حرير الغزالة

حرير الغزالة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

جوخة الحارثي

قبل حلول الصيف وانقضاء أيام الدراسة وضعت سعدة ابنتها الثانية “زهوة”، كانت قد أجهضت مرتين من قبل ففرحت أيما فرح بنجاة المولودة، أخذ زوجها أسبوع إجازة، وحلّت الأفراح والزيارات ودارت صواني الحلوى والفاكهة على المهنِّئات، وفي غضون أشهر قليلة استحوذت الطفلة الجميلة رقيقة الملامح على أبويها، أصبح الأب يأتي أكثر من مرة في الشهر من أبوظبي كي لا يفوت مناغاة زهوة ومرأى أول جلوسها وزحفها، لكن كان عليه الانتظار لسنتين حتى تمشي على قدميها اللتين لم تفارقهما الحناء، أما سعدة فقد تركت الخروج تقريبا، وأصبحت بالكاد تعتني بمحبوبة والشياه، إذ تقضي يومها في العناية بزهوة وتحميمها وإرضاعها والغناء لها، وخياطة أجمل الفساتين لأجمل طفلة رأتها في حياتها.

دقَّت العجوز راية الباب ففتحت آسية، كان صوت سعدة يأتي قويا مرحا من داخل البيت وهي تُرقِّص زهوة: “بأجن وبأخرف وبأطلع في الغرف…”، سألت راية: كيف أمك؟ فأشارت آسية إلى رأسها باستهزاء علامة الجنون، فضحكت راية: “تستاهل الحلوة الصغيرة زهوة الزاهية الجنون والخرف، عندكم أرز؟”، دخلت آسية إلى المطبخ وملأت كيسا بالأرز وناولته لراية، الكُل يعرف إنها لم تعد تحتاج التسول وإنما تقوم به لمجرد العادة، أولادها الخمسة موظفون في مسقط، ولا يبخلون عليها بشيء، جميع الناس يعرفون أنها تخبئ شوالات الأرز وأكياس الشاي والبن والسكر وعلب الحليب تحت سريرها الخشبي لتبدأ نهارها بالتسول.

 في عرس سريرة على زوجها الثاني طاهر- الذي وافقت عليه بعدما اشترطت ألا يمتلك بقرة طوال حياته لأي سبب كان – تشاجرت راية مع العريس عندما رآها تراكم أكوام اللحم لتأخذها في طنجرة ضخمة إلى بيتها، أحرجها طاهر فاهتز بدنها الضئيل واستدعت البكاء، قالت إن الإنسان إذا لم يحصل على الرحمة والإحسان من أهل بلده فمن أين يحصل عليها؟ من يومها سكت أهل شعرات باط، أو الواحة، عن راية وأصبحوا يعطونها بصمت ما تطلب. كانت آسية بالذات تحب أن تعطيها كل شيء تريده لأنها تستمتع بزيارتها في بيتها واللعب بين أكياس السكر وشوالات الطحين متظاهرة بأنها كبيرة التجار، داعية الأطفال الآخرين لمفاوضتها على شراء الأكوام الهائلة من حب الهريس أو الأرز أو المخللات، وقد نجح الصغار في مغافلة العجوز مرة وتحميل الحمار نازع بطنجرة وكيسين ضخمين من الحمص النيء، قادوا نازع إلى أسفل الجبال حيث أشعلوا النار في الحطب وطبخوا الحمص والتهموه شبه ناضج وبلا ملح.

عادت آسية إلى البيت آخر النهار والحمص يوجع بطنها، أومأت لها أمها بإشارة الصمت كيلا توقظ الطفلة التي غفَت للتو، انتظرت آسية عتابا لتأخرها في الرجوع ولكن سعدة ظلت صامتة تهدهد الرضيعة بهدوء، خرجت آسية ثانية وذهبت إلى بيت غزالة، أعادتها العمة مليحة بعد العشاء، وقفت على الباب وأمها تكركر لزهوة: “ما أحلاك! آكلك؟ آكلك؟” همست آسية: “كُليها، كُليها”، وذهبت لتنام.

سقطت زهوة في الفلج في ظهيرة حارة حيث من النادر أن يخرج أحد من بيته، أو يستيقظ من قيلولته، فضلا عن أن يستخدم الفلج، حملها التيار المندفع بين البساتين من ساقية إلى أخرى، وحين ألقى بها أخيرا ليحتجز جسدَها الصغير صوارُ إحدى السواقي، التي تتحكم في مائه لريّ الأشجار، كانت غرقى.

لم يحاول أحد إنعاشها، كان من الواضح من انتفاخها أنها ميتة منذ ساعات، حمل الناس الجسد الصغير، الذي لم يكمل سنواته الثلاث في الحياة، وألقوا به في حضن سعدة. بللت الخصل القصيرة المبتلة حجر سعدة، أخذت تعصر بيدها حروز ابنتها القماشية الرطبة، ثم ضمتها إلى صدرها وتوسلت إليها بحق الله وبجاه النبي وبعظمة الرسل وبحضرة الأولياء والصديقين والشهداء والصالحين أن تصحو. همست وهي متربعة على الأرض وذراعاها تحيطان بالجسد المبتل: قومي يا زهوة، قومي يا زهوة، قومي يا زهوتي، قومي يا ماه، قومي قومي قومي. انتزعتها النساء من صدرها وأمرنها: “قولي إنا لله وإنا إليه راجعون”، فحثَتْ التراب على رأسها ولم تعد أبدا المرأة التي كانت.

لم يمضِ شهر على جنازة زهوة حتى حفرت سعدة بمسمار على باب بيتها الحديدي: “سعدة عايبة سعدة عايبة سعدة عايبة”. عاتبتها الجارات فلم تنصت لعتب، إنها معيبة وخاطئة، منذ أن نامت ونسيت بابها مفتوحا وتركت طفلتها تسرح وتغرق وتموت في عزّ الظهيرة. إنها عايبة، وستحفر ذلك على باب بيتها حتى يعرف القاصي والداني بخطيئتها، قالت الجارات إن ما حدث كان قدرا، فعمَّقت سعدة حفرها على باب الدار، قالت الجارات إن الأطفال يموتون ليذهبوا رأسا إلى الجنة، فأقفلت سعدة بابها المحفور بذنبها عليها، قالت الجارات إن موت البنت أفقدها عقلها ولا حول ولا قوة إلا بالله.

سرَّح جيش الإمارات آلاف العمانيين الذين كانوا يعملون هناك، فعاد الضابط إلى قبر زهوة والحطام الذي آلَتْ إليه امرأته، ظنّ أنه لو منحها طفلا جديدا لعادت إليها الرغبة في الحياة، ولكن سعدة لم تسمح له بلمسها، ولم تتحرك من رقدتها مفتوحة العينين على السقف، باع محبوبة والشياه، وأخذ يهرس الطعام لسعدة كما يُصنَع للأطفال، لأنها لا تمضغ ما يضعه في فمها بل تبتلعه مباشرة، دأب على تحميمها وكي ملابسها وتنظيف البيت، آمن بأنها ستفيق من حزنها وتعود إليه وإلى آسية، ولكنها لامسَت القاع، فبقيت هناك حتى الموت.

دُفِنت سعدة إلى جوار زهوة وغرق زوجها في الخمر، في البدء كانت الزجاجات الفاخرة تصله من أصدقائه القدامى في الجيش ملفوفة بعناية في صناديق البرتقال الخشبية، ثم اضطر إلى شراء علب البيرة من السوق السوداء، وحين نفد ماله أصبح يسكر علنا أمام بيته بزجاجات الكولونيا الرخيصة وروائح الغراء والطلاء وأصباغ الأحذية، فكانت آسية وغزالة تسحبانه إلى داخل البيت وترشانه بخرطوم الماء لتنظيفه من القيء.

لم تعد فادية تكلم آسية لأن أباها فاجر، ولم تسمح لها راية المتسولة بدخول بيتها واستعارة بعض الأرز أو الطحين من الشوالات المكدسة تحت السرير التي انتهى تاريخ صلاحيتها، وقد كبرت وغزالة على السباحة في الفلج ومسابقات الركض مع الأولاد، فلم يبقَ أمامهما إلا الجولات الطويلة الصامتة في البساتين.

حين قالت المعلمة في طابور الصباح وهي تنظر إلى آسية إن وجود السّكيرين المفسدين في القرية خطر على جميع أهلها، خرجت آسية التي أصبحت في الرابعة عشرة من المدرسة، جمعت أغراضها، وأقفلت على ثياب أمها وأختها الميتتين المندوس الخشبي الذي كان كل جهاز أمها يوم عرسها، تركت المندوس في البيت واقتادت أباها السكران من يده، حملت حقيبتها المدرسية التي أفرغتها من الكتب وملأتها بأشيائها القليلة على كتفها وأغلقت بقفل الباب الحديدي للبيت الذي لم تُبهِت السنوات الكلمات المحفورة عليه :”سعدة عايبة”. غادرت آسية مع أبيها شعرات باط ولم تعد بعد ذلك أبدا. قالت الجارات إنها ذهبت إلى أخوالها في الوافي، وقال آخرون إنها أرجعَتْ أباها إلى بيته القديم في أبوظبي وفتحا دكانا هناك. لم يسمع أحد عنها خبرا، ولم تعد إلى مندوس أمها في البيت المقفل، و إنما سُمِعَ صوتها بعد سنوات تردده الإذاعات والتلفزيونات.

…………………………………

*فصل من رواية بنفس العنوان، تصدر قريباً

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب