قصة حب صيفية.. ونصوص أخرى

محمد فيض خالد
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد فيض خالد

مسعدة

ظل عمرا يقنع بالقليل، ويرضى بالتافه، رغم أنه من أصل كريم، وسليل عائلة وجيهة، يمتد نسبها في الثراء، ورث عن أبيه أرضا وأملاكا ودورا تناثرت في القرية، يتذكر والده حين كان ينهره في جنون، مرددا في غلظة:” ٍ المال هو الأصل، والناس بدونه لا شيء “، يغيم وجهه في ابتسام مأزوم، يعاود كر مسبحته الكوك، كأنه ينفض عن نفسه هواجس الأمس، يعود سريعا مترحما عليه، لتسكن نوازعه رويدا رويدا، ” مسعدة ” أو سعدة كما تعود مناداتها، بهجة حياته ومسرة أيامه، الوحيدة التي تسكن نفسه إليها، ويطمئن فؤاده لرؤيتها، ابنة خاله تصغره بعشرين عاما، تزوجها قبيل رحيل والده بأشهر، يشعر بغصة في حلقة فإلى الآن لم تهبه الذرية، بالغت مسعدة في محبتها مذ دخلت بيته، تغرقه بودها، وتجرفه بعطفها، تطيعه فلا تثني له أمرا، تتحسس مواقع سمعه وبصره، يقدر فيها رجاحة عقلها، لكنه يحاذر أنوثتها الطاغية التي جعلتها منية كل نفس، ومطمع كل قلب، فلولا القدر الذي كتب لها عيشا في بيته، لكانت تحت وجيه من وجهاء الناحية.

لا يتورع أن يذكر بين رفاقه أنها تخشى الله فيه، وتصون عرضه، ولا تأت ما يسوئه، تسكن نفسه إلى نفسها ساعة يضمها إلى صدره، يلتمس كل لذائذ الحياة في وهجٍ لا يهدأ، يتشرب ليونة جسدها الفائر، يشعر وكأنما حيزت له الدنيا وملك مفاتح خزائنها، يتضاءل عزه أمام عنفوان حسنها، يفيق بعد برهة على ما يعكر صفو مزاجه وينتزعه من نشوته، تتدفق من رأسه سيول الأفكار السيئة تزلزله، يرسل زفرات الأسى متلاحقة كلما تذكر فارق العمر بينهما، يخشى في قرارته اليوم الذي تمل فيه صحبته، فتنصرف عن مشاعرها لغيره من أندادها، يداعب خصلات شعرها الفاحم المرسل في فوضى فوق صفحة عنقها العاجي، يغيب نفسه في قبلة طويلة، قبل أن يستعيد حكايته المستفزة، عن عمه عبدالعزيز وامرأته ” لواحظ ” التي هربت مع سائق ماكينة الحرث، وكيف سلبته شقا عمره، فلم تترك له ولأودها غير شؤم العار، ومر الفضيحة.

في كل يوم تنفق من دلالها بسخاء، تحاول جاهدة كي تعيده لأنسه ثانية، تهمس في أذنه بخيوط من حرير، ثم تصب على قلبه من عينيها شواظ من نار، تذكره ما جرى بينهما في شهر العسل، تتضاحك في تعنج وميوعة يتهدم أمامها وجدانه، سريعا تعود إليه فحولته وكأنما نشط من عقال كأقوى ما يكون، ليغيبا مجددا في لهيب من الأشواق، يسبحان بين أمواجها مدا وجزرا، حتى تتقاطر رسل الفجر.

ترفع أكف الضراعة مع صوت المؤذن، راجية أن ترزق منه الطفل الذي يبدد مخاوفه، لكن أيامها تمضي دون نتيجة، وكلما مضت، كلما اكتفى بعشرتها عما سواها، ليتعلق بها تعلق الطفل بأمه، يزعجه فضول الناس عن مآل ثروته من بعده، يدفعه حديثهم لأن يلعن المال ألف مرة، تمنى لو كان فقيرا معدما، عن أن تلوكه ألسن الثقلاء في اجتراء.

عادت ظنون الأمس تحاصره، هذه المرة لم يشفع لها جمالها ولا حسنها، لم يعد يرتوي من شهدها المراق بين شفتيه، مضت أيامه على هذا المنوال من الفتور، حتى كان اليوم الذي ذهبت لتوقظه، وجدته ورسل الموت تنازع روحه .

مسكين ظل حياته يقنع نفسه ؛ أنها ليست كباقي النساء، لأنه لم يكن يوما كبقية الرجال، غاب عنه أن الغيب يخبئ في كفه، ما ستنشره حتما صحائف الأيام.

انفتلت أيام عدتها، لترضى بأول خاطب لها، شاب في شرخ الشباب، أمضت معه أياما هانئة منعمة في مخادع الحب، حتى داهمها من سلبها النعيم، باع المتوفي جميع أملاكه فبل رحيله، هبط البائع ليلقي بالحبيبين خارج اسوار الجنة.

***

قصة حب صيفية

مع هبوب نسائم الصيف ينتظر مقدمها بفارغ الصبر، يتسمع دقات قلبه مع أول نظرة، بدى الأمر شيء من الإدمان، يرى فيها ما لا يرى أنداده من فتيان القرية، فتتمثل في صورة ملائكية صغيرة تشاغب من أمامه، تجردت من دنس الآدميين الذين خالطهم عمره، هي في اعتقاده أبعد ما تكون عن حياة الوحل، والسباخ التي تفيض بها البيوت، وتلطخ الوجوه المحملة بكآبة المعيشة، حتى وإن كانت من نبت هذه الأرض، لكنها عنده من طينة مختلفة، اصطفتها الأقدار على عينها، لتكون بهذا الرونق والبهاء.

تعلق مبكرا بفتاته اللعوب، مذ بدت أمامه أنثى في ثياب المرح طازجة كاملة الأنوثة، كان يحبها حبا يراه فالقا كبده، هي بنظره روح الجنة وطهارة السماء، لكنه كان يرتد خائبا، حين يرى نفسه ضئيلا أمامها، وهو يلتف بأسمال الفاقة والمتربة، ومرارة شظف العيش ورقة الحال، أما هي فقد تربت في لين النعمة، يغدق عليها والدها من أفانين المتعة الكثير، منى نفسه الارتباط بها، شفيعه لهذا الطلب قرابة بعيدة تربطه بوالدها، الذي هجر القرية صغيرا وبدا حياة جديدة، تخفف فيها من أعباء الريف وأثقال الحقول، تقرب إليهم زلفة، وجاهد استطاعته في كد كي يتسلق هذا الجدار الفاصل بينهما من أعراف الريف حتى نهايته، تلفه الهواجس، وتبلبل خاطره المخاوف، كلما مر قريبا من دارهم أو شاهدها، يتساءل في حرقة:” هل لفتاة منعمة مثلها، تقبله زوجا؟!”، غالب ظنونه، وامتلأ يقينا، فقد ترك له والده قراريط تكفيه، مشت الأمور على خير ما يشتهي، انفتلت الأيام ليجدها في بيته عروسا مجلوة، بعد أن التهمت نصف فدان من أخصب أفدنته الثلاثة، تشاغل عن كل هذا بجمالها الفتان، بعد أن طابت نفسه وهدأت روحه بين ذراعيها، يجني من رحيق الحب الشهي، ويقطف من ثمار العشق الغض قطفا جنيا، سحرته حتى غاب عن الوجود، فبسماتها الحلوة تذيقه طلا الحب حتى يسكر، يصرخ من أعماقه حين تتراقص في ميوعة مجنونة أمام المرآة، هجر حياته كلها، حتى أصدقاء الطفولة انفك عنهم، يعهد بها سحابة نهاره، ويتسامر معها عشيا، مضت أيامه الحلوة وانطوت ليالي هناءته، ليجد نفسه بين أحضان كابوس يضمه، جعله يضطرب في لجه من الأحزان، لقد تعلقت فتاته بشاب من أبناء القرية يضاهيها سنا، كان من شبابها المنفلت، أغواها بحبه كشيطان ماكر قبل ان تقترن بصاحبنا، استمرت صلتهما لما بعد الزواج، لم يشفع له تلهفه على بطنها المنتفخ في حملها الأول، فتمادت في جبروت، تذيقه من صنوف الأسى كؤوسا، لم يكن ليدري أنه قد أغرم بوحش، تضاءلت في نفسه صورتها الجميلة في الماضي، فشعرها المتهدل، وجبينها الوضاح، وجسدها البض الرجراج، وبسمات الشفاه اللذيذة، كل هذا تبدى سرابا ممتدا أمامه، تراءت من فجوات الحياة كابوسا يكاد يزهق روحه، امتدت يده تعبث بأرضه مجددا، حتى أتى عليها جميعا لكنها لم ترتدع، بل ظلت في تماديها وعنادها، حتى كان اليوم الذي مزقت فيه كبريائه، طلبت منه الطلاق، لم تفلح بينهما الوساطات، أخيرا تم الطلاق لتلحق بمن تحب، بعد أن ألقت له بابنتهما الرضيعة، أما هو فانكأ وحيدا يربي الصغيرة، أكمل حياته قانعا بهذا، سارت به الأيام ليصحو ذات صباح على طرقات خفيفة مترددة، وكأنها تهمس لألواح الباب، كانت هي، نعم هي بعينها، لكنها بقية من أطلال الأمس الغابر، عرفها من وشم عريض على ظهر كفها الأيسر، غدر بها حبيبها المدلل، بعد أن انتهى مالها، طردتها الأبواب فلم تجد من يحنو عليها أو يرحم ذلتها، عاشت في غرفة من غرف بيته، قبلها لأجل ابنته، وذكرى أيام كانت.

**

 واعظ في بيت الأشباح

رمتنا الأقدار إلى سكن متواضع، نزلنا أحد حجراته، حرصنا منذ البداية أن تكون بعيدة عن بقية الحجرات، فمرأى البيت من داخله كئيب، مثير للغثيان، تتناثر فيه قطعان الهنود والبنغال، تمتلئ بهم شقوقه، ورائحة الطبخ المستمرة ليل نهار، بخلاصة الفلفل الحارق شيء لا يحتمل، أما ممراته فمرتع آمن لدواب الأرض من قطط وكلاب وفئران، يلقي بهم الليل كطرش البحر دون سبب.

لم تكن لنا خلطة بالسكان، لكننا كنا ذات يوم حين اندفع الباب بعنف، ليدلف منه شيخ في شرخ الشباب، بجلباب أبيض ناصع، وطاقية شبيكة، تبدى في طرف غضيض، طالع المكان مخفيا اشمئزازه، قبل أن يرن صوته بالتحية، اتخذ لنفسه مجلسا، برك على ركبتين كالجمل الفتي، يتأرجح عطره من حوله في عبق منعش، ساد صمت أخرس استغرق الجميع، سحب الشيخ تنهيدة كمد طويلة، ثم قال:” أنا أحوكم الشيخ مدثر، جاركم، جئتكم من باب الأخوة في الله والدين”، ثم بدأ في رصَّ موعظته في لكنة ركيكة، بعد أن تحول ببصره صوب الثلاجة، وكأنه يلقي إليها من ذاكرته بعد أن اغمض عينيه، يسترجع ردد جملا من قبيل التناصح، ككراهية الدنيا وتمني ما عند الله، مضى الرجل يتلعثم مرة، ويسكت أخرى حتى انتهى، انتبهت لأجد النوم يزاحم أغلب الحضور، أحمرت العيون، اهتزت الرؤوس في استسلام مريب، هبَّ من جلسته قائلا بصوت مرتعش:” لنا لقاء آخر عما قريب استودعكم الله”، لم أصدق أنه غادر، غير أن أحدهم قفز في ارتياح، وكأنه يجيبني بغير لسان، اغلق الباب في سخط، منهكا ألقى بجسده فوق سريره، شمل الجميع نوم عميق وكأن شيئا لم يكن، لم يرق لي اقتحام الأمس غير المسبب، شملنا حديث طويل عن الواعظ المجهول، عاجلني صديقي بابتسامة هازئة، ليردد في تأفف:” يا قاعدين !”، في هاته اللحظة دخلت علينا أربعة سحن، مشبعة بالحماس ومن خلفهم فتى الأمس، في أريحية شرع في تعريفنا بضيوفه:” اعرفكم، الشيخ صديق الحق، الشيخ عبدالمنان، الشيخ إسحق مظفر “، وجوه هندية قاسية، التفت الرجل إليهم، وقد اشرق وجهه في تصنع،:” تفضل يا مولانا “، حتى اللحظة وأنا غائب في دخان المفاجأة، وكأني في حلم طويل، تساءلت بعد مشقة:” ماذا يحدث؟ “، اعتلى أحدهم ناصية الكلام، انساب في لغة مضعضعة، هي أبعد ما تكون عن العربية التي ننطقها، جعل يمط أعناق الكلام ويلويه، يصرخ فيغيم وجهه المحتقن، اسكته الفتى بإشارة مهينة، ليبدأ هو في حديث ملء بالويل والثبور، يهدد ويتوعد، يشخص سبابته في وجوهنا يقول في تأنيب:” إلى متى أيها العصاة منكم الغفلة، يا أرباب الشهوات “، بدى حديثه أشبه بالعراك، لكنه من طرف واحد، واتتني الشجاعة كخيوط الماء البارد تسيل فوق ظهري، كان عليَّ انهاء هذه المهزلة، قلت مستخفا:” نحن مسلمون والحمد لله، هلا دعوت سكان البيت من الهندوس، فهم أولى بالهداية!”، اهتزت أعطافه، بعد أن تضرجت وجنتاه، أجابني:” نعم، ابشرك سأفعل “، أطبق جفنيه في غضب، لم يعد لحديثه مذاق، وآن له أن ينصرف كما جاء، اقتطعت لقمة من الخبز، ألقيت بها في فم قريب مني، ابتسمت في تشفي، محييا:”بالهنا والشفا يا جرجس “، غاب الحضور في ضحكة مكتومة، وغمغمة تكاثفت من حول الشيخ كضبابة دكناء من الحزن، انصرف ومن معه بهدوء، وعند الفجر استيقظ المكان على تكبيرات تشق الظلام، كان الشيخ قد اعتلى كرسيه، واطلق عقيرته يردد في خشوع، امتلأت الطرقات في فوضى، هرع الهنود في ثياب نومهم، التي تظهر أكثر مما تخفي، ووجوههم ممتقعة تهدر غضبا، حاولوا الفتك به، لنستخلصه من بين أيديهم بأعجوبة، غادر الشيخ بعدها المكان، ولم يعد له من باقية.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون