يكاد رمز الأفيال الصغيرة يكون الرمز الوحيد في مجموعة نجلاء علام الأولى ” أفيال صغيرة لم تمت بعد ” ، وهو يرد في القصة التي تحمل هذا الاسم ، وحملته المجموعة كلها ومع ذلك ، فإن هذا الرمز الوحيد بدلالات الصراع والحميمة التي يحملها هذا الفيل الصغير ، يمكن أن يكون مفتاحاً لتجربة المجموعة كلها . مفتاحاً للمعاناة الحميمة التي يعيشها البشر ” الصغار ” المهمشون المستضعفون في مواجهة ضرورات الحياة وقمعها وبرغم ذلك ، فإن هؤلاء البشر يمتلكون من مقومات بشريتهم ومن انتمائهم إلى العالم ، ما يجعلهم قادرين على المقاومة والمواجهة والانتصار ، أحيانا ، وإن لم يكن في معظم الاحيان . ومن هنا تأتي نهاية المجموعة معبرة عن حيرة تنبع من السؤال الأخير في القصة الاخيرة : اللون ” ماذا يكون اللون ؟ ماذا يكون ؟! ” ( ص 84 ) . وهي حيرة تجيب عنها القصة نفسها . فأيا كان اللون فإنه لا بد أن يكون قاتماً ، لأن ألوان العالم جميعها قاتمة .
وفي تقديري ، أن ما يمنح هذا العالم القاسي والقاتم طزاجته وألوانه البهيجة ، برغم القتامة ، هو أليات السرد التي تتمتع بها الكاتبة ، بدءا من منظورها وانتهاء بطرق بنائها للقصص ، مرورا بلغتها الدقيقة التي تجيد الالتقاط والوصف .
إن أهم ما يميز نجلاء علام على صغر سنها ، هو الخبرة العميقة والممتدة بالحياة ، تلك التي منحتها عينا بصيرة ونفاذة ، قادرة على أن تلتقط بدقة التفصيلات الصغيرة التي تميز منحنيات شديدة الأهمية والدلالة ، في عالم القصة وفي بنائها ، من هذه التفصيلات ، مثلا ” السلمة المكسورة ” في قصة ” الظل ” ، ومنها في القصة نفسها، تلك الصورة البليغة التي تنتهي بها ” ويمتد ظلي فيفرش أرض الحجرة الضيقة ” ، وكلتاهما تقدم التوقع في بداية القصة وتحققه رمزياً في نهايتها ، ومن نماذج هذه الدقة في الوصف – مثلا – الفقرة الأخيرة في قصة ” هكذا ” ” أحضرت الأكواب والسكر ، وبحثت عن كيس الشاي ، تسربت رائحة الغاز فأدركت أنني لم أغلق المفتاح ، دق جرس الباب فتحركت ببطء كما اعتدت في الأيام الأخيرة ، وفتحت الباب ثم أخذت وصل النور من البواب – تحاشيت النظر إلى الاسم المكتوب – جعلته ينتظر ثم عدت إلى المطبخ ورفعت الغطاء ثم حملت البراد إلى الحوض وأفرغت معظم ما به من ماء – لقد نسيت أنني سأشرب الشاي وحدي – ثم وضعت البراد على البوتاجاز . أعطيته النقود ثم أغلقت الباب … ” (ص8)
وهذا الوصف الدقيق يمتزج بدرجة عالية من التكثيف في الاستخدام اللغوي ، بحيث إن عدداً قليلاً من الكلمات يحمل عالماً واسعاً وعميقاً وممتداً – ليس هو مجرد المعاني المباشرة التي تحملها كل لقطة أو مجرد تراكم لهذه المعاني . فجملة مثل ” تحاشيت النظر إلى الاسم المكتوب ” أو مثل ” لقد نسيت أنني سأشرب الشاي وحدي “- في النص السابق – تشير إلى المخفي والمضمر ، ولكنه المحرك الأساسي للقصة كلها : ثمة شخص مات من زمن قريب .
عبر الدقة في الوصف والكثافة وحميمة العالم ، تنبني قصص نجلاء علام بجزأيها ” اهتزازات غائرة ” ، و ” اهتزازات صغيرة ” . والملاحظ أن هذا البناء محكم في معظم القصص على نحو تام ، خاصة في قصص الجزء الثاني القصيرة جدا ، ومعظم قصص الجزء الأول الأطول نسبيا . والملاحظ أن القصص المحكمة البناء هي القصص التي تركز على العالم الداخلي الحميم لشخصية الراوي أو المروي عنه ، سواء كان امرأة أو رجلا ، طفلا أو عجوزا . أما حينما تحاول القاصة الخروج من هذا العالم الداخلي الحميم إلى العالم الخارجي ، عالم الأخرين ، وتتعدد زوايا النظر ، أو تلجأ إلى الفانتازيا أو التجريد ، كما في قصص ( الطريق ، نور ، خيال ، بورترية ) فإن البناء المحكم يكاد يتفكك ، وتفلت خيوطه ، وتضيع دلالات العمل . ومع ذلك ، فإن هذه القصص تمثل طموحاً محموداً لدى الكاتبة للتواصل مع العالم الخارجي ، نرجو أن يتحقق بالدرجة نفسها من النجاح المتحقق في القصص الأخرى ، لأن هذا الطموح هو وحده الذي يمكن أن يقود منظور الكاتبة للخروج من أسر الحالة الداخلية الحميمة ، وإدراك أن هذه الحالة الحميمة يمكن أن توجد لدى البشر الأخرين أيضا ، ومن ثم تتعدد الألوان ودرجاتها ، ولا تظل أسيرة القتامة وحدها .
_______________________________
* مجلة نور ، فصلية ، العدد 12 ، صيف و خريف 1997 .