“تنظيف الماضي” أم تثمينه؟

تنظيف الماضي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 صلاح عبداللطيف

  كتاب جليل حيدر، تنظيف الماضي، الصادر عن دار خطوط وظلال قبل شهور قليلة، والذي سماه بالنوفيلا على الغلاف، ورواية قصيرة في الداخل، هو أقرب إلى الشهادة عن حياة شاعر عراقي بين مكان الولادة والإقامة الحالية في مدينة مالمو السويدية.

  مشى جليل حيدر في فتوته وشبابه على هواء وثير داخل عائلة سيجت حياتها بالثقافة والملتقيات الأدبية الخاصة، فكان الطفل يلتقط بحذر نابه أحاديث الكبار بما فيها من مباهج مرموقة وجلسات مكتظة بنقاشات صاخبة عن حاضر الثقافة ومستقبلها يومذاك.

  لكن الأحداث اللاحقة، وخصوصا انقلاب 1963، الذي أطاح بمؤسس الجمهورية، عبدالكريم قاسم وأنصاره من شتى المشارب، وخصوصا الشيوعيين منهم، قلب حياة العائلة رأسا على عقب. فالوالد حاجي حيدر كان قريبا لأفكار الوطني العراقي جعفر أبو التمن، وبعد ثورة تموز أحب الزعيم قاسم بقوة، ونافح أولاده الذين انضموا إلى الشيوعية دفاعا عن سياسة قاسم، يقول الأستاذ عزيز الحاج القائد الشيوعي السابق، وأخو الشاعر جليل حيدر في كتابه ‘راحلون وذكريات ‘، [كان للحاج شعور عميق بالإنتماء للوطن العراقي، بجانب شعوره العميق بانتمائه الفيلي، وكان يحب جعفر أبو التمن، ثم أحب بقوة بعد الثورة الزعيم عبدالكريم قاسم. ولقد ذكرت في مناسبات أخرى خلافي مع الحاج [يقصد والده] أحيانا بعد الثورة. فمثلا ذات ليلة، قال لي بكل جد وحرص‘ مالكم تطاردون الرجل، أي قاسم، بالمطالب والمظاهرات والمذكرات والمقالات، مطالبين بمطالب ليس هذا وقتها ومترفعين عليه وكأنكم أساتذته وتعلمونه ألف باء السياسة….‘ لم أطق نقده، ولم أجب، ولكني غادرت المنزل زعلان إلى بيت قريب وبقيت هناك أياما].

  أما جليل حيدر فأنه يكتب في صفحات الرواية، وواضح أنه يقصد نفسه، [كان يقرأ بشغف، مقارنة بأقرانه وزملائه، ففي المرحلة المتوسطة حفظ الكثير من شعر المعلقات للزوزني، وهناك سبب آخر لتميزه عن مجايليه، هو ما اكتسبه من ذائقة أخته الكبيرة حياة، تلك الشيوعية التي تعشق الكتب والسينما، طالبة آداب في قسم اللغة الروسية. ففي الزمن الذي كان على الفتاة اجتماعيا كي تذهب إلى السينما، أن تصحب معها من يرافقها، كان هو المرافق الدائم، حيث تعرف على انغريد برغمان في فيلم جان دارك، وكيرك دوغلاس مع توني كيرتس في سبارتكوس، ومارلون براندو في فيلم يحيا زاباتا، وكيم نوفاك التي عشقها في مراهقته، وشاهد فلم الدوامة أربع مرات، فقط ليتأمل وجهها، ثم ناتالي وود، غريغوري بيك، شيرلي ماكلين، جيمس دين، دين مارتن، وسامي ديفز، آفا غاردنر وكاري كوبر [تنظيف الماضي، الصفحة 60].

  وفي مكان آخر خارج هذا الكتاب، كتب جليل حيدر قطعة نثرية عن أبيه بعنوان [صورة الحاج في الخمسينيات] ما يلي : استهلال: لابد من سترة صيفية بيضاء، وبنطال رمادي ماركة سيرج، لا بد من علبة دخان بلاييرز، وجريدة ونشرة أخبار. ولا بد أيضا من أغنية على البال، أو بيت شعر.

  في مثل تلك البيئة المتعلمة سلم جليل حيدر مقاليد يقينه إلى الشعر، وبدأ بالنشر نهاية الستينات من القرن الغابر في مواقف، العاملون في النفط التي كان يشرف عليها جبرا ابراهيم جبرا، ألف باء، الكلمة، وبعد ذلك في السفير ومجلة البديل، وإيلاف وغيرها من الصحف والمجلات.

  سأنتخب قصيدة من بدايات جليل حيدر، نشرها في مجلة مواقف في العام 1970 بعنوان السيد قاف:

” مرة عطس أبيقورالعظيم، وكان الوقت صباح صيف موشوم بالأزهار والفراشات. عطس وانبثق من رذاذه صنبور من الماء المثلج، ظل يجري في بساتين الفلسفة حتى تمرد أحد الروافد ورفض أن يصب إلا حول نفسه، وكان أسمه السوريالية. حبلت السوريالية بأبولينير: وعندما تعب أبولينير من حياة باريس مات، فولد، في عام 1968، السيد قاف. لم يكن يشبهه، إلا أنه يجب أن يشبهه.”

  سوريالية واضحة في ذلك العمر، لكنها مع ذلك تتصف بنوع من الأريحية الخاصة، فالجيل الشعري الذي نشأ جليل حيدر في وسطه كان ثريا بحماسه لتغيير الحياة والمجتمع، مستعينا بكل الأفكار الثورية التحررية التي تسللت من نافذة ليل الستينيات إلى شوارع بغداد ومدن العراق والعالم العربي الأخرى. لقد مزق ذلك الجيل الستيني المذهول ببريق المد الأممي أغلب المراجع والهويات السابقة، وصار أفراده يدورون في الشوارع والمقاهي والحانات ومدن بيروت ودمشق والقاهرة، من أجل التبشير بعالم جديد تسوده الأحلام الفاعلة أو الطوباوية النبيلة. كان جمهورهم من المنشقين على الأوضاع الراكدة، الذين تنفسوا كلمات ذلك الجيل بحماسة صاعدة مصدرها يومذاك الكتابات التجديفية لمقاومي أكليروس الثقافة والحياة : ماركس، تروتسكي، أندريه بروتون، أنطوان آرتو، جورج حنين، رمسيس يونان، أنور كامل، فؤاد كامل، كامل التلمساني، لطف الله سليمان، أنسي الحاج، ومجموعة مجلة شعر اللبنانية.

  تلك كانت بعض مشارب جيل الستينيات، ومنهم جليل حيدر، الذي سعى إلى استعادة براءة الكتابة، والشعر خصوصا، بعد مضض خيبات العراق خلال انقلاب البعث الأول الدامي في 1963، فقد قتل عمه عبداللطيف الحاج تحت التعذيب، وتشرد مع عائلته، وفقد الكثيرمن أصدقائه، ثم جاءت خيبة حزيران- يونيو 1967، ثم سطو البعث ثانية على الحكم في انقلابهم الثاني في تموز- يوليوز من العام 1968، وما أسفرعنه من بداية تمذهب لمدن العراق، بل أحياء بغدادية، عاشت قبل ذلك مستطيبة التجاور والتحاور بين الطوائف والأعراق المتنوعة، بدل التباغض والتنابذ.  

  لم يخف البعث يوما كراهيته الدفينة للأقليات مثل الكورد الفيلية، التي أنجبت بعضا من خيرة مثقفي وفناني العراق، ومنهم عائلة حيدر. عزف البعث بصورة فجة منذ أيامه الأولى موسيقى الكاليبسو القومية، واستطاب مزيدا من الوحشية، فهجر بعد أقل من عام ونصف بصورة فضة عراقيين نبتوا في رحم البلاد منذ مئات السنين بحجة أنهم من أصول إيرانية. كانت حملات التهجير تلك، ومعها حروب حارس البوابة الشرقية للوطن العربي على كل مكونات الشعب العراقي وقواه السياسية والاجتماعية نوعا من الميثولوجيا السوداء، جعلت العديد من الكائنات يستشعرون الغربة والتشرد وهم في أرحام أمهاتهم.

  يقدم جليل حيدر لروايته بجملة من هنري ميلر[عشت بين حدين، أحدهما حقيقي، والآخر متخيل]. ثم يطل علينا تأكيدا لذلك الآقتباس من ساحة موله فونغ في مدينته الحالية مالمو في السويد، [حيث تكتظ الحانات والمطاعم والمقاهي بفرح مشبوب بالضحك العالي، والمشاحنات والمخالفات الصغيرة، أو الجرائم أحيانا]، ثم يخترق ساحة المدينة طولا، مارا بمحل سيدة صينية للتسوق ليشتري علبة دخان مارلبورو، ليعترضه في طريقه صف من دراجات هوائية في محل متدين فلسطيني [لاحظ تنوع الأمم والنحل]، ليصل إلى حانته المفضلة منذ أعوام آل باتشينو. وبعد وصف لما يدور في الحانة، تأخذ بجعة سوداء المؤلف على ظهرها إلى أصدقاء فتوته [كريم دعبله، خليل أبو كطوف،عبد تنته، غازي جركن] الذين حاولوا بعد انقلاب 1963، تنظيم مقاومة عشوائية ضد الانقلابين. ويلاحظ القارىء أن تلك الألقاب التي أضيفت إلى أصدقاء جليل حيدر يومذاك، هي ألقاب عراقية بل بغدادية صميمة، يستعصي فهمها على غير العراقي. ولجليل حيدر تجربة في هذا المجال، فقد عنون ديوانا شعريا كاملا في تسعينيات القرن المنصرم[طائر الشكو ماكو]، وهي لازمة عراقية محضة، ضمنها قصيدة الشكو ماكو، التي فاح منها زهر وقداح أشواقه للعراق، يوم كانت البلاد تتمدد على فراش قطني ملون يتوهج على مدار الفصول.

  الزمن عند البشر في شبابهم مثل نهر، تستطيع أن تغرف من مجراه ما تشاء من المياه، لكن خيانة السنين تغير المشهد فجأة، فيصبح ذلك النهر كومة من الجليد يشطرها شعاع شمسي فاحش، لم يعد التحكم به ممكنا. لكن جليل حيدر بقى وفيا لسنوات الأحلام في حياته وكتاباته، فقد حافظ بيأس بليغ على نداء الوهم وعشرة الواقع، بأصرارعلى حب أطلال شوارع بغداد التي عرفها، ومحاولاته اللافته حتى اليوم للاستجابة لنداء اليوتوبيا، رافضا التوافق مع الأكاذيب الأدبية، مثابرا في تجديفه وتمسكه بقيثارته الأورفيوسية على إفساد نوم حراس عالم الأموات.

  يلوذ جليل حيدر بالماضي ليكون شاهدا على حاضره، فهو ينتقل بسرعة من الماضي العراقي إلى الحاضر السويدي، ليصف نماذج عديدة من التعاليات النفاجة عند بعض المهاجرين، والاستعمال الرخيص لفكرة المظلومية في بلدان المنشأ، واسهامهم في صعود اليمين المتطرف ومنسوب العنصرية في بلدان أوربا [ومثال حدث معي مباشرة عندما كنت في المركز الطبي، أنتظر دوري، وكان رجل في الثلاثين من النوع العادي يتمشى في الممر بشكل ملفت ومخربط، وظل يلح على الممرضة التي خرجت من الباب المقابل متوسلا أنه لا يستطيع النوم مطالبا بدواء ما، وهي تقول له انتظر ريثما يتفرغ الطبيب من معاينة مريضه. وبلغة مكسرة ركيكة  قال أنه لا يستطيع الانتظار أكثرلأنه مرتبط بعمل ما، بعد أن قالت له الممرضة انتظر سأدخل على الطبيب، قال ً تاك سفاريا، تاك سفارياً ً، وبمجرد أن غابت الممرضة لدقائق، وبعد أن شكر السويد أمامها، قال بالعربية  ً كس اختكن وكس أخت السويد َ، بكراهية تتناسب مع رواحه ومجيئه] الرواية صفحة 39-40.

  مشاهدات الحاضر بأنفاس متقطعة في رواية تنظيف الماضي، كانت ذريعة لإنعاش الماضي والحنين إليه، الذكريات الشخصية، العواطف، الشخصيات المحلية، الأماكن الشعبية العراقية، الحاضر هو الاستعارة الذكية لتتويج الماضي سيدا في كتاب سيرذاتي يبدو مرتابا من الحاضر وتوهماته الخادعة، من تلاشي المناعة الثقافية، من صفات لوثت داخل شبكات الأعلام. يكتب جليل حيدر[رغم ذلك يرى المعقدون ً هكذا كان يسمى رواد مقهى إبراهيم في بغداد بسبب استخفافهم بما كان يدور سياسيا واجتماعيا ً، إن مؤمني اليسار أخوة، أخوة في الألم، أخوة عميان لم ترشدهم النظرية إلى طرق التشاؤم والشك والسؤال، أخوة طرشان تجنبوا الصرخات القادمة، عندما ألهتهم الحفلة عما تخفيه الستارة، ستارة المسرحية التي أخرجها الذئب وأكلت فيها ليلى] الرواية صفحة 90.

  هنا يضبط الكاتب حدود اشتغاله الكتابي بثراء دلالي واضح، دون حاجة لترويض عباراته بغاية تحويلها إلى وسيط بين بعد النظر والغفلة. ورغم كل شيء، نلحظ في ثنايا الكتاب  اضطرام الهيام إلى ماض سعى الكاتب لتنظيفه، وعدم ركونه إلى حاضر ملتبس ينطوي اليوم على امتحانات شاقة، أصعبها الانشطار النفسي لهوية تعيش بين الذكرى وبين مجتمعات تعيش تمزقا وأعراسا مرة من الدرجة المتدنية.

  ليس لكاتب من ذلك الجيل الذي ذاق طعم الحرية النسبية من طراز جليل حيدر، إلا أن يرضى بحظه العاثر وبوجوده الحائر، فيمعن في الكتابة ولو بصوت مخدوش وسط صيادي الغنائم، ولكن مثل جواد أصيل نافر لا يعبأ بحشود بلا معنى فقدت الدليل وضلت السبيل.

  في الفصول الثلاثة الأخيرة من الكتاب، يدون جليل حيدر أجمل مرثية لوطنه الأول، يبدأها بمقاطع من إحدى قصائد مجموعته الأولى [قصائد الضد]، ثم يترك أمواج الكلمات الحزينة تغطي بغشاء فضي حواره مع زوجته، التي تضع كفيها على تغضنات روحه، محاولة تخفيف هلعه أو ربما نكد حياته، كما نصحته في الصفحات الأولى:

أفهم ذلك، قالت مايا. ولكنك حساس زيادة. لست مصلحا اجتماعيا حبيبي، خذ الأمور بمرونة. الرواية صفحة 39.

  وكما أشرت فأن حرارة الفصول الثلاثة الأخيرة ترتفع أكثر بكثير على الورق من حرارة جسمه التي تتدفق من أمكنة مجهولة كما توهمت مايا، لا، إنها بسبب ضياع مقهاه، مقهى إبراهيم، وموت الأصدقاء الذين سخروا من هلع الستينيات والسبعينيات بطريقة يتجاوز منسوبها سقف الخيال، بل ضياع البلاد كلها بعد ذلك، كما يوحي جليل حيدر في مرويته كما أظن. وإليكم الشواهد من الفصول الأخيرة: [اليساري المهندم يخوض في حضن اليانكي سعيدا بوزارته وجريدته. وجماعة القمقم يبيعون البلد بكامله لمن دمر البلد، والأحزاب المسلحة وريثة الحرس القمومي تدعي نصرة الدين]. أو [المعماري الخرف قال أنه سمع أجمل سمفونية من القنابل].

  أما الخاتمة، فهي ذروة ما في جوف جليل حيدر من أعاصير ملتهبة، ليخرج من الباب الخلفي للرواية مثل سمكة رميت على تراب. تقول له لويزة: [آن وقت تلويحة الوداع يا بن الحجي. سأخذك بعيدا عن البلاد، علك تودع ذاك الجمال القاسي].

  كتاب جليل حيدر[تنظيف الماضي] هو شهادة مصير عن أحد أبناء الجيل الستيني في العراق، الذي أحدث تحولا واضحا في الكتابة العراقية، والشعر خصوصا، ووضعهما في إطار الحداثة الحقيقية. وهو في نفس الآن مرآة للتحولات المريرة التي حدثت في المجتمع العراقي خلال الخمسين عاما الأخيرة. فقد كان بعض أهل المال والسلطان يومذاك مثلا من المؤمنين بأهمية الشعر والأدباء، فهم كانوا يتقربون إلى الأدباء والشعراء للتباهي بصداقتهم. وأذكر أن الشاعر الحصيري كان في أيام عوزه المادي أو تشرده، يذهب إلى خان دله وسط بغداد، فيستقبله كبار التجار بلقب أستاذ، مغدقين عليه الأكل والمال، مقابل أن يقرأ لهم قصيدة من شعره، لأنهم توارثوا ذلك التقليد من أبائهم ومن تراث السوق. أما اليوم فأن أهل المال والسلطان في شغل عن الإبداع والشعر، لأنهم مشغولون بمضاعفة أموالهم، وكثير منهم يرى في الشعر والأدب مضيعة للوقت والجهد، وإن حصل أن اقتنى بعضهم لوحات لا يفهمون موجهاتها، فلقيمتها المادية فحسب.

  لم يخطئ جليل حيدر مرماه في [تنظيف الماضي]، بل سدد هدفا نظيفا محكما، سيوضع في مجمل منجزه الإبداعي المتميز.    

……………..

*  تنظيف الماضي لجليل حيدر منشورات خطوط وظلال 2020،  120 صفحة من القطع المتوسط.

مقالات من نفس القسم