باب الليل..المقهى وجه العالم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

طارق إمام

في روايته «باب الليل»، والتي صدرت في طبعة جديدة عن دار بتانة ، عقب فوزها بجائزة ساويرس للرواية/‏ فرع كبار الكتاب، يقدم الروائي المصري وحيد الطويلة تجربة موزعةً بين مناح عدة، وقابلةً، كأبوابها، لتقديم نفسها عبر أكثر من زاوية . فالجسد، بكل حسيته، مؤسس هنا على جذر ميتافيزيقي صلب، لا تبتعد فيه الحقيقة كثيراً عن الوهم، ولا ينفصل فيه الحسي عن الذهني. لم لا، واللغة نفسها لهثت طيلة 246 صفحة لتضج بحسيتها المعجونة أيضاً بالتأمل.. فتلتبس اللغة السردية السائلة، طيلة الوقت ودون هوادة، بثقلها المجازي ونزوعها الاستعاري الشعري الواضح، وبمهمتها التداولية كوسيط بين الحدث والخطاب.

إن التأويل يمكنه أن يتسع ليشمل كافة شخوص هذه الرواية، الذين يعيشون مجازات أجسادهم وليس أجسادهم الماثلة. لا أحد في هذه الرواية يحتفظ بجسده، بل بأنقاضه وأشباحه.. حتى الفتيات المكتملات، تفسد الوظيفة الاستعمالية لأجسادهن، (كونهن «بائعات هوى») الوظيفة الجمالية التي يمكن أن يغذيها الحب أو المتعة المنزهة عن «الشغل».
المكان في هذا النص الجسد الأبقى والأشد نزقا، يتحول من استعارة لتمثيل كونه يشيد كجسد أنثويً. إنه عري «درة» صاحبة المقهى وهو يقابل جسدها المستور، وهو أيضاً صورتها المجازية أمام رواد ليس بينهم من لا يشتهيها. اشتهاء المقهى إذن هو بالضبط اشتهاء الجسد. ووفق هذا المنطق، فنحن أمام جسد يدير جسداً.

***

قد شيد المقهى بما يليق بأسطورة، «سفيان» المعماري الذي يعشق درة في الخفاء، يقدم للعالم قربانه عسى أن تتحقق المعجزة، بأنثى من حجر ومعدن. أسطورة التأسيس تفتح أبوابها واحداً تلو الآخر، وخلف كل باب تتخلق حكاية جسد يحمل اسماً وتشكلاً إنسانياً.
نحن أمام نص واقعي، «كنائي»، يمكن رده لسياق معقولي يقبع خارجه. هذا صحيح، لكن باب الليل، بنفس القدر من الإحالة للواقع، تبدو ملحة في الوصول لشروطها الخاصة، لذا فهي تبني واقعها فوق جثمان هائل هو الميتافيزيقا التي تدور الأجساد في آلتها الهائلة.
وفق هذه الميتافيزيقا فقط، سيمكن التحدث عن الثورة الفلسطينية المجهضة، عن أثرياء العرب الجدد، عن الدعارة كتجارة رائجة، وعن وطن جاثم تحت ثقل الديكتاتور.
هذا عن المكان، أما الزمن، فهو الليل، الذي وضعته الرواية في واجهتها. هذا عالم لا ينهض إلا في العتمة، كونه هامشاً على النهار/‏ المتن، وهو لهذا يتسق تماماً وشخوصه الهامشيين: بنات الهوى، المناضلين المغدورين والأشخاص المجردين من هوياتهم.

إن تأسيساً دلالياً عميقاً يتشكل من خلال الفصل التأسيسي «باب البنات»، فالمقهى هنا يتجرد من وظيفته ومرجعيته الاتفاقية في الوعي الإنساني كمكان للعابرين وكوجود مؤقت، إنه يبحث عن ثباته كموطن للمقيمين، كوطن: «صاحبة المقهى لا تحب البنات العابرات، تفضل المقيمات، تعرفهن جيداً وتأنس لهن». «كل شيء يبدأ في الحمام».. بهذه العبارة تبدأ الرواية وبها ستنتهي.. الحمام بدوره هامش على المتن، إنه المكان الأكثر عبوراً والذي يتحول بدوره لمكان للإقامة، فلا يدخله الناس لكن لعقد الصفقات الجسدية.

***

قنياً، تدير «باب الليل» ظهرها للتراتبية التعاقبية في الحكي، فليس الزمن الخطي هو هم الحكاية كخط مستقيم بين نقطتين، وإنما المحور الرأسي أو الاستبدالي هو ما تقاربه البنية، ما يجعل من الخطاب الكلي يتسم باشتغال شعري على مستوى البنية، يحققه اللعب في العلاقات المكانية، من التجاور وليس من التعاقب.

إن الشخصيات تتبادل الصعود للخشبة، وعبرها تكتمل أركان الحكاية، في انتقالات سريعة وسيالة تختلط فيها الأزمنة. «الاستعراض» تيمة حميمة هنا، يتوارى السارد مرة بعد أخرى، بعد أن يقدم شخصياته بنفسه ببطاقات تعريف من صنعه، ليتفرج عليها بين المتفرجين الآخرين. نعم، نحن في هذه الرواية أمام ذوات صارت موضوعاً «للفرجة»، يقدم كل منها مونولوجه الطويل، الذي ربما يتقاطع مع مونولوجات الآخرين، لكن فقط لتأكيد ذاته. ربما لهذا السبب نحن أمام رواية عن «الوحدة» على كل ما يكتنفها من زحام ذوات تصطخب في حيز ضيق. تبدأ باب الليل من النهايات، من شيخوخة جميع ذواتها في لحظات النهاية، نهاية الحلم والجسد معاً.
هكذا يكاد كل باب ينتج «بطله» ليصبح بؤرة السرد، وبؤرة العلاقات، قبل أن يتوارى في الأبواب التالية ليصبح ممثلاً ثانوياً على شرف أبطال جدد. من هذا المنطلق، فلا بطل لهذه الرواية بالمنطق التقليدي.. ولعله من الدال أن «درة»، صاحبة المقهى والمحركة العميقة للعالم، لا تظهر إلا في الباب الخامس.

الجميع أبطال، ولا بطل. هكذا يمكن تلخيص ذوات «باب الليل»، المجهضة وغير المتحققة. ليس المقهى في هذه الرواية وطناً كما يمكن أن يذهب البعض، بل منفى. لا وجود في المكان لمن لا يحلم بمغادرته ذات يوم.. من أبو شندي الباحث عن معجزة تعيده إلى وطنه، إلى نعيمة الطامعة في يقين أخير تحت التراب وإن لم تفصح مباشرةً.

ورغم حضور السارد كعين كاشفة، تقربه جداً من السارد العليم (ذلك المتلصص على كل كبيرة وصغيرة في شخصياته، والذي يملك معرفة كلية عن شخوص حكايته تسمح له حتى بتشريحهم سيكولوجياً)، إلا أن السارد، المقيم في المقهى وبالتالي أحد شخوصه، لا يسمح لنفسه أبداً بأن يكون إحدى شخصيات الرواية. يكتفي بدوره كمراقب ومتلصص ومستقبل للعالم. إنه كبح شديد الذكاء، وأد شخصيةً في مهدها، مفلتاً من فخ نمطي كان كفيلاً بابتلاع طزاجة العالم: المصري الذاهب للعمل، وبالتالي القادم من منطقة جاهزة في النص الروائي.

***

ليست اللغة في «باب الليل» جسراً للعبور السلس نحو المعنى، لكنها هنا سبيكة ثقيلة مرصعة بالاستعارات والصور المتلاحقة، حتى أن باب الليل بدت لي تجربة لغوية بدرجة كبيرة. إن وحيد الطويلة يقمع غواية الحكي القادم من الوعي الشفاهي _ وهو منحى يتقنه وجسّده عنه غير مرة _ إلى نص كتابي بامتياز يخفت فيه حتى الاتكاء على اللهجات المتباعدة للشخوص القادمة من بقاع مختلفة. أسلوبياً، تبدو الرواية طامحةً لمنح شخوصها بعدا شعريا. إنه منحى تجريدي يتواشج مع المنحى التشخيصي ويهزمه أحياناً. تقريباً لا وجود لشخصية خارج عبارة مركزية يجري تدويرها واختبارها في سياقات لغوية. إن نعمة مثلاً، يجرى تعريفها كامرأة تبحث عن شخص «تخبئ حكايتها في حكايته».. شخصيات باب الليل لا تحمل في الغالب من أعماقها إلا بقايا عبارات، وكأن مصير الجسد هنا هو تحوله لحبر على ورق.. وكأن الكتابة، بقدر ما هي حياة أخرى تعيد خلق ذواتها، فإنها مقبرة مثالية لجميع من سالت أجسادهم من بين أصابعهم.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم