سامح إدوار سعدالله
اقتربت المعلمة من إنهاء الحصة، حينها طلبتْ من التلاميذ أن يكون واجب اليوم موضوع تعبير بعنوان: للحرية ثمن غالٍ.
كان الموضوع صعبًا على تلاميذ المرحلة الابتدائية، فكتبت لهم بعض الأفكار كي يستعينوا بها، وقالت لهم: تخيلوا، اعتمدوا على الخيال، حلقوا وأبدعوا ليكون إنتاجكم من عقلكم أنتم دون مساعدة أولياء الأمور. دق الجرس، وانصرف التلاميذ، وفي صباح اليوم التالي بدأت تنادي على التلاميذ بانتظام لمراجعة ما أنجزوه. كانت الموضوعات متنوعة؛ عبر التلاميذ عن أفكارهم في حدود الموضوع إلا تلميذ واحد رفض تقديم عمله، لم يكن في مقدور المعلمة معرفته إلا عندما سخر زملاؤه في الفصل منه، فأخذوا يعيرونه؛ انتبهت المعلمة، وشاهدت زحامهم حول التلميذ الذي دائمًا ما كانت تنعته بالكسول والأبله، ذهبت مسرعة لتفض الخناق الحادث في آخر الفصل حوله، واستخلصته من بين أيادي المتنمرين، أخذته إلى مكتبها، وسألته: ماذا يحدث؟ أين واجبك؟
كانت دموع التلميذ ما زالت تعبر بطيئة وجنته التي غلب عليها اللون الأصفر، هدّأت المعلمة من روع الطفل الحابس شهيقه و زفيره خوفًا من انتقام مفاجئ من معلمته، شعرت بمعاناته فأخذته خارج الفصل، عبرت به الردهة الطويلة، وعلى الجانبين كانت عيون التلاميذ سهامًا مصوبة إليه.
عند استراحة المدرسين قالت له: ما لك تبكي؟
كان السؤال غامضًا رغم وضوح كلماته، يحمل في ثناياه شوائب تصعب إزالتها؛ نكس التلميذ رأسه في حسرة كأنه يحمل على رأسه كوكب الأرض.
مالت في أسف لتنظر إلى عيون التلميذ، ماذا أصابها؟ حاولت أن تناوش الصبي بكلمات مزاح ومحبة، لكن دون جدوى، قالت له: أين الواجب يا تلميذي الصغير؟
مد التلميذ دفتره، ورفع يده ليحمي هامته، وانسل للوراء خلسة خطوات ليردع أي هجوم مفاجئ. قلبت المعلمة صفحات الكراسة، لم يكن فيه كلمة واحدة. أين موضوع التعبير؟ هكذا سألت تلميذها بابتسامة رقيقة شجعته أن يتقدم مرة أخرى الخطوات التي تأخرها من قبل، فتح الصفحة على موضوع التعبير، دققت المعلمة أكثر وأكثر وقد أخذها الاندهاش، فلم تتمالك نفسها وقالت: أين موضوع التعبير يا بني.
أشار بأصابعه على نفس الصفحة وقد انسحب مرة أخرى تلك الخطوات، صوت عالٍ جاء من بعيد عبر النافذة يقول “انظري” بلغة أعجمية غير مفهومة، نظرت المعلمة في الصفحة فلم تشاهد شيئًا، جمود كامل أصاب المعلمة، وشعرت برعشة تجهل مصدرها؛ صوت غريب و صفحة فارغة و تلميذ باكٍ، وهي مصممة على إعطاء علامة لهذا التلميذ غريب الأطوار كما تراه هي.
قالت له: اشرح بصوتك؛ ماذا كتبت؟ فأنا لا أرى شيئًا.
تقدم التلميذ، وأمسك كراسته، وقال لها: انظري.
قالت له: إلام أنظر؟
كان الوقت ظهرًا، والشمس مشرقة بقوة؛ وضع التلميذ الكراسة على سطح المكتب، وقال لها: هذا هو الموضوع. ركزت المعلمة أكثر في الصفحة البيضاء، وجدت رسمًا باهتًا، سماء صافية، ونجومًا تعبر وسط السماء، وهناك عصفور مختنق في وسط الفضاء الواسع يحاول جاهدًا التخلص من براثن شبكة هلامية شفافة، وهناك طيور كثيرة تعبر بقوة وضخامة أجنحتها هذا الفضاء الكوني، وتضرب بجناحيها كل شيء للتعبير وسط الضباب، بينما العصفور ما زال محجوزًا رهن الشبكة الهلامية، ومع الصراع المستديم كان يتخلص شيئًا فشيئا منها، وبينما يحاول الخروج كسرت رجله، لكن العصفور هرب سعيدًا رغم الألم.
تأملت المعلمة الموضوع المرسوم على جبين التلميذ الصغير الذي يحاول هو الآخر أن يفوز بالحرية، لكن ما الذي سيخسره لأجل الحرية. أجابها التلميذ في هدوء: صعب عليّ أن أفوز هنا بالحرية مهما كلفني الثمن، لكنني سوف أنعم بالحرية محلقَا في الخيال.
اهتزت المعلمة قائلة: لست وحدك.
