مسعود شومان: شعر العامية رصاصةٌ نافذة في قلب المشهد الشعري الراكد.. والدراما التليفزيونية تحتاج إلي وجوه مكشوفة 

مسعود شومان
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاوره: صبري الموجي

في حضن الريف، تفتحتْ عيناه علي سطور “الكتاب الشفاهي” لأمِّه بمضامينه الكثيفة والمُركزة، فاكتسبَ معارف وخبرات، وقيما وآدابا، ساعدته ملازمتُه لجده – أحد أقطاب الصوفية – في ترجمتها عمليا، فنشأ شفيفا رقيقا يحمل قيم الذوق والجمال، وهمَّ التراث الشعبي . شغفَ بشعر العامية إبداعا ونقدا، وكتب للمسرح والتليفزيون، فصار بإسهاماته العديدة والمُتميزة أحد طليعة المجددين في جيله. زَاوجَ بين رئاسة العديد من المراكز الثقافية المرموقة، والإبداع الرصين شعرا ونقدا، فكان بحق ظاهرة فارقة في محيط إبداعه وتنوع مساراته .هو شاعرٌ وناقد وباحث، صاحب شخصية متماهية في الوجدان الشعبي، يري أن شعر العامية مازال مُهمشا، ويحلم بوجود عاصمة قارئة .

(مجروح كأني أوضة علي الشارع، ورجلي أتقل من سنة 67، وما تُقفشي عند بداية الحواديت ، وصاحب مقام، وحضرة المحترم، وغيرها الكثير) هي عناوين لدواوينه وشعره للمسرح والتليفزيون . إنجازُه مؤسسي وإن كان وحده  .. مع الشاعر مسعود شومان كان هذا الحوار :

بسبب التعبير باللهجات المحلية، اتُهم شعراءُ العامية بمناوأة القومية .. مدي تأييد أو رفض الشاعر مسعود شومان لهذه الفكرة ؟

هذه تهمةٌ جاهزة لا تُدرك الفرق الجوهري بين اللغة بوصفها لغة حياة وأداة لتشكيل جماليات الشعر، ومن يزعم معاداة شعر العامية للقومية يركنُ إلى أفكار ساذَجة، فشعر العامية طوال تاريخه يُلاحق الأحداث الكبرى، بل إنه اكتسب أهمَّ فتوحاته حين استطاع أن يُصور ما لحق بالوطن العربي في أحداثه الكبرى عبر ديوان شعر العامية، ولم يتخل عن جمالياته ليصبح بوقا مباشرا، بل كان رصاصة نافدة في قلب المشهد الشعرى حين سكتَ شعر الفصحى أو لم يستطع مجاراة الأحداث، ولعل أشعار فؤاد حداد، وصلاح جاهين وقاعود، والأبنودى، وحجاب وسمير عبد الباقى ونجم وغيرهم من الأجيال التالية التي لم تقع في سذاجة الأيديولوجية، كانت سفرا جماليا عظيما لم يُقرأ بعد، ولم يعكف النقادُ على تحليله؛ لأنهم رضوا بالتصورات البليدة المتواترة عن علاقة الشعر المكتوب بالعامية ودوره في تثوير الواقع، والدفاع عن قضايا الوطن دون الوقوع في عفن المباشرة.

بحسب ” باختين” فإن دخول اللهجات عالم الأدب يُلبسها ثوبا أبهي من أثواب الفصحي .. أليس في هذا القول صدامٌ غيرُ مبرر مع القصيدة العمودية راسخة الجذور باسقة الأغصان؟

لعل معجم العامية يُقدم انحرافا جماليا عن لغة المعاجم التي ظلت قابعة في دلالتها القديمة، من هنا نرفض مقولة شفيق غربال الذى قال إن العامية وعاء من ورق لا تستوعبُ الفن الرفيع، وكيف تقوى هذه المقولة أمام انزياحات العامية، وجمالياتها وحمولتها الكثيفة التي لا ترضى بالظلال القريبة،  لكنها تأتى مُكتنزة بتاريخها الدلالي الذى يشتبك فيه الاجتماعي بالثقافي بالسياسي فيصبح راقات عميقة لا يدرك عمقها إلا ناقدٌ يملك وعيا خاصا بالفصحى والعامية معا.

شن العقاد حربا على الشعر الحر وعلى رواده : نازك الملائكة وبدر شاكر السَّياب، بينما أشاد بشاعرية بيرم وهناك ظنٌ أن شعر العامية والشعر الحر جنسٌ واحد .. فما الفارق .. وهل بينهما نقاط تماس؟

حين نسأل عن الشعر لا بد أن يكون السؤال هو أين يكمن الشعر، فالشعر أكبر من أن يسكن شكلا مُحددا سلفا، فهو على حد تعبير (سوزان برنار) مثل تيار كهربائى يسرى عبر سلك غليظ، لكنه فجأة يُغرقنا بالنور، ولكل شاعر نوره الخاص، والنور هنا ليس مجازا محضا، لكنه الإلماعات التى تتجلى ليُعلن كلُّ شاعر عن بصمته، وقول العقاد منتصرا لبيرم لم يكن انحيازا لشاعريته الفارقة التي زلزلت عرش اللغة وسموقها المتعالى، لكنه كان حربا لمناوأة الخروج على العمود الشعرى، وظني أن شعر العامية تآزر مع شعر التفعيلة في الخروج على سجون العمود، ورفض حبس السماء والأرض في قفص الشكل، فلم يُبنَ شعر العامية الجديد على أساسات ابن عروس وبيرم وأبى بثينة وبديع وكتيبة الزجالين الكبار، لكنه كان خروجا رُؤيويا ويجب ألا نقصر الخروج على عمود الشعر أو الأشكال الزجلية، فقد بلغت قصيدة العامية آفاقا إنسانية تجاوزت المحلي والشعبي إلى حس عالمي يحيط بالمشاعر الإنسانية فى ارتباكها، والإحاطة بالهموم الوجودية، التي لم تتخل عن جماليات الشعر فى فضاءاته وتعدد دلالاته.

من مربعات ابن عروس إلي رباعيات جاهين، مرَّ شعرُ العامية بمحطات .. نود إنعاش القارئ بها؛ لمعرفة مراحل تطور شعر العامية ؟

هناك خلطٌ متواتر بين عدة اصطلاحات حول الكتابة بالعامية شعرا يعكس جزءا من الفوضى الاصطلاحية، مـن هذه الاصطلاحات المتواترة : عن العامية المصرية، الشعر اللهجي، شعر المصرية العربية، الشعر الجماهيري، شعر العوام، الشعر الشعبي، ومن الجليِّ أن الاصطلاحات الثلاثة بينها اختلافات، أعتقد أنه أصبح ضروريا الوقوفُ على كلِّ واحد منها، وتعريفه تعريفا إجرائيا، كما أن ذلك المسلك يعد أمرا ضروريا لكشف بعض محـاور جدل شعراء العامية مع الثقافة الشعبيـة، أمَّا الشاعر الشعبي فيعبر عن جماعته( بها وعنها ولها)، وذلك في سياق مُتجانس لا يسمح بالنتوءات على العـرف أو الخـروج على التقاليد، وليـس لمُتلقي النص الشعبي ـ من أبناء الجماعة الشعبية ـ حريةُ القبول والرفض، خاصة إذا وثق في قدرة مبدعه، لكنَّ حريته تتحدد في الإضافة والحذف أو كليهما معا، وكلُّ ذلك يتم في إطار المنظومة التي تحكم هذه العقلية الشعبية التي راكمت أعرافها وقوانينها عبر تجاربها الحياتية وآمنت ورسخت إيمانها بعاداتها وتقاليدها ومعتقداتها حتى أصبح قانونها هو “منظومة قيمها”.

تُعد من طليعة المجددين في شعر العامية .. فما معالم هذا التجديد التي أضفتها لدولة بيرم وحداد وجاهين؟

كانت الحياة فقيرة، لكنها شديدة الثراء بتكويناتها وموسيقاها وأغنياتها المنسابة كنهر لا يكف عن التدفق، لقد كانت مساهمة المكان والأسرة في التكوين كبيرة، بل عظيمة، وقد قامتْ بدور فعّال في اكتناز حقيقتي الثقافية والإبداعية، واكتسابي لكمّ هائل من الموروث الشعبي من خلال حكايات أمي، وإيمانها بالعادات والمعتقدات الشعبية، فهذه المعتقدات التي اختارت اسمي، وهذا له حكاية مُدهشة، فحين حملت أمي، وبدأت تشعر بحركات مولودها الأول جاءتها رؤية في منامها لشخص يرتدى جلبابا أبيض، وقال لها سيأتي لك ولد سمِّيه “مسعود”، لكنها أبت تشاؤما حيث كان اسم “مسعود” من الأسماء التي تثير التشاؤم؛ لأنه اسم “التُربِى”، فكيف لا تتشاءم امرأةٌ صبية من تسمية مولودها الأول باسم يرتبط بالموت، فالتُّربى رجلٌ يتعايش على الموت؛ والموت “سبوبة للعايشين”،  لذا فقد اختارت له اسم “عبد المجيد” تخليدا لذكري جدى لأبى، ولم يعش الطفل طويلا، ومات قبل أن تسعد برضاعته، فحملت بعد موته ليظهر لها نفسُ الرجل في رؤية جديدة، ويقول لها “سمِّيه مسعود”، فرضخت للرؤية، ومارست لحفظ المولود طقوسا نادرة من موروث الجدات، كأن يُدقَ للمولود خلخال عند الحدَّاد، يكون تميمته للنجاة، و”تشحت” فلوس دق الخلخال من سبعة “مُحمدات” وسبع “فاطمات”، ليكبر الطفل حاملا ذلك الجو الطقوسي، وتستكمله بتربية كلب من سِنّه ليصبح قرينه ترى فيه صحته ومرضه، يشاركه الأكل واللعب، فهل كان وفائي إرثا تعلمتُه من كلبى الصغير، الذى كبر معي؟ وهو ما يفسر سبب حزني العارم ورعبي حين يمر “السِمَّاوي”، في الشوارع لقتل هذه الحيوانات الأليفة، التي تحفظ المحبة لأصحابها ربما أكثر من بعض من نطلق عليهم أصدقاء .

في هذه الأجواء تشكل عالمي مع حكايات المارد والجنيّات، وسمعت عن سير الراحلين والراحلات، وعن القناع الحديدي، الذى وجدوه مدفونا ومربوطا به عمل لوقف الحال ومنع الخِلفة، وعن الدم الذى لابد منه لتدور الطاحونة الجديدة تحت الجسر، وعن الغيلان التي تسكن بجوار الآبار، والسواقي، وفى حوارى مدينتي “المُتريفة” كانت الألعاب الشعبية: السيجة – البحر الكبير- عنكب شد واركب – تريك تراك- ضفدع- حيطة مين دى؟، ومنها تعلمتْ اليدُّ كيف ترى، وتدربت الأقدام على تجاوز الحفر، وأدركتْ الروحُ السماحة حين كنا نردد بقلوبنا الطرية : ” يا طالع الشجرة .. هات لى معاك بقرة.. تحلب وتسقيني.. بالمعلقة الصيني.. والمعلقة انكسرت.. يا مين يربينى.. رباني عبد الله .. وأنا زرت بيت الله.. لقيت حمام أخضر.. بيلقط السكر….” وكان السؤال ما هي هذه الشجرة ؟ فكانت شجرة المعرفة عند أجدادنا المصريين، وهى شجرة الوعى والخير، وطالعها هو طالب المعرفة والعارف بأغصانها، أما البقرة فهي حتحور إلهة الخصب والنماء والتكاثر، وطلب البقرة هنا أمنية لتحلب له المعرفة وتزيده من الخير والسعادة، فتتكاثر معها معرفته ويتوقد وعيُه، و”المعلقة” الصيني تُشير إلى تطور حضاري في علاقة المصريين بحضارة الصين، لكن المعلقة “انكسرت”، وهى إشارة إلى انكسار وسيط نقل المعرفة، فالسؤال هنا، كان لابد أن يكون “يا مين يربينى”؟، السؤال عن التربية في ظل غياب المعرفة والوعى، كما أن انكسار المعلقة، يشير إلى مفصل حضاري بين حضارة ذاهبة وأخرى قادمة، لذا فسبب السؤال عن التربية جوهرىُّ، هذه إشارات ذكية وعميقة إلى الراقات الثقافية، التي حكمتْ الشعب المصري، وانتهت إلى رصيد السماحة والخير الذى نحاول أن نعثر عليه من جديد بعد أن قطعت الفاشية الدينية جذور شجرة المعرفة وقتلت معها حتحور.

تري أنَّ شعر العامية مُهمشٌ .. فما مظاهرُ هذا التهميش وسبلُ التغلب عليها ؟

بعيدا عن مشاعر المظلومية والشهادة، فإن مظاهر التهميش تبدو جلية في نظرة النقاد التراتبية لشعر العامية، وهى نظرة تاريخية ستجد صداها في نشر شعر العامية، على مستوى السلاسل، والمجلات والجرائد فضلا عن ندرة الدراسات النقدية، وانسحاب النقاد من متابعة مُنجز شعر العامية، فما قُدِم نقدا وتحليلا لشعر العامية نادر قياسا بمنجزه، فضلا عن استبعاد شعر العامية من الدرس الأكاديمي، حيث يقبع سدنة اللغة وحُماتها في نصوص القدماء دون أيِّ شعور بالخجل من ترك هذا المنجز العبقري على المستويين الثقافي والجمالي، كما يُعانى من قلة الفعاليات والمؤتمرات التي تناقش قضاياه المهمة مثل التدوين والتطور اللغوي والمساهمات الجمالية، التي يفوق بعضها ما يكتب بالفصحى.

متابعة منجزك الشعري يشير إلي شغفك بالأنثروبولوجيا والفولكلور .. سبب هذا الشغف وبداياته ؟ 

الأجواء سالفة الذكر هي سببُ توجهي فيما بعد لدراسة الفولكلور والأنثروبولوجيا، وربما لكتابة شعر العامية تحديدًا، هكذا لم أكن بعيدًا عن قلب وروح المشهد، فكنتُ أنجذبُ لحلقات الذكر مُستمعًا ومستمتعًا بالجماعية في الأداء وأصوات “الصيِّتة” التي تتصاعد مُحدثة نشوة كبيرة في نفوس المريدين، وحدثَ أن وقعت في إحداها مغشيًا عليَّ، فأودعتنى أمي كُتَّاب الشيخ “متولى” ولم يكن شيخا عاديا، فكان النعشُ سبورته التي يكتب عليها الحروف لنتعلم مفاتيح التهجى، وعلى وسيط الموت، تعلمتُ كيف تتجسد الحياة في الحروف، كنتُ أحمل لوحى الخشبى ومعه كوز السبغة التي نصنعها بأنفسنا، فنشترى مسحوقا من مكتبة “الجندى”، نخلطه بالماء، وِنْمَيّل على عم سيد بيومى ليصنع لنا ريشة من الغاب نكتب بها خطوطنا الجميلة الواضحة، حيث يُباهى كلُّ حرف بجماله، ثم نترك اللوح ليجف، ونمحو ما كُتب عليه لنملأه من جديد، فتتجدد الحروفُ، التي نقرأها بأصواتنا، وحناجرنا الطازجة مصحوبة بتوقيعات سيدنا بكفيه على ركبتيه .

كل هذه الصور والمشاهدات والأصوات والكلمات الغامضة دفعتني إلي محاولة فهمها من خلال الدراسة، فالتحقتُ بالمعهد العالي للفنون الشعبية بأكاديمية الفنون، ثم المعهد العالي للدراسات الإفريقية لأدرس الأنثروبولوجيا الثقافية ساعيا لاستجلاء ما استغلق عليَّ ولم أجد له تفسيرًا، فهل عثرت على ضالتي، يبدو أن الحياة ستمتد رحلتها بحثا عن إجابات أو بحثا عن أسئلة جديدة لا تنتهى، بوصف الأسئلة فعلا محرضا لا تقل مشروعيته عن مشروعية الإجابة.

لشومان ” تترات” درامية متميزة مثل ” حضرة المحترم”، و” دموع الغضب” فبرأيك التتر قاطرة تجر العمل، أم أنه عربة تأتي بعد قراءة العمل ودراسته ؟

لم يكن لي حظٌ كبير في كتابة تترات المسلسلات، وتوجهتُ أكثر للمسرح، فالدراما التليفزيونية تحتاجُ لوجوه مكشوفة وتنازلات فنية لم أستطع مجاراتها، وكتابة تترات المسلسلات تحتاجُ لجهد شاق يبدأ بقراءة الرواية والسيناريو ومناقشة القائمين على أمر العمل الفني، وتتجلى فيه فكرة التأليف أكثر من الإبداع، فكان من حسن حظى أن أبدأ حياتي في هذا المجال بكتابة مقدمة ونهاية مسلسل حضرة المحترم للروائي العالمي نجيب محفوظ .

عناوين دواوينك  مُلغِزة .. سرُّ هذا الإلغاز وبين عناوينك ترابط أم أنها كيفما اتفق ؟

لا أرى غرابة في عناوين دواويني، فكلٌّ ديوان يختار عنوانه، والعنوان ليس مجرد بوابة للقراءة، لكنه جزء مهم من متنه، وليس شيئا ببنط أكبر أو عنوانا لقصيدة داخل الديوان، لكن العنوان لابد أن يكون دالا على محتواه، وضمن مشروعٍ مُكتمل لجملة عناوين التجربة كلية، فكل عناوين دواويني تُمثل جملة طويلة في مشروع لن يكتمل إلا بالرحيل .

تطمح في إنشاء “عاصمة قارئة” فهل طموحك تعبير عن واقع مرير .. أم أنه رغبة في إضافة لبنة للبناء ؟

العاصمة القارئة مشروع قوميٌ بامتياز، تتلخص فكرته في تسخير كل ما له علاقة بالقراءة لاستعادة الوعى القرائي من خلال مكتبات محافظات مصر، إيمانا بأنه لا تغيير في الوعى إلا بالقراءة، والمشروع يرتكز على تفعيل دور المكتبات في كل محافظة شهرا كاملا لننتقل من محافظة إلي أخري، حيث تتعلق كل الأنشطة بالقراءة من معارض كتب، وحفلات توقيع، وقراءات ومناقشات، وأنشطة فنية تتعلق بالكتاب، وتتكاتف جميع المكتبات الأهلية والرسمية في تفعيل ذلك النشاط  .

مقالات من نفس القسم