“حكايات يوسف تادرس” .. الطين يبحث عن النور

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

تمنحك هذه الرواية البديعة طاقة إيجابية هائلة، وتقدم لك مزيجا مدهشا بين متعتى الفن والفكر. "حكايات يوسف تادرس" لمؤلفها عادل عصمت، والصادرة عن الكتب خان للنشر والتوزيع ترسم بحساسية وبذكاء ملامح نموذج إنسانى يحاول أن يتحقق، ويريد أن يهزم مخاوفه وأساطيره الداخلية، ولا يجد خلاصه إلا عن طريق الفن. يبدو يوسف تادرس بطلنا المسيحى تائها ومؤرقا ومتخبطا، ولكنه يشعر بشعاع من النور. يتبعه ، فيجد نفسه، يطارده حلم بأن يبعث من جديد، وبأن يعيش فى الدير راهبا، ثم يكتشف أن هناك طريقا آخر للنور، هو أن يمسك بلحظة الخلق والإبداع، هذا الوميض العابر يستحق كل ما عاناه يوسف تادرس طوال رحلته الصعبة.

مشكلة يوسف مزدوجة: لقد اعتبر نفسه منذورا لأمر جليل، ذلك أن أمه عزفت طويلا عن الزواج، قررت أن تهب نفسها للرب، فلما تزوجت أخيرا وأنجبته، أصرت على أن تحكى له عن تضحيتها التى غيرت مشوارها. ترسخ فى داخل يوسف الشعور بأنه منذور لشىء كبير. من ناحية أخرى ، فقد سكن الخوف قلب يوسف الصغير، بعد أن صدمت سيارة ضخمة عجلته الصغيرة، تجسد الأمر فى مخيلته كوحش يلتهمه بلا رحمة، لقد ظن أنه مات فعلا، ثم بعث من جديد، صار يشم رائحة الخوف فى كل شىء ، الحكايات كلها فى الرواية على لسان يوسف وكأنه يجلس على كرسى اعترافه، ويخاطب صديقا لا نعرفه، يقول له : ” أنت تقول إننى ظننت أننى قد مت. لا، لقد مت فعلا، وبعثت مرة آخرى. حلمتُ كثيرا بتلك اللحظة، وكل مرة أحلم بها، أقوم من النوم راغبا أن أرسم الحلم، لكنى لا أتمكن، لأنه يتسلل ويسكن الرسوم جميعها. ابتلعنى الوحش فى جوفه، وعندما عدت الى الحياة، بعثت من جوف الخوف. إننى ابن خوف، وسأظل خائفا على الدوام.لا تقلق، لقد اعتدتُ مخاوفى وصاحبتُها مثل حيوانات صغيرة مسلية أجدها تداعبنى ، وتنظر إلىّ من داخل صورى”.

يوسف العائش فى زقاق صغير بمدينة طنطا، يبدو أقرب الى أمه ، وتسود علاقة جافة بينه وبين أبيه التاجر الثرى. الأم طيبة تأخذه معه لجمع التبرعات لجمعية الكتاب المقدس، يطرقون أبواب الأثرياء للحصول على أموال تعين الفقراء واليتامى، أمه أيضا هى التى ستفتح أمامه أبواب اكتشاف الفن، من خلال ورشة النسيج التى يتعلم فيها الأطفال، ينطلق خياله، ويعشق الألوان. يدخل المدرسة  فتقول له مدرسته الجميلة مارى إن عليه أن يرسم حتى يتخلص من مخاوفه. فى مرحلة تالية، يتعلم يوسف الرسم فى قصر الثقافة، تسحره الموسيقى، ويقترب من نخبة من المثقفين، يكتشف مع انعكاس النور على الأشياء، نورا فى داخله، فيصبح هدفه من الرسم أن يمسك بتلك الروح السائلة التى تكمن وراء الأشياء، أن يترجم هذه الروح الى شكل مرسوم.

يمكن أن نفهم حكايات يوسف تادرس ومعاناته بأنها صراع بين اثنين فى جسد واحد:  فنان من نور، وإنسان من طين. فنان يحاول أن يكتشف فكرة الخلق، وأن يتحرر بالخط واللون، وإنسان يسكنه الخوف، فيعوق حركته، بل إنه يدفعه الى التراجع فى قرارات مصيرية كثيرة تتعلق بحياته العاطفية أو العملية. يتضح ذلك عندما يرضخ يوسف لفكرة عدم استكمال دراسة الفنون الجميلة، نتيجة ظروف أسرته الاقتصادية، وكان قد التحق فعلا بكلية الفنون بالإسكندرية لمدة عام. حتى حكاياته العاطفية، وبينها حكاية عاصفة مع فتاة مسلمة، تنتهى دوما بالفشل والإحباط والإنسحاب. يقبل يوسف الإلتحاق  بكلية الآداب، ويصبح مدرّسا تقليديا، ثم يتحول الى زوج تقليدى، عندما يوافق على الزواج من جانيت، صديقة أخته، ولكن الزواج والإنجاب لن يحسما مشكلة يوسف، سيظل تائها متخبطا بعد أن ترك الرسم نهائيا، أحبطه رأى صديق فى لوحاته فمزقها، ولم يكن يعرف أنه يمزق أفضل ما فى حياته :” أشعر بأن حياتى خفيفة سطحية ليس فيها ثقل، وأننى كائن هش يمكن أن يذوب فى الهواء، ربما هذا هو منبع حلم البعث، ربما هو صوت داخلى بأن أعمل من كل هذا شيئا، أن أنسجه على شكل سجادة. كيف؟ لم أكن أعرف، ولم أفكر وقتها فى الرسم، الذى بدا كما لو أنه كان فترة انتهت من حياتى”.

لم تكن متاهة يوسف إذن سوى متاهة الإبتعاد عن الفن. كبر الأولاد، وتعثرت حياته مع جانيت بين مد وجذر، وصارت مغامراته وفضائحه العاطفية مجرد ذكريات، لم يعد له سوى أن يعود الى الرسم، وأن يبدأ برسم وجهه منعكسا فى المرآة، تبدأ تجربة باطنية مدهشة، كان يظن أنه يمتلك وجها واحدا، ولكنه يرسم تسعة وجوه بتعبيرات مختلفة، ثم يقرر أن يرسم لنفسه 99 وجها، تراكمت الوجوه على الوجوه، ولكنه لم يجد نفسه  الحقيقية إلا فى  مساحة داكنة تحددها خطوط بسيطة.

وجد عادل عصمت معادلا رائعا لفكرة اكتشاف بطله لذاته، معادلا بصريا يقود  يوسف تادرس الى لحظة تنوير حقيقية، يمسك من خلالها بجوهر شخصيته بعيدا عن أسطورته الذاتية التى تشكلت من كونه منذورا لشىء غامض، ومن كونه إنسانا يسكنه الخوف. اكتشف يوسف فى هذه التجربة أنه لن يستطيع أن يرسم روح الأشياء السائلة إلا أذا اكتشف ذاته، واكتشف أن الفنان الحقيقى لا يرسم الطبيعة، ولكنه يعيش حالة من الخلق والمعاناة تحاكى عملية الخلق فى  الطبيعة. كل هذا الجهد فى رسم الإسكتشات، وسيلة للوصول الى ومضة النور الكامنة فى الأشياء. لم يكن يوسف تادرس ابنا ضالا تطارده الفضائح، ولكنه فنان تاهت منه الريشة، فتاه منه الطريق.

لم يعد يوسف فى حاجة الى حلم البعث  الدينى الذى يظهر فيه كراهب فى دير، إنه يبعث فعلا فى كل مرة يكتشف فيها عملية الخلق الفنى. تراجعت أسطورة الذات، فاصبحت لوحاته عن الحياة فى حركتها التى لا تتوقف :” الفن يمنحك هذه الوحدة بين العضوى والروحى والماضى والحاضر، إنه اللحظة التى يتجمع فيها الزمن، ويطل عليك من تفتته داخل حياتنا اليومية. كنتُ هادئا كأننى وجدت نفسى، وحصلت على ما أبغى، ساعدتنى كل لمحة من طفولتى ومنحتنى النور” . ” ألم تجرب لحظة كثيفة على هذا النحو، لحظة ثقيلة كأنك كنت طينا وتحولت الى كائن له روح، كنت جذعا ناشفا ودبت فيك الحياة، فبدأت تشعر بالبراعم تجهز نفسها للطلوع؟ سامحنى على هذه النبرة العاطفية، لكنها الحقيقة، لقد تعبتُ فى حياتى، وكانت مكافأتى قد جُهّزت لى فى هذا الصباح، كثيفة وحية كأنها وجه الرب”.

لم تكن تجربة يوسف فى الرسم كما يقول، ولكنها كانت تجربة فى الشفاء. هذه إذن رواية عن الفن كعلاج لألم الروح، وكطوق نجاة لاكتشاف الذات والآخر، بل واكتشاف الحياة، وآليات الخلق والبعث والميلاد الجديد. المبهج أن عادل عصمت، الذى أعتبره روائيا من الطبقة الأولى، قدم كل هذه الأفكار المجردة عبر بناء فنى بسيط ومحكم ومفعم بتفاصيل الحياة. لم يسقط فى فخ أن يقول أشياء كبيرة وفلسفية بشكل مباشر ومزعج يدعى القداسة والتعالى، ولكنه نقل تجربة إنسانية بكل تفاصيلها، وأدخلنا الى تجربة يوسف: متاهته بسبب الخوف، ثم خلاصه بالفن. يوسف تادرس شخصية من لحم ودم، وانتماء الشخصية الدينى يتسلل إلينا عبر لقطات قصيرة ولافتة: يحكى عن أصدقائه  فى الطفولة، الذين كانوا يمنعونه من دخول المسجد، بدعوى وجود تمساح يشم رائحة المسيحيين ويلتهمهم، ينقل معضلة علاقة حبه لسيدة مسلمة متزوجة، ابنه الآكبر يعانى من التمييز، ويهاجر الى أمريكا، ويوسف نفسه سيقول فى نهاية حكاياته إنه سيترك مصر الى أمريكا، ويتساءل :” متى سيطول النور هذه البلاد؟”.

“حكايات يوسف تادرس” إحدى أفضل روايات 2015 بنجاحها الفنى الكبير فى التعبير عن أفكار هامة عن الفن والفنان. إذا كان يوسف قد رسم 99 بورتريها لوجهه، فإن عادل عصمت قد رسم ملامح مجتمع، ومعاناة إنسان، وقلق فنان، وأهدانا لوحة هائلة عن حيرة الإنسان بين الطين والنور.

مقالات من نفس القسم