أجراه: أحمد عبد الرحيم فى 10-1998
_يوم أن صاح بى العميد: أنت كذّاب ومخادع!
_طه حسين تنازل عن أجره لى!
_عندما عرضت الدور على أحمد زكى “طلع يجرى”!
_كنا نخلع الأحذية قبل دخول “ديكور” الجامع الأزهر!
_شعرتُ أنى أعد رسالة دكتوراه سيمتحننى فيها العميد شخصيًا!
_العميد كان صلبًا وعنيدًا، لكن ليس عدوانيًا أو شرسًا.
فى أول سبتمبر 1998، كنت طالبًا بكلية الآداب، جامعة القاهرة، والمسئول عن القسم الفنى فى جريدتها. ولاستعدادنا للاحتفال بذكرى ميلاد عميد الأدب العربى د. طه حسين فى 15 نوفمبر، طُلِب منّى لقاء أى ممن شاركوا فى صنع مسلسل “الأيام” المأخوذ عن سيرته الذاتية، فتشوّقت إلى لقاء مخرجه الأستاذ يحيى العلمى، وسعيت جاهدًا للاتصال به، عبر هواتف مكتبه فى مبنى الإذاعة والتلفزيون، حيث كان يشغل وقتها منصب رئيس قطاع الإنتاج. وبعد شهر ونصف من مكالمات، ووعود من سكرتيره – الذى ظن أن جريدة الكلية “حائطية”، وصحّحت له أنها تُطبع فى مؤسسة الأهرام من 3000 نسخة! – تم المراد، ونلت موعدًا فى مساء 15 أكتوبر. وبدلًا من ربع الساعة التى أبلغنى السكرتير ألا أزيد عليها، منحنى الأستاذ العلمى ساعتين؛ انطلق فيهما ساردًا ذكرياته مع “الأيام” بالتفصيل، لأشهد مدى ثقافته، وعشقه لعمله، وتواضعه. نُشر الحوار لاحقًا فى جريدة الكلية مختصرًا، لكن هذه أول مرة يُنشر كاملًا.
…….
كان كتاب “الأيام” للدكتور طه حسين (3 أجزاء صدرت بين 1929 و1967) تجربة رائدة فى أدب السيرة الذاتية العربى، كذا تميّز مسلسل “الأيام” (1979) فى مجال الدراما التلفزيونية، حاصدًا نجاحًا جماهيريًا ونقديًا. ومن ثم، حملتُ تساؤلاتى للمخرج الكبير يحيى العلمى، الذى رسم لنا شخصية العميد وأيامه..
_قرأتُ فى كتابك “أيام تلفزيونية” (الصادر سنة 1995) أنك قابلت د. طه حسين لأكثر من مرّة، وفى كل مرّة قصة، فما هى قصة اللقاء الأول؟
أول مقابلة كانت سنة 1963، وكنت فى عشرينيات عمرى، مُعيَّنًا فى التلفزيون فيما عُرِف بالقناة الثالثة، وهى قناة ثقافية، وكنت مهتمًا بالأدب والفن رغم تخرجى فى كلية الحقوق، وهو ما قادنى إلى إخراج برنامج بعنوان “قصة المسرح”، كان يُعدِّه الفطاحل: د. محمد مندور، والأستاذ لويس عوض، ود. مجدى وهبة. وفى حلقة، اخترنا مسرحية لسوفوكليس ترجمها د. طه حسين ليتم عرضها، وقمت بمحادثته فى الأمر؛ حيث دُهش أن شابًا صغيرًا مثلى يهتم بالمسرح اليونانى القديم، وكانت محادثة ظريفة، أتذكر فيها أنه تنازل عن أى أجر يُقدَّر له إلىّ أنا، واعتبرها هدية لى كى أستمر فى هذا الخط.
_وما هى يا ترى تفاصيل اللقاء الثانى، الذى وصفك فيه بـ”كذّاب ومخادع”؟!
قبل اللقاء الثانى، كان للعميد لقاء تلفزيونى شهير جمعه وعدد من مبدعى عصره فى برنامج “نجمك المفضل” سنة 1960، ووقتها قال جملته: “لقد عبثتم بالبيت!”، فقد سبّبت أجهزة التصوير مشاكل حين تسجيل اللقاء فى بيته. بعدها سنة 1970، هاتفته طالبًا منه الظهور فى برنامجى “كاتب وقصة”، فطلب عددًا صغيرًا من العمّال، وكمية إضاءة قليلة؛ لأنها تسبِّب له حساسية فى الوجه. ورغم التزامى بما طلب فى يوم التصوير، فإن أحد الحاضرين فى بيته انبهر بحجم المعدات، ونقل إليه أن الإضاءة ستكون قوية، فنهرنى بصوت عالٍ: “أنت كذبت علىّ، وخدعتنى!”، فغضبت، ولم أخف غضبى، وكان موقفًا صعبًا على شاب صغير مثلى أن يواجه عميد الأدب العربى لحظة سخطه. لكنى تمسّكت بموقفى، وأخبرته أن هذه ضروريات فنيّة حتى تظهر صورته على الشاشة، فأصرّ أنى غششته، لهذا استأذنته أن أنسحب، ولا أصوِّر، لكن بعد تجربة الإضاءة على وجهه، جذبنى من يدى، وأجلسنى بجواره، وأتذكر قوله: “أنا لست فى عمر أبيك، أنا فى عمر جدك، لكن هذا لا يمنع إذا كنت أخطأت، فأنا..”، وحين شعرت أنه سيعتذر قلت له: “طه حسين لا يعتذر”. عمومًا، طيّب خاطرى، لدرجة أن الدموع طفرت من عينى، وانحنيت على رأسه، وقبّلت جبينه، مؤكِّدًا له: “طه حسين الذى علّم كل هذه الأجيال من حقه أن يغضب منا، ويشخط فينا”.
_ما الذى تعلّمته من دروس يومها؟
الجرأة على إبداء الرأى؛ فعندما “شخط فيّا” لم أهتز، وتمسّكت بموقفى، وأعطانى هو درسًا؛ فالإنسان مهما عَظُم شأنه لابد أن يتواضع، كذا سماحة المفكر؛ فقد وعدنا يومها بربع ساعة فقط، لكنه أعطانا ساعة ونصف، وقال طالما تكلّمت وارتحت، فلن أبخل بما عندى، وكان دومًا شعاره: “كل عطائى للأجيال القادمة”. إلى جانب ذلك، تعلّمت من كتاباته الصراحة والصدق فى العمل الفنى، وهذا ما تراه واضحًا فى كتاب “الأيام”؛ حيث تكلّم عن أسرته وحياته، بلا حساسيات أو خوف.
_من رشّحك فى نهاية السبعينيات لإخراج “الأيام”؟
أدين بهذا الفضل للسيدة تماضر توفيق، وهى أستاذتى فى بداية عملى بالقناة الثقافية. وفى تلك الفترة، كانت هى رئيسة التلفزيون، وكنت أنا متجهًا للسينما أكثر من التلفزيون. وحينما كلّفتنى باخراج “الأيام” ذُهلتُ.. فهذا الكتاب درسته فى المدرسة، وغاب عن ذهنى.
_على أى أساس جاء اختيار الأساتذة أمينة الصاوى، وأنور أحمد، ود. يوسف جوهر لكتابة المسلسل؟
لم يكن لى أى فضل فى اختيار المرحومة أمينة الصاوى، أو الأستاذ أنور أحمد، فقد تقدما بالمشروع للتلفزيون، وتعثّر لفترة، إلى أن جاءت السيدة تماضر توفيق، وكانت مُتبنّية فكرة تقديم رواد الفكر والعلم والثقافة المصريين عبر التلفزيون. لكنى وجدت معالجتهما لكتاب “الأيام” تسجيلية أكثر من كونها درامية، وأنا لم أرد عرض أحداث تاريخية أو مواقف اجتماعية، وإنما البحث عما وراءها فى عمق النفس البشرية، للعثور على الذهب الأصيل؛ وأقصد لحظات الصدق الإنسانى فى حياة طه حسين. لذلك طلبت مشاركة د. يوسف جوهر فى كتابة السيناريو من جديد؛ باعتباره من حوّل معظم روايات العميد إلى أعمال درامية، مثل فيلم “دعاء الكروان”، وفيلم “الحب الضائع”.
د. الزيات وأمينة طه حسين
_ما هى أهم الصعوبات التى واجهتك فى اخراج المسلسل؟
بعد إعادة كتابة السيناريو، خفت أن الأمور التى نتعرض إليها – كالأبحاث الأدبية ورسائل الدكتوراه – لن تصل إلى المشاهد العادى، وأحسست أنه لن يهتم بالمسلسل سوى المتخصصين والمثقفين، مع علمى بإن طه حسين كان شديد الاهتمام بالجماهير الفقيرة؛ فهو صاحب دعوة العلم كالماء والهواء. وأذكر حينما ذهبت إلى زيارة كريمته، السيدة أمينة طه حسين، وزوجها وزير الخارجية الراحل د. محمد حسن الزيات، للسؤال عن معلومات بخصوص والدها، قدمتْ لنا الشاى بنت شغّالة، فقالت لى كريمته بعدها: “أنا عايزة البنت دى، إللى ما تعرفش تقرأ أو تكتب، تعرف مين هو بابا الدكتور طه حسين”، فتحمّلت مسئولية الوصول بقصة هذا الرجل للناس بكل فئاتها.
_وكيف تصرفت؟
كان لابد من تحويل المسلسل إلى عمل ملحمى يعتمد على الجو الشعبى، والأغنية القصيرة جدًا؛ لقد قدمت – لأول مرة فى الدراما – الأغنية التى لا تزيد على دقيقة..
_ولجأت إلى الشاعر سيد حجاب، والموسيقار عمار الشريعى.. لماذا هما بالذات؟
بعدما أعدت قراءة الكتاب، اختلف احساسى حينما قرأته تلميذًا، وأدركت مدى شاعرية هذا الرجل، وحسّه المرهف فى وصف أسراره وأدق خلجاته. وأخذتُ أدعو الله أن أصل بالتمثيل الدرامى إلى جزء من عظمته وشعبيته وأدبه الرقيق. لهذا اتفقت مع سيد حجاب على شىء توقعت بعدها أن يصبح محل الدراسات النقدية؛ وهو التركيز فى الأغانى على الكلمات ذات المدلول الصوتى، لا المرئى، وتجنُب اختيار أى لفظ له مرادف بصرى، لأننا نتعامل مع شخصية فقدت بصرها، وصارت تعتمد على السمع والشعور، وكانت مهمة شاقة جدًا أن تتعامل مع الذاكرة الصوتية لإنسان، لكن نجح فيها سيد حجاب. أما عمار الشريعى فكان يشارك طه حسين الأحاسيس نفسها، والتى عبّر عنها موسيقيًا على أروع ما يكون، بحيث صارت علامة فى تاريخه الفنى.
_وعلى الحجار؟
صوت على الحجار يحمل أبعادًا درامية، وكان يحلّ فى الأحداث محل طه حسين فى بعض المواقف؛ فعند احتضان ابنته لأول مرة، ومغادرة قريته، ودخوله الأزهر، وموت أخيه، أو توجيه إهانة له.. فى كل هذه المواقف وغيرها ينطق صوت على الحجار بإحساس الشخصية، ويعبّر دراميًا عما يموج داخلها.
_السؤال المؤكد: لماذا أحمد زكى؟
قبل المسلسل بعام تقريبًا، ظهر فيلم “قاهر الظلام” عن كتاب لكمال الملاخ، وقام ببطولته محمود ياسين، فأردنا ألا نكرّر الشخصية بالنجم نفسه، خاصة أنه جسّدها فى مرحلة متقدمة سنيًا عن المرحلة التى اخترناها؛ والتى شملت طفولة طه حسين فى قريته بالمنيا، ثم دراسته فى الأزهر، ثم بعثته إلى باريس. وفى يوم، صادفت صورة قديمة للعميد مرتديًا الزى الأزهرى، ورأيت أنه لصيق الشبه بأحمد زكى؛ والذى كان وقتها فى بداية لمعانه، وامتاز بحس درامى قوى جدًا، وقدرة على التعبير عن داخليات الشخصية إلى جانب المظهر الخارجى. ويوم عرضت عليه الدور، ظن أنى “بأهزر”، وقال: “أنا فين، وطه حسين فين!”، لكنى حينما صارحته بأن الموضوع “بجد”، وأنى اخترته لأداء الشخصية فى مسلسل، ذُهِل لدرجة إنه ترك المكتب و”طلع يجرى”، فجريت وراءه إلى السلّم، وأوقفته لأسلّمه السيناريو، لكنه “طلع يجرى تانى!”. لكنى أصررت عليه، ورغم اعتراض زوج ابنة العميد عليه، باعتباره شابًا صغيرًا، فإنى تحمّلت المسئولية كاملة.
_كيف تعامل الممثل الصاعد – وقتها – أحمد زكى مع عميد الأدب العربى؟
كان متوترًا وقلقًا جدًا، ونصحته بعدم حضور البروفات التى ضمّت قممًا كالمرحوم محمود المليجى، ويحيى شاهين، وأمينة رزق، وأحضرت له أستاذ لغة عربية كى يعلّمه مخارج الألفاظ، ويعرب له الحوار، فقد كان العميد حريصًا كل الحرص على اللغة العربية. واتفقت مع هذا الأستاذ أن يقف معنا خلف الكاميرا خلال التصوير، وإذا ما وجد أى خطأ فى النطق، ولو صغيرًا، يوقف التصوير فورًا وينبّهنى. والحق أن أحمد تعب للغاية، لكنها كانت الفرصة التى أهّلته إلى النجومية، وأظن أن مسلسل “الأيام” أعاد صياغته.
_ذكرت فى أحد الحوارات الصحفية أن أحمد زكى ممثل متمرد، ثائر، طموح، وقلت مرة إنه يذكّرك بمحمود مرسى، ومحمود المليجى، ويحيى شاهين معًا. إلى أى حد انطبق هذا على أدائه فى “الأيام”؟
لقد وفّقنى الله فى هذا العمل. الممثل شريف صلاح الدين الذى اخترته لأداء دور طه حسين فى طفولته، وكان فى التاسعة من عمره، حدثت بينه وبين أحمد زكى منافسة رائعة؛ فكان شريف يخاف من قوة أداء أحمد، وأحمد يخاف من قوة أداء شريف. وكنت أحيانًا أصوِّر مشاهد شريف، ثم مشاهد أحمد، وأدعوهما إلى مشاهدة بعضهما، وهو ما قاد إلى استمرارية فى الأداء. أحمد زكى به عيب جميل جدًا، وهو إنه قلق وموسوس بشكل مرضى، وأنا أرى أنه أدى الشخصية ببراعة غير طبيعية لأنه عايشها تمامًا، وكان حسّاسًا فى تقمصها، وأنا أعتقد أن دقة طه حسين فى وصف مشاعره نقلت عدوى الصدق الفنى إليه.
_سمعت أن الفنان محمود المليجى رفض العمل فى المسلسل عقب رؤيته لأحمد زكى.. فما حقيقة هذه الواقعة؟
بالعكس، فى إحدى البروفات الأولى، كان أحمد مرتبكًا ومتوترًا لجلوسه مع كبار ممثلى عصره، وحينما لاحظت هذا، طلبت منه “بينى وبينه” أن يعود إلى منزله، وسأرسل إليه أستاذ اللغة العربية، فغادر المكان مكتئبًا. وبمجرد نهاية البروفة، فوجئت بالفنان محمود المليجى يعتذر عن بطولة المسلسل، وحينما سألته عن السبب، رد غاضبًا: “حرام عليك تكسر نِفس الولد ده وهو فى مقتبل عمره. كنت تدى له فرصته، وإحنا نقف جنبه، لأننا لازم نطلّع شباب جديد!”، طبعًا هو تصوّر أنى أبعدت أحمد عن العمل، لهذا تركته يتكلّم، وعندما انتهى، كتبت له عنوان أحمد، وطلبت منه أن يتجه بسيارته إلى هناك، حيث سيجده مع مدرس لغة عربية يقوم بتعليمه النطق الصحيح استعدادًا للدور، فسَعد جدًا!
_وما قصة خوف أحمد زكى من تصوير مشاهده أمام المليجى؟
الأستاذ المليجى كانت له رهبة، حيث امتلك حضورًا طاغيًا، وعيونًا قوية جدًا، وكان الممثل الذى يقف أمامه لابد أن يرتج. وفى أول المشاهد بينه وبين أحمد زكى، كان أحمد يخشاه. وأذكر فى مرّة أن المليجى أوقف التصوير، وطلب منى نصف ساعة راحة، فنزلت من “الكنترول روم” وفوجئت أنه يستضيف أحمد زكى فى حجرته، و”عازمه على ساندويتشات فول وطعمية”، حيث كلاهما يأكل ويتبادل النكت مع الآخر. فسألته: “إيه الموضوع؟”، فأجابنى: “ولا حاجة، بأشوف إيه حكاية الواد ده إللى بيخاف منى!”. وفعلًا صارا أصحاب، واحتضن المليجى ويحيى شاهين أحمد زكى للغاية، ودفعاه دفعة كبيرة، ولا أدل من ذلك على تلك الروح الجميلة عند هؤلاء العظام.
_هل شعرت خلال إخراجك للمسلسل أن روح العميد تراقبك وأنت تعرض أيامه على ملايين المشاهدين داخل مصر وخارجها، وأنه يقف وراء الكاميرا كى يؤنِّب أو يؤيد؟
بالتأكيد. لقد قرأت له، وقابلته وابنته وزوج ابنته، وأخاه وابن أخيه، وعرفت عنه الكثير للدرجة التى جعلتنى أعتقد أنى أعدّ رسالة دكتوراه سيمتحننى فيها شخصيًا! لقد كانت مسئولية كبيرة أن تقدِّم ليس فقط أحد أعلام مصر، وأقطاب الفكر، وإنما صورة مصر الحديثة فى بداية القرن العشرين أيضًا، لكن ساعدنى فيها طه حسين ذاته بكم المشاعر والدراما والشجن التى وضعها فى “الأيام”. لقد عايشنا أدق تفاصيل حياته، وشعرنا أن ديكور منزله هو بيته الحقيقى، نشم رائحته فيه، ويكفى إخبارك أننا حينما ذهبنا لنصوّر فى ديكور الجامع الأزهر، خلعنا الأحذية متخيلين أننا فيه بالفعل.
_ما هى سلبيات طه حسين فى وجهة نظرك؟
أنا متأثر بإيجابياته إلى أقصى حد، لأنه بالنسبة لى، ولجيلى، مَثَل أعلى وقدوة رومانسية. وهو كان شخصية رقيقة، لكنه عنيف فى الحق. حكى لى الدكتور الزيات أنه حين إشراف طه حسين على رسالة الدكتوراه الخاصة به، أجبره عند الاستعانة بمقطع ما من كتاب؛ أن يقرأ جميع مؤلفات صاحبه أولًا! لذا أظن أنه كان شديد العناد، حتى على نفسه، وفى سبيل تمسُّكه بمبدئه لا يهمّه أن يعانى التشرد أو الفقر. لا أعلم – فى عُرف عصرنا الحديث – هل يعتبر هذا صحيحًا أم لا، لكنه فى رأيى صحيح جدًا، وأتمنى عودة هذه الأخلاقيات.
_كيف كان استقبال الجمهور للمسلسل؟
فوجئت باستقبال غير عادى، وسأذكر لك حوادث صغيرة لكنها أغرب ما تكون. مثلًا، ظهر المسلسل عقب وفاة طه حسين بحوالى 6 سنوات، وفى نهاية إحدى الحلقات، تسقط قنبلة على مسكنه فى باريس أثناء الحرب العالمية الأولى، فوجدت الناس قلقة إلى حد الاتصال بى وسؤالى: “هوّا ح يموت؟!”، تعلّقهم بالعمل بثّ فيهم القلق، رغم معرفتهم أنه مات!
فى مرة أخرى، أيام عرض المسلسل لأول مرة، خرجتُ وأحمد زكى فى ساعة متأخرة من الليل، فوجدنا صاحب مقهى يغلق مقهاه، لكنه ما إن لمحنا حتى صمّم على فتح المقهى، داعيًا إيانا: “أنتوا لازم تشربوا حاجة، دا كفاية إنكم بتقدمولنا الأستاذ طه حسين!” قال “الأستاذ طه حسين” كأنه يتحدث عن أحد أقاربه أو معارفه!
وفى يوم ما، ركبت سيارة أجرة، وما إن عرف السائق أنى مخرج “الأيام” حتى أوقف سيارته، وشكرنى لأنى أنقذته من مشكلة. فأولاده يطالبونه بدروس خصوصية، لكنه نصحهم بأن يفعلوا مثل طه حسين، الذى تحدى عجزه وفقره، واستطاع النجاح، بل تحقيق أعلى المراتب، دون الحاجة إلى دروس خصوصية!
وعقب عرض الحلقة التى يعترف فيها طه حسين بحبه لصديقته الفرنسية – زوجته لاحقًا – قائلًا: “أنا أحبكِ يا سوزان”، دقّ باب بيتى، فوجدت طفلة ريفية تعمل فى بيت أحد جيرانى، جاءت لاقتراض سكر أو ملح، وقبل أن تطلب ما أرادت، فوجئت بها تقول لى: “أنا أحبكِ يا سوزان!”، انتقال صدق الجملة من طه حسين إليها، لتصير على لسانها بلغته العربية الفصحى—شىء أبهرنى. وقتها قلت للسيدة أمينة طه حسين أن الأمانة التى حمَّلْتِنِى إياها قد وصلت، ونجحت مهمتى فى نقل عميد الأدب إلى رجل الشارع.
_أجمل كلمة نقد سمعتها عن المسلسل؟
لوحة كاريكاتورية للأستاذ الكبير صلاح جاهين فى جريدة الأهرام؛ حيث رسم 3 أهرامات، وكتب على الأول طه حسين، وعلى الأوسط يحيى العلمى، وعلى الأصغر أحمد زكى، وكتب فى الأسفل “مسلسل الأيام”. وقتها بكيت تأثرًا، ولم أستطع محادثته، وكل ما فعلته أنى بعثت إليه باقة زهور، وكتبت عليها “شكرًا”، وردّ علىّ إنه لا يعبِّر عن رأيه فقط، وإنما ينقل رأيًا عامًا. هذه اللوحة لازلت أحتفظ بها، واضعًا إياها بجوار الجوائز التى نلتها عن المسلسل؛ وأهمها وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى سنة 1980، وجائزة الدولة التشجيعية سنة 1983، وهى نِعَم من الله لم أتوقعها أبدًا.
_هاجمتْ الناقدة حسن شاه المسلسل، وبخاصة أحمد زكى، الذى وصفت أداءه بأنه لشخص “مهزوز الشخصية، وليس طه حسين الشخصية الاقتحامية، العدوانية، الحادة.. كما عرفه معاصروه”. كيف كان رد فعلك؟
الأستاذة حسن شاه من أساتذتنا طبعًا، وهى كاتبة كبيرة جدًا. لكنها تكلّمت عن جانب فى طه حسين تصوّرت غالبية الناس أنه يحمله. أنا بعدما قابلته، وقرأت له، وغصت فيه، اكتشفت أنه كان شديد الشفافية والرقة، بل كان شاعرًا، وكتبه مثل “دعاء الكروان” و”المعذبون فى الأرض” خير دليل على ذلك. صحيح كان صلبًا صعب المراس، لكنه لم يكن حادًا أو شرسًا. فمثلًا حينما نَسِيَهُ أهله فى القطار، وقاسى من معاملة البعض، بدأ رد فعله بالعناد، لكنه بعدها ردعهم بالقرآن فى احترام. لقد كان يبكى بسبب مشاعر الغربة والوحدة، وهذا يحمل حسًا إنسانيًا مرهفًا ينفى عنه صفة العدوانية.
_قبل “الأيام”، قدمت حوالى 100 عمل نال معظمها جوائز فى التمثيل أو الموسيقى أو الديكور، لكنك لم تنل جائزة الإخراج إلا عن هذا المسلسل.. فلماذا؟!
“مش عارف”، فى “الأيام” لم أكن واعيًا للحرفة، وإنما استسلمت لموجة شجن جعلتنى أعايش العميد يوميًا. فمثلًا، قبل التصوير سجّلنا الأغانى والموسيقى، وكنت أستمع إليهم فى بيتى وسيارتى، بل لشرائط بصوت طه حسين نفسه، وكنت أُسمِعها لأحمد زكى أيضًا؛ حيث كان للعميد طريقة فى نطق الحروف توقع سامعها فى عشقها. وفى كل يوم تصوير، تعوّدت سؤال أحمد عبر ميكروفون الاستديو: “إذا كانت أم كلثوم كوكب الشرق فى الغناء، فمن كوكب الشرق فى اللغة؟” فيجيب: “طه حسين!”. فأصحِّح له: “طه حُسِين.. بضم الحاء وكسر السين” ونبدأ الشغل. لقد استمتعنا بالمعايشة، وهو ما ولّد الصدق، وزرع الألفة.
_متى شعرت أنك أخطأت فى “الأيام”؟
لا أعلم إن كان خطأ أم لا، لكن فى نهاية السبعينيات كانت تقنيات التلفزيون لم تصل إلى ما هى عليه الآن من تطور يمكّننا من التصوير الخارجى بغزارة وسهولة، لهذا اضطررت للابتعاد عنه، وهو ما دفعنا إلى إقامة بيت طه حسين الريفى، وتصوير أحداث مثل خسوف القمر، وموكب الشارع، بل الصور الفانتازية فى أحلام نومه، فى استديو 1 الذى رأيت وقتها إنه واسع جدًا، والعجيب أنى أشرف على هذا الاستديو الآن، وأراه ضيقًا جدًا، لكن يبدو أن روح الرجل سكنتنا، وهيأ لنا جهدنا أننا فى أتيليه فنان ينحت أدق التفاصيل. أتذكر أننا صنعنا ترعة داخل الاستديو بشكل يدوى، وكانت السيدة أمينة رزق تذبح البط فى البيت الريفى، كأننا أقمنا متحفًا للطبيعة الخاصة بطه حسين.
_أخرجت “الأيام” و”أديب” لطه حسين، وما بينهما “العملاق” عن حياة عباس محمود العقاد، فهل كان الأمر محاولة لصنع توازن يرضى تلاميذ المدرستين؟
لا. “العملاق” جاء نتيجة معايشتى لـ”الأيام” وعصرها الذى زخر بأقطاب فكر عظام، لهذا تحمسنا لتقديم أعمال درامية عنهم، وكان فى مخططنا الكثيرون غير العقاد، لكننا لم نتمكن. مثلًا، تولى الكاتب صلاح حافظ مهمة تحويل كتاب “سعد فى حياته الخاصة” للأستاذ كريم ثابت إلى مسلسل عن الزعيم سعد زغلول، لكنه توفى رحمه الله، ولم يكتمل المشروع، وأنا عملت فى إعداد مسلسل عن عالم الفيزياء د. مصطفى مشرفة مع المؤلف عبد الرحمن فهمى، لكنه لم يكمله. على أى حال، كان عباس العقاد قرين عصر طه حسين، وكانت علاقتهما تنافسية لكن شديدة الغرابة، فقد قصّ لى عامر العقاد، ابن شقيق العقاد وكاتب المادة العلمية لمسلسل “العملاق”، كيف عندما مَرض طه حسين، خاف العقاد من وفاته، وبكى سائلًا: “مَن لى بعده أحاوره واختلف معه؟!”. وعندما مات العقاد، رثاه طه حسين بمقولته: “لقد ملأت الدنيا، وشغلت الناس”. لقد كان عصرًا جميلًا جدًا يختلف فيه العمالقة، ويبقون أصدقاء.
_قرأنا فى جريدة الحياة سنة 1988، ثم فى جريدة الأخبار سنة 1989، عن الإعداد لسيناريو الجزء الثانى من “الأيام”، وكان بعنوان “ما بعد الأيام”، حيث انتهى المسلسل الأول بطه حسين وقد صار مدرسًا بالجامعة، بينما سيتتبّع الثانى سيرته حتى صار وزيرًا للتعليم، وقرأنا عن استعداد العلمى وأحمد زكى لإنجاز هذا العمل، لكنه لم يظهر.. فلماذا؟
طه حسين نفسه لم يُكمل الأيام، وهو ما دفعنى عقب النجاح الضخم للمسلسل أن أُلِّح على الدكتور الزيات، بصفته زوج ابنته وأقرب تلاميذه، أن يُكمل سيرة العميد، حتى استجاب بعد سنوات، وأصدر كتابه “ما بعد الأيام”، والذى تشرّفت بأن يأتى ذكرى فى بدايته كواحد من أهم أسباب خروجه للنور، لإلحاحى الشديد. لكن الكتاب لم يتحوّل إلى مسلسل لأسباب عديدة؛ منها أنى وجدت شخصًا يُكمل تسجيل حياة شخص آخر، وتباينت الرؤية من رجل يرى نفسه من الداخل، إلى رجل يراه من الخارج. كذلك جاءت وفاة الدكتور الزيات سنة 1993 لتعرقل المشروع.
مقطع من كتاب “ما بعد الأيام” للزيات
_لكن الفكرة قائمة؟
سأُكمل “الأيام”، وسيخرج الجزء الثانى إن شاء الله، وهذا وعد منى.
***************************
..لكن للأسف، لم يهب القدر الأستاذ العلمى الفرصة، حيث توفى فى يناير 2002، وتحوّل “ما بعد الأيام” إلى مسلسل إذاعى من بطولة الفنان محمود ياسين، واخراج الأستاذ إسماعيل عبد الفتاح. رحم الله مخرج الروائع التلفزيونية، ورحم رموزنا الثقافية الكبرى.