بين يديه

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد عبد المنعم رمضان

  كانت أداته المعدنية الحادة تخترق فمى المفتوح على مصراعيه,بينما يملأ صوت موسيقى تشايكوفسكى الحماسية الملتهبة أذنى عن أخرهما. لا استطيع أن أميز أى مقطوعة تلك ولكنها كانت صاخبة مثيرة. فى الواقع, لم تكن هناك أى موسيقى بين جدران الحجرة الضيقة المكدسة بالآلات والمعدات والأجهزة المعقدة التصنيع الباهظة الأسعار. الموسيقى كانت بين جدران عقلى أنا, تنبع من داخلى, تتحدى بحلاوتها صوت الآلة السخيف التى يحملها بين يديه فاتحا فمى الذى لا أهوى فتحه إلا قليلا, أثناء القبلات أحيانا, وقلما أثناء الكلام. كنت أشعر بأداته تخترق فمى مارة إلى داخل رأسى غير المحصن, أظنها عبرت الأسنان إلى ما فوقها وعبرت ما فوقها إلى ما فوقها حتى وصلت إلى عقلى المتأرجح بين جمجمتى نتيجة الاهتزازات الناتجة عن أداته الراقصة... أشعر أن أداته بدأت تنخر فى عقلى.

 عينى كانت مغلقة وجفونى منكمشة على سطحها, ويبدو أن ثمة علاقة ما بين الفم والعينين, فعندما تفتح فمك لابد وأن تغلق عينيك, والعكس أصح. أفتح فمى لطبيب الأسنان ولكنى أغلق عينى كى لا أرى التخريب الجارى بجسدى, كذلك أفتح فمى وأنا أقبل معشوقتى ولكنى أغلق عينى كى أنفصل عن الواقع وأرتد عنه. ولكنى عندما أغلق فمى, يجب على فتح عينى لأمارس هوايتى فى ملاحظة صغائر الأشياء المتراكمة فى جوانب الصورة لتعيد رسم الصورة كاملة. نور لمبته الطبية الكبيرة الساطع خلف جفونى يؤرق عيونى حتى وإن كانت مغلقة… مازال النخر مستمرا, النخر فى الدماغ , أحداث متلاحقة تعصف برأسى المتهاوى للخلف… أول يوم دخلت مدرستى, وبكائى عندما تركنى والداى, لازلت أذكره كالأمس الماضى, أول نظرة شهوانية, أول إعجاب, أول كلمة حب, أول قبلة, أول لمسة غير بريئة, أول فيلم سينما من إخراج خيرى بشارة  أول عملية أجريت لى وأنا فى الخامسة من عمرى, أول كلمة (أحبك) لم أسمعها ولكنى تنسمتها, أول مرة غرقت فيها ببحر الأسكندرية, أول مرة يسافر أبى ويتركنى مستغربا, أول مرة أرى جسدا أنثويا عاريا, الأول من كل شئ لازلت اذكره وبدأ يطفو على سطح عقلى المكشوف بفعل أداته الحادة المؤلمة …

الألم يعتصرنى, يدى تنقبض على يد الكرسى… الطبيب يكلم مساعدته بصوت هامس, موسيقى تشايكوفسكى بدأت فى الهبوط تدريجيا لأسمع حديثهما اللاتينى الذى لا أفهم منه شيئا, النبرة هادئة والكلمات قليلة. تضع مساعدته شيئا أشبه بمضخة المياه داخل فمى!! ما هذا التخريب الجارى بى ؟؟ المياه تتناثر على وجهى وملابسى على سبيل الخطأ غير المتعمد, يدها تتحسس وجهى, تمسح من فوقه آثار الماء, أفتح عينى, وجهها جميل, مشرق البياض وشعرها أصفر يعكس ضوء اللمبة الطبية السخيفة, عيناها خضراوان. وددت لو أكلمها, بعض الكلمات المعسولة التى لا أجيدها, ولكن (العدة) لا تزال بفمى, نظرت لها مبتسما أو هكذا ظننت, بالتأكيد لم أكن مبتسما, فكيف لى أن أحرك فمى! ولكنها ردت الابتسامة. قطع صوت الأداة – إياها – نقاء اللحظة ليعود الرجل ذو الشارب العريض ويكمل مهمة النخر فى فمى. أغلق عينى من جديد, انتهت موسيقى تشايكوفسكى تماما, لم يعد لها آثر, ولكن بدأت مقطوعة أخرى لرحمنينوف, موسيقى هادئة مؤثرة , تلمس قلبى, بل عقلى… أتذكر أخر لقاء بها, عندما نظرت لى وتجاهلتنى وتحركنا كأننا لا نعرف بعضنا البعض, كأننا لم نعرف بعض لست سنين, أتذكر يوم تعاركنا وصوتها العالى وكلماتها الجارحة, اتذكر يوم وفاة جدى أثناء ركوعه بصلاة الجمعة, كذلك أتذكر يوم وفاة والدتها فى وقفة عرفات, أتذكر يوم وفاة علاء ولى الدين, وأتخيل يوم موتى, كيف سيكون؟؟ موسيقى جنائزية ل(شوبان)  تفرض نفسها على الأجواء, هل حقا سأصبح يوما ما شيخا شعره المتبقى يشتعل شيبا وقدمه لا تحتمل التسكع مابين الحجرات .

نافورة دم تنطلق من فمى, المساعدة الشقراء تمد يدها الرقيقة داخل فمى لتمنع الدم من التناثر داخل أرجائه .

فجأة توقف النخر, وضع الطبيب أشياء كثيرة داخل فمى وادعى أن العمل قد انتهى داخله وأن على الذهاب إلى بيتى البعيد عبر المترو أو الميكروباص, وألا آكل على الناحية اليمنى من فكى لمدة يوم على الأقل وأن أعاوده الزيارة و قتما يعاودنى الألم.

عدت للمنزل, أنتهى اليوم, أكلت على الجانب الأيمن معاندة للطبيب, لم ينتابنى أى ألم بالمرة, فمى فى أفضل حالته, اتصلت بالطبيب

” الألم رجع يا دكتور “

” ميعادك بكرة الساعة سته”

لم يكن انتابنى أى ألم بفمى , فقط كنت أريد من ينخر قليلا داخل عقلى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اللوجة للفنان: عصمت داوستاشى

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون