متسللا، هذه المرة، من النوافذ، بعدما أوهم بلادنا أنه خرج صاغرا من الأبواب..

        -عجبا.. أعادت البلاد لتخضع للاستعمار ثانية؟!

        -نعم.. واستعمار هذا الزمان أكثر قوة وبطشا من استعمار القرنين السابقين.. إنه استعمار يتخفى، أيضا، في أستار ظلام شتى.. ويكتم أنفاس البلاد والعباد.. ينشر الحروب.. وينشر الأمراض والأوبئة.. ويمتص المال وقوة الناس بدون أن يقدم أي خدمة.. ما يعنيه سوى أن يجني الأرباح والأموال، ويضرب بكل شيء، بعد المال، عرض الحائط..

        -أوصل الأمر إلى هذا الحد؟

        -وأكثر..

        -وإلى أكثر من هذا؟

        -نعم..

        -كيف ذلك؟ نورني.. لقد غبت عن واقعي كثيرا.. أنت كنت أقرب مني إلى ما يجري في الحياة.. وكنت أقرب إلى المضيق مني الذي كنت مغيبا في الداخل..

        -في الماضي حينما اجتاح الاستعمار البلاد كان مواطنوها وحكامها على دراية أنهم أمام محتل، أو حام (كما كان يدعي المستعمِر)، جاء بجيوشه ليحتل البلاد، أو ليحميها كما يزعم، وينشر حضارته الموهومة، فتشكلت خلايا للمقاومة، وكان بعض الملوك والرؤساء على وعي بما يجري، فتكاتفت الجهود، وعمل الجميع على مواجهة العدو ومحاربته، ومن ثم إرغامه على الخروج.. لكن خروجه كان فيه إن.. لأنه وضع عملاءه ورجاله في أبرز الأماكن، وكانت الدول المستقلة حديثا غير قادرة على الاستغناء عن هؤلاء.. وسارت الأمور على ذلك المنوال..

        -وماذا حصل بعد ذلك حتى يعود الاستعمار مرة أخرى؟

        -هؤلاء العملاء بعدما سيطروا على كل شيء في البر والبحر، والسهل والجبل، والأرض والسماء.. باعوا كل ما سطوا عليه إلى شركات استعمارية جديدة عابرة للقارات.. وهي التي تتحكم الآن في البلاد والعباد.. ولا تملك أي دولة في العالم الآن من أمرها شيئا.. الكل خاضع للاستعمار، بما في ذلك “الدول العظمى” أو من تتوهم أنها كذلك..

        -هذا نمط جديد من الاستعمار إذا.. وهل تخضع له كل بلاد الدنيا، فعلا؟

        -نعم.. ودون أن يخامرك أدنى شك..

        -إذن كل هذه المصائب التي يعاني منها الناس وراءها هذا الويل الجديد..

        -بالتأكيد..

        -إن الأمر محزن يا صديقي.. ربما تحرُّرُ مجراي بسبب السيول الأخيرة كان شؤما علي.. كنت أفضِّل أن أظل في عماي على أن أقف عند هذه الحقائق المهولة.. يا لبؤس الإنسانية.. يا أسفي على العباد.. أإلى هذا الحد تدهورت الدنيا.. وداعا صديقي.. إني أفضل أن أعود إلى مستقري الأول، وأن أقف عند حدود عزيب “الحاج قدور” لا أتجاوزه.. لقد أصاب نفسي اكتئاب، وغشيتني حالة حزن لا يريد أن ينزاح عني.. أتركك لبحرك.. وداعا..

        كان “واد اليهود” يعود القهقرى موليا نحو منطلقه، وكان “الواد الجديد” يتبعه بنظراته الآسية الحزينة، وهو يندفع في مصبه بعيدا في أعماق البوغاز.  

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون